ثم أمر الله نبيه أن يخبرهم أنهم سيبتلون بالدعوة إلى جهاد قوم أشداء ، يقاتلونهم على الإسلام ، فإذا نجحوا في هذا الابتلاء كان لهم الأجر ، وإن هم ظلوا على معصيتهم وتخلفهم فذلك هو الامتحان الأخير :
( قل للمخلفين من الأعراب : ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد ، تقاتلونهم أو يسلمون ، فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا ، وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما ) .
وتختلف الأقوال كذلك في من هم القوم أولو البأس الشديد . وهل كانوا على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أم على عهود خلفائه . والأقرب أن يكون ذلك في حياة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليمحص الله إيمان هؤلاء الأعراب من حول المدينة .
والمهم أن نلحظ طريقة التربية القرآنية ، وطريقة علاج النفوس والقلوب . بالتوجيهات القرآنية ، والابتلاءات الواقعية . وهذا كله ظاهر في كشف نفوسهم لهم وللمؤمنين ، وفي توجيههم إلى الحقائق والقيم وقواعد السلوك الإيماني القويم .
{ 16-17 } { قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا }
لما ذكر تعالى أن المخلفين من الأعراب يتخلفون عن الجهاد في سبيله ، ويعتذرون بغير عذر ، وأنهم يطلبون الخروج معهم إذا لم يكن شوكة ولا قتال ، بل لمجرد الغنيمة ، قال تعالى ممتحنا لهم : { قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي : سيدعوكم الرسول ومن ناب منابه من الخلفاء الراشدين والأئمة ، وهؤلاء القوم فارس والروم ومن نحا نحوهم وأشبههم . { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } أي : إما هذا وإما هذا ، وهذا هو الأمر الواقع ، فإنهم في حال قتالهم ومقاتلتهم لأولئك الأقوام ، إذ كانت شدتهم وبأسهم معهم ، فإنهم في تلك الحال لا يقبلون أن يبذلوا الجزية ، بل إما أن يدخلوا في الإسلام ، وإما أن يقاتلوا على ما هم عليه ، فلما أثخنهم المسلمون ، وضعفوا وذلوا ، ذهب بأسهم ، فصاروا إما أن يسلموا ، وإما أن يبذلوا الجزية ، { فَإِنْ تُطِيعُوا } الداعي لكم إلى قتال هؤلاء { يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا } وهو الأجر الذي رتبه الله ورسوله على الجهاد في سبيل الله ، { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ } عن قتال من دعاكم الرسول إلى قتاله ، { يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } ودلت هذه الآية على فضيلة الخلفاء الراشدين ، الداعين لجهاد أهل البأس من الناس ، وأنه تجب طاعتهم في ذلك .
ولما كان ذلك يوقع في نفس السامع السؤال عن هذا الطرد : هل يستمر ؟ أجيب بأنهم سيمتحنون بأمر شاق يحدثه الله للتمييز بين {[60326]}الخلص وغيرهم{[60327]} ، فقال مكرراً لوصفهم بالتخلف إعلاماً بأنهم في الحقيقة ما تخلفوا ، بل منعوا طرداً لهم وإبعاداً معذباً لهم بما خلفهم عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العمرة من الخوف من قتال قريش لشدة بأسهم كما أثاب المحبين له صلى الله عليه وسلم بضد ما عزموا عليه من القتال إلى النصر أو الموت من كف أيديهم عنهم{[60328]} بما جعله الله سبباً للفتح الأعظم {[60329]}والتفرغ{[60330]} لفتح خيبر وأخذ غنائمها الكثيرة من غير{[60331]} كبير كلفة { قل } يا أعظم الخلف { للمخلفين } وزاد في ذمهم بنسبتهم إلى الجلافة فقال : { من الأعراب } أي أهل غلظ الأكباد ، ويجوز أن يكون هذا القيد للاحتراز عن المخلفين من أهل المدينة فيكون إشارة إلى أن الأعراب ينقسمون عند هذا الدعاء إلى مطيع وعاص - كما أشار إليه تقسيمه سبحانه لهم - وأن المخلفين من أهل المدينة-{[60332]} لمثل ما اعتل به الأعراب لا مطمع في صلاحهم : { ستدعون } بوعد لا خلف فيه بإخبار{[60333]} محيط العلم والقدرة دعوة محيطة و{[60334]}نفيراً عاماً{[60335]} لما أفهمه الإسناد إلى جميعهم من داع صحت إمامته{[60336]} فوجبت طاعته ، ودل على بعدهم من أرضهم بقوله تعالى : { إلى قوم } .
ولما أفهم التعبير بذلك أن لهم قوة وشدة على ما يحاولونه ، أوضح المعنى بقوله : { أولي بأس{[60337]} } أي شدة في الحرب وشجاعة مع مكر ودهاء { شديد{[60338]} } . ولما كان المعنى كأنه قيل{[60339]} : لماذا ؟ قال تعالى : { تقاتلونهم } أي بأمر إمامكم { أو يسلمون } أي يدعوكم إليهم ليكون أحد الأمرين المظهرين لأن كلمة الله هي العليا : المقاتلة منكم أو الإسلام منهم ، فإن لم يسلموا كان القتال لا غير ، وإن أسلموا لم يكن قتال ، لأن الإمام لا غرض له إلا إعلاء كلمة الله ، ولا يكون شيء غير هذين الأمرين من إبقاء بجزية أو مصالحة أو متاركة إلى مدة ، ونحو ذلك ، وهذا الداعي هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه والقوم بنو حنيفة وغيرهم من أهل الردة الذين كان الدعاء لهم أول خلافة الصديق رضي الله عنه{[60340]} ، وأما قول من قال : إنهم ثقيف ، فضعيف ، لأن الدعاء لم يكن إليهم إنما كان المقصود بالذات فتح مكة ، وكان أمر هوازن وثقيف وغيرهما تبعاً له في غزوته{[60341]} ، لم يكن بينهم شيء ، وأيضاً فإن ثقيف لما عسر أمرهم تركهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى أسلموا بعد ذلك ، وترك أيضاً فلاّل هوازن فلم يتبعهم ولم يؤمر باتباعهم ، فظاهر الآية أنه إذا انتشب القتال لم يترك إلا أن حصل الإسلام ، والقول بأنهم فارس والروم ضعيف أيضاً ، فإن كلاًّ منهم{[60342]} تقبل منه الجزية ، وتأويله بأنه إسلام لغوي لا داع له مع إمكان الحقيقة ، وقد كان ما أشار إليه التقسيم فإنهم لما دعوا إليهم انقسموا-{[60343]} إلى مجيب وهم الأكثر ، وقد آتاهم الله الأجر الحسن في الدنيا بالغنيمة والذكر الجميل وهو المرجو في الآخرة ، {[60344]}ومرتد وهم قليل{[60345]} وقد أذاقهم الله العذاب الأليم في الدنيا بالقتل على أقبح حال ، وهو يذيقهم في الآخرة أعظم النكال ، وأما قتال غير العرب فأطاع فيه الكل ولم يحصل فيه ما أشير إليه من التقسيم ، فتحقق بهذا{[60346]} أنهم أهل الردة - والله الموفق ، ولذلك سبب عن دعوة الحق قوله مردداً القول في حالهم مبهماً له إشارة إلى أنهم عند الدعاء ينقسمون إلى مقبل ومتول : { فإن تطيعوا } أي توقعوا الطاعة للداعي إلى ذلك ، وهو أبو بكر رضي الله عنه { يؤتكم الله } أي الذي له الإحاطة {[60347]}والقدرة على الإعطاء والمنع ، لا راد لأمره{[60348]} { أجراً حسناً } دنيا وأخرى ، جعل الله طاعة أبي بكر رضي الله عنه في هذا الأمر بالخصوص كطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي طاعته طاعة الله ، جزاء له على خصوصه في مزيد تسليمه لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من الصلح وثباته بما أجاب به عمر رضي الله عنهما بمثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يكون حاضراً له كما هو معلوم من السيرة .
ولما كانت مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن يقوم مقامه لا تكون إلا عن منازعة في الفطرة الأولى ومعالجة لها ، عبر بالتفعل{[60349]} فقال : { وإن تتولوا } عن قبول دعوته عصياناً { كما توليتم } أي عالجتم أنفسكم وكلفتموها التولي بالتخلف عن الرسول صلى الله عليه وسلم { من قبل } أي بعض الأزمان التي تقدمت على هذا الدعاء ، {[60350]}وذلك في{[60351]} الحديبية { يعذبكم } أي يخالطكم بعقوبة تزيل العذوبة في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما { عذاباً أليماً * } {[60352]}لأجل تكرر ذلك منكم .
{ قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما }
{ قل للمخلفين من الأعراب } المذكورين اختباراً { ستدعوْن إلى قوم أولي } أصحاب { بأس شديد } قيل هم بنو حنيفة أصحاب اليمامة ، وقيل فارس والروم { تقاتلونهم } حال مقدرة هي المدعو إليها في المعنى { أو } هم { يسلمون } فلا تقاتلون { فإن تطيعوا } إلى قتالهم { يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذّبكم عذاباً أليماً } مؤلماً .
قوله تعالى : { قل للمخلّفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما 16 ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما } .
يبين الله في آياته هذه أن المسلمين مقبلون على قتال المشركين على اختلاف أهوائهم وضلالالتهم ، وأنهم ظاهرون عليهم وعلى الناس جميعا وحينئذ يكون لهم النصر والغلبة . ويأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمخلفين المنافقين : ستدعون لقتال قوم أشداء أولي قوة وبأس . واختلفوا في المراد بهؤلاء القوم فقد قيل : المراد بهم فارس . وقيل : الروم . وقيل : فارس والروم . والأولى بالصواب أنهم المشركون أو المرتدون من نبي حنيفة وهم أهل اليمامة أصحاب مسيلمة . الذين قاتلهم أبو بكر الصديق ( رضي الله عنه ) ، وقد ذكر ذلك عن كثير من المفسرين . فهذا الصنف من الكافرين الذين لا يقبل منهم غير الإسلام أو القتال . وهو قوله : { تقاتلونهم أو يسلمون } أي يكون أحد الأمرين : إما المقاتلة أو الإسلام . ولا ثالث لهذين .
قوله : { فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا } إن تقبلوا مؤمنين صادقين لقتال هؤلاء القوم أولي البأس الشديد وتكونوا في صف المجاهدين غير مجانبين ولا مخلفين { يؤتكم الله أجرا حسنا } يجعل الله لكم في مقابلة ذلك حسن الثواب والجزاء وهي الجنة .
قوله : { وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما } إن أعرضتم عن دعوتنا لكم بالخروج معنا مؤمنين صادقين للقاء المشركين أولي البأس الشديد كما أعرضتم عام الحديبية فسوف يجازيكم الله الجزاء الأليم في الدنيا حيث الخزي لكم والإذلال ، وفي الآخرة يصليكم النار .