في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّا جَعَلۡنَا فِيٓ أَعۡنَٰقِهِمۡ أَغۡلَٰلٗا فَهِيَ إِلَى ٱلۡأَذۡقَانِ فَهُم مُّقۡمَحُونَ} (8)

وهنا يرسم مشهداً حسياً لهذه الحالة النفسية ، يصورهم كأنهم مغلولون ممنوعون قسراً عن النظر ، محال بينهم وبين الهدى والإيمان بالحواجز والسدود ، مغطى على أبصارهم فلا يبصرون :

( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ، فهي إلى الأذقان ، فهم مقمحون .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّا جَعَلۡنَا فِيٓ أَعۡنَٰقِهِمۡ أَغۡلَٰلٗا فَهِيَ إِلَى ٱلۡأَذۡقَانِ فَهُم مُّقۡمَحُونَ} (8)

وذكر الموانع من وصول الإيمان لقلوبهم ، فقال : { إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا } وهي جمع " غل " و " الغل " ما يغل به العنق ، فهو للعنق بمنزلة القيد للرجل ، وهذه الأغلال التي في الأعناق{[750]}  عظيمة قد وصلت إلى أذقانهم ورفعت رءوسهم إلى فوق ، { فَهُمْ مُقْمَحُونَ } أي : رافعو رءوسهم من شدة الغل الذي في أعناقهم ، فلا يستطيعون أن يخفضوها .


[750]:- كذا في ب، وفي أ: الأذقان.
 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{إِنَّا جَعَلۡنَا فِيٓ أَعۡنَٰقِهِمۡ أَغۡلَٰلٗا فَهِيَ إِلَى ٱلۡأَذۡقَانِ فَهُم مُّقۡمَحُونَ} (8)

ثم بين سبب تركهم الإيمان فقال : " إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا " . قيل : نزلت في أبي جهل بن هشام وصاحبيه المخزوميين ؛ وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا يصلي ليرضخن رأسه بحجر . فلما رآه ذهب فرفع حجرا ليرميه ، فلما أومأ إليه رجعت يده إلى عنقه ، والتصق الحجر بيده . قاله ابن عباس وعكرمة وغيرهما . فهو على هذا تمثيل أي هو بمنزلة من علت يده إلى عنقه ، فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم بما رأى ، فقال الرجل الثاني وهو الوليد بن المغيرة : أنا أرضخ رأسه . فأتاه وهو يصلي على حالته ليرميه بالحجر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه ، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقال : والله ما رأيته ولقد سمعت صوته . فقال الثالث : والله لأشدخن أنا رأسه . ثم أخذ الحجر وانطلق فرجع القهقرى ينكص على عقبيه حتى خر على قفاه مغشيا عليه . فقيل له : ما شأنك ؟ قال شأني عظيم رأيت الرجل فلما دنوت منه ، وإذا فحل يخطر بذنبه ما رأيت فحلا قط أعظم منه حال بيني وبينه ، فواللات والعزى لو دنوت منه لأكلني . فأنزل الله تعالى : " إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون " . وقرأ ابن عباس : " إنا جعلنا في أيمانهم " . وقال الزجاج : وقرئ " إنا جعلنا في أيديهم " . قال النحاس : وهذه القراءة تفسير ولا يقرأ بما خالف المصحف . وفي الكلام حذف على قراءة الجماعة . التقدير : إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالا فهي إلى الأذقان ، فهي كناية عن الأيدي لا عن الأعناق ، والعرب تحذف مثل هذا . ونظيره : " سرابيل تقيكم الحر " [ النحل : 81 ] وتقديره وسرابيل تقيكم البرد فحذف ؛ لأن ما وقى من الحر وقى من البرد ؛ لأن الغل إذا كان في العنق فلا بد أن يكون في اليد ، ولا سيما وقد قال الله عز وجل : " فهي إلى الأذقان " فقد علم أنه يراد به الأيدي . " فهم مقمحون " أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق ؛ لأن من علت يده إلى ذقنه ارتفع رأسه . روى عبد الله بن يحيى : أن علي بن أبي طالب عليه السلام أراهم الإقماح ، فجعل يديه تحت لحيته وألصقهما ورفع رأسه . قال النحاس : وهذا أجل ما روي فيه وهو مأخوذ مما حكاه الأصمعي . قال : يقال أقمحت الدابة إذا جذبت لجامها لترفع رأسها . قال النحاس : والقاف مبدلة من الكاف لقربها منها . كما يقال : قهرته وكهرته . قال الأصمعي : يقال أكمحت الدابة إذا جذبت عنانها حتى ينتصب رأسها . ومنه قول الشاعر :

. . . والرأس مُكْمَحُ{[13188]}

ويقال : أكمحتها وأكفحتها وكبحتها . هذه وحدها بلا ألف عن الأصمعي . وقمح البعير قموحا : إذا رفع رأسه عند الحوض وامتنع من الشرب ، فهو بعير قامح وقمح . يقال : شرب فتقمح وانقمح بمعنى إذا رفع رأسه وترك الشرب ريا . وقد قامحت إبلك : إذا وردت ولم تشرب ، ورفعت رأسها من داء يكون بها أو برد . وهي إبل مقامحة ، وبعير مقامح ، وناقة مقامح أيضا ، والجمع قماح على غير قياس . قال بشر يصف سفينة :

ونحن على جوانبها قُعودٌ *** نغُضُّ الطرف كالإبل القِمَاحِ

والإقماح : رفع الرأس وغض البصر . يقال : أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعا من ضيقه . وشهرا قماح : أشد ما يكون من البرد ، وهما الكانونان سميا بذلك ؛ لأن الإبل إذا وردت آذاها برد الماء فقامحت رؤوسها . ومنه قمحت السويق{[13189]} . وقيل : هو مثل ضربه الله تعالى لهم في امتناعكم من الهدى كامتناع المغلول . قال يحيى بن سلام وأبو عبيدة . وكما يقال : فلان حمار . أي لا يبصر الهدى . وكما قال :

لهم عن الرشد أغلالٌ وأقيادُ

وفي الخبر : أن أبا ذؤيب كان يهوى امرأة في الجاهلية ، فلما أسلم راودته فأبى وأنشأ يقول :

فليس كعهد الدار يا أمَّ مالكٍ *** ولكن أحاطت بالرقابِ السلاسلُ

وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل *** سوى العدلِ شيئا فاستراح العواذلُ{[13190]}

أراد منعنا بموانع الإسلام عن تعاطي الزنى والفسق . وقال الفراء أيضا : هذا ضرب مثل ، أي حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله ، وهو كقوله تعالى : " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك " [ الإسراء : 29 ] وقال الضحاك . وقيل : إن هؤلاء صاروا في الاستكبار عن الحق كمن جعل في يده غل فجمعت إلى عنقه ، فبقي رافعا رأسه لا يخفضه ، وغاضا بصره لا يفتحه . والمتكبر يوصف بانتصاب العنق . وقال الأزهري : إن أيديهم لما علت عند أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعدا كالإبل ترفع رؤوسها . وهذا المنع بخلق الكفر في قلوب الكفار ، وعند قوم بسلبهم التوفيق عقوبة لهم على كفرهم . وقيل : الآية إشارة إلى ما يفعل بأقوام غدا في النار من وضع الأغلال في أعناقهم والسلاسل ، كما قال تعالى : " إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل " [ غافر : 71 ] وأخبر عنه بلفظ الماضي . " فهم مقمحون " تقدم تفسيره . قال مجاهد : " مقمحون " مغلون عن كل خير .


[13188]:البيت لذي الرمة وتمامه: تمور بضبعيها وترمي بحوزها *** حذارا من الإيعاد والرأس مكمح.
[13189]:قمح السويق (بكسر الميم) إذا استفه.
[13190]:يقول: رجع الفتى عما كان عليه من فتوته، وصار كأنه كهل، فاستراح العواذل لأنهن لا يجدن ما يعذلن فيه. سوى العدل: أي سوى الحق.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{إِنَّا جَعَلۡنَا فِيٓ أَعۡنَٰقِهِمۡ أَغۡلَٰلٗا فَهِيَ إِلَى ٱلۡأَذۡقَانِ فَهُم مُّقۡمَحُونَ} (8)

ولما كان المعنى أنه لا يتجدد منهم إيمان بعد البيان الواضح والحكمة الباهرة ، وكان ذلك أمراً عجباً ، علله بما يوجبه من تمثيل حالهم تصويراً لعزته سبحانه وباهر عظمته الذي لفت الكلام إليه لإفهامه - وهذا الذي ذكر هو اليوم معنى ومثال وفي الآخرة ذات ظاهر - أنه ما انفك عنهم أصلاً وما زال ، فقال : { إنا جعلنا } أي بما لنا من العظمة ، وأكده لما لهم من التكذيب { في أعناقهم أغلالاً } أي من ظلمات الضلالات كل عنق غل ، وأشار بالظرف إلى أنها من ضيقها لزت اللحم حتى تثنى على الحديد فكاد يغطيه فصار - والعنق فيه - كأنه فيها وهي محيطة به .

ولما كان من المعلوم أن الحديد إذا وضع في العنق أنزله ثقله إلى المنكب ، لم يذكر جهة السفل وذكر جهة العلو فقال : { فهي } أي الأغلال بعرضها واصلة بسبب هذا الجعل { إلى الأذقان } جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين ، فهي لذلك مانعة من مطاطأة الرأس . ولما كان هذا من رفع الرأس فعل المتكبر ، وكان تكبرهم في غير موضعه ، بيّن تعالى أنهم ملجؤون إليه فهو ذل في الباطن وإن كان كبراً في الظاهر فقال : { فهم } أي بسبب هذا الوصول { مقمحون * } من أقمح الرجل - إذا أقمحه غيره أي جعله قامحاً أي رافعاً رأسه غاضاً بصره لا ينظر إلا ببعض بصره هيئة المتكبر ، وأصله من قولهم : قمح البعير - إذا رفع رأسه عند الشرب ولم يشرب الماء ، قال في الجمع بين العباب والمحكم : قال بشر بن أبي حازم يصف سفينة ، قال أبو حيان : ميتة أحدهم ليدفنها :

ونحن على جوانبها قعود *** نغض الطرف كالإبل القماح

وقال الرازي في اللوامع : والمقمح : الذي يضرب رأسه إلى ظهره هيئة البعير ، وقال القزاز : والمقمح : الشاخص بعيينه الرافع رأسه . أبو عمرو : والقامح من الإبل هو الذي لا يشرب وهو عطشان عطشاً شديداً ولا تقبل نفسه الماء ، والقمح مصدر قمحت الشيء والاقتماح : أخذك الشيء في راحتك ثم تقحمه في فيك أي تبتلعه ، والاسم القمحة كاللقمة والأكلة - انتهى . وكأن المقمح من هذا لأن هيئته عند هذا الابتلاع رفع الرأس وغض الطرف أو شخوصه إذا عسر عليه الابتلاع - والله أعلم ، فهذا تمثيل لرفعهم رؤوسهم عن النظر إلى الداعي تكبراً وشماخة بحيث لو أمكنهم أن يسكنوا الجو لم يتأخروا صلافة وتيهاً ، أو لأنهم يتركون هذا الأمر العظيم الحسن الجدير بأن يقبل عليه ويتروى منه وهم في غاية الحاجة إليه ، فهم في ذلك كالبعير القامح ، إنما منعه من الماء مع شدة عطشه مانع عظيم أقمحه ، ولكنه خفي أمره فلم يعلم ما هو ، ولذلك بنى الاسم للمفعول إشارة إلى أنهم مقهورون على تفويت حظهم من هذا الأمر الجليل .