وفي ظل هذين المشهدين يحدثهم عما يصيبهم في هذه الحياة بما كسبت أيديهم . لا كله . فإن الله لا يؤاخذهم بكل ما يكسبون . ولكن يعفو منه عن كثير . ويصور لهم عجزهم ويذكرهم به ، وهم قطاع صغير في عالم الأحياء الكبير :
( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير . وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) .
وفي الآية الأولى يتجلى عدل الله ، وتتجلى رحمته بهذا الإنسان الضعيف . فكل مصيبة تصيبه لها سبب مما كسبت يداه ؛ ولكن الله لا يؤاخذه بكل ما يقترف ؛ وهو يعلم ضعفه وما ركب في فطرته من دوافع تغلبه في أكثر الأحيان ، فيعفو عن كثير ، رحمة منه وسماحة .
30- { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } .
ما أصاب الإنسان في هذه الدنيا من مرض أو حزن أو فقد حبيب ، أو أي نوع من أنواع الألم أو الفقر أو الهزيمة ، فذلك بسبب إهماله لقانون الحياة وسنة الله في الكون ، وقد تكون المصيبة للابتلاء والاختبار ، أو لرفع الدرجات ، وكثير من الذنوب يسترها الله تعالى على العبد ويعفو عنها ، فلا يعاجل صاحبها بالعقوبة .
قال تعالى : { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة . . . } ( فاطر : 45 ) .
وفي الحديث الصحيح : ( والذي نفسي بيده ، ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن إلا كفر الله عنه بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها )13 .
وقد تصيب المصائب الأنبياء والصالحين لرفع درجاتهم ، أو لحكم أخرى يعلمها الله ، وفي الحديث : ( أشدكم بلاء الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل )14 .
وقد أمرنا الدين الإسلامي باحتمال المصائب ، مع الرضا بالقضاء والقدر ، خيره وشره ، حلوه ومره ، وذكر الصبر في القرآن الكريم في أكثر من سبعين موضعا ، كما حث الحديث الشريف المؤمن على الصبر والرضا طمعا في ثواب الله ، ورضا بقضائه وقدره .
قال تعالى : { ولنبْلُونّكُمْ بِشيْءٍ مِن الْخوْفِ والْجُوعِ ونقْصٍ مِن الْأمْوالِ والْأنْفُسِ والثّمراتِ وبشِّرِ الصّابِرِين ( 155 ) الّذِين إِذا أصابتْهُمْ مُصِيبةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وإِنّا إِليْهِ راجِعُون ( 156 ) أُولئِك عليْهِمْ صلواتٌ مِنْ ربِّهِمْ ورحْمةٌ وأُولئِك هُمُ الْمُهْتدُون ( 157 ) } . ( البقرة : 155-157 ) .
وفي الأثر : ( من علامة الإيمان : الشكر على النعماء ، والصبر على البأساء ، والرضا بأسباب القضاء ) كما جاء في الأثر أيضا : ( الإيمان نصفان : نصف صبر ، ونصف شكر ) .
{ ما أصابكم من مصيبة } في مسند الإمام أحمد عن على كرم الله وجهه قال : ألا أخبركم بأفضل آية كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر الآية ثم قال : ( وسأفسرها لك يا علي ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله تعالى أكرم من أن يثنى عليكم العقوبة في الآخرة . وما عفا الله تعالى عنه في الدنيا فإنه سبحانه أحلم من أن يعاقب به بعد عفوه . وقال على : هذه الآية أرجى آية في كتاب الله ، وإذا كان يكفر عنا بالمصائب ويعفو عن كثير ، فأي شيء يبقى بعد كفارته وعفوه ! .
ثم بين الله تعالى للناس أن هذه الحياة فيها دستورٌ ثابت لا يتغير وهو أنه : كل ما يحلّ بكم أيها الناس من المصائب في الدنيا يكون بسبب معاصيكم ، وما اجترمتم من آثام .
ولو نظرنا الآن إلى أحوالنا نحن العربَ والمسلمين وما نحن عليه من ضعف وتأخر وتفكك ، لرأينا أن هذه الآية تنطبق على حالنا ومجتمعاتنا .
فنحن لا ينقصنا مال ولا رجال ، ولا أرض ، وإنما ينقصُنا صدق الإيمان ، واجتماع الكلمة ، والعمل الصحيح لبناء مجتمع سليم ، يجمع الكلمة ويوحّد الصفوف ، ويوفر هذه الأموال الضائعة على شهوات بعض أفراد معدودين من متنفّذي الأمة يبذّرونها على السيارات والقصور والأثاث الفاخر وإشباع الغرائز ، ويكدّسون أموال المسلمين في بنوك الأعداء .
ولو أن زكاة هذه الأموال صرفت على الدفاع عن الوطن ، والاستعداد لمواجهة العدو المتربص بنا لكان فيه الكفاية . إن العمل الصالح والتنظيم والحكم الأمين يدوم ويرفع مستوى الناس حتى يعيشوا في رغد من العيش ، أما الظلم والفساد والطغيان في الحكم واتباع الشهوات فإنه لا يدوم ، ويجعل الناس في قلق وبلبلة وشكّ وضياع كما هو واقع في مجتمعاتنا . . . . وهذا معنى { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } . والله سبحانه وتعالى يرحم من تاب ويعفو عن كثير من الذنوب والأخطاء ، ورحمته واسعة والحمد لله .
قرأ نافع وابن عامر : بما كسبت أيديكم . والباقون : فبما كسبت أيديكم .
ولما ذكرهم سبحانه بنعمه ، وكان السياق لتعداد ما ناسب مقصود هذه السورة منها ، وكان الفكر جديراً بأن يخطر له ما في الدنيا من الأمراض والأنكاد والهموم والفهوم بالإشقاء فيها والإسعاد ، قال شافياً لعي سؤاله عن ذلك ببيان ما فيه من نعمته على وجه دال على تمام قدرته ، عاطفاً على ما هو مضمون ما مضى بما تقديره : فهو الذي خلقكم ورزقكم وهو المتصرف فيكم بعد بثكم بالعافية والبلاء تمام التصرف ، فلا نعمة عندكم ولا نقمة إلا منه ، ولا يقدر أصحابها على ردها ولا رد شيء منها فهو وليكم وحده { وما أصابكم } واجههم بالخطاب زيادة في تقريب الطائع وتبكيت العاصي ، وعم بقوله : { من مصيبة } وأخبر عن المبتدأ بقوله : { فبما } أي كائن بسبب الذي - هذا على قراءة نافع وابن عامر ، وإثبات الفاء في الباقين زيادة في إيضاح السببية فقرأوا " فبما " لتضمن المبتدأ الشرط أي فهو بالذي .
ولما كانت النفوس مطبوعة على النقائض ، فهي لا تنفك عنها إلا بمعونة من الله شديدة ، كان عملها كله أو جله عليها ، فعبر بالفعل المجرد إشارة إلى ذلك فقال : { كسبت } .
ولما كان العمل غالباً باليد قال : { أيديكم } أي من الذنوب ، فكل نكد لاحق إنما هو بسبب ذنب سابق أقله التقصير ، روى ابن ماجة في سننه وابن حبان في صحيحه - والحاكم واللفظ له - وقال : صحيح الإسناد - عن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر ، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه " فالآية داعية لكل أحد إلى المبادرة عند وقوع المصيبة إلى محاسبة النفس ليعرف من أين جاء تقصيره ، فيبادر إلى التوبة عنه والإقبال على الله لينقذ نفسه من الهلكة ، وفائدة ذلك وإن كان الكل بخلقه وإرادته إظهار الخضوع والتذلل واستشعار الحاجة والافتقار إلى الواحد القهار ، ولولا ورود الشريعة لم يوجد سبيل إلى الهدى ، ولا إلى هذه الكمالات البديعية ، ومثل هذه التنبيهات ليستخرج من العبد ما أودع في طبيعته وركز في غريزته كغرس وزرع سبق إليه ماء وشمس لاستخراج ما أودع في طبيعته من المعلومات الإلهية والحكم العلية .
ولما ذكر عدله ، أتبعه فضله فقال : { ويعفو عن كثير * } ولولا عفوه وتجاوزه لما ترك على ظهرها من دابة ويدخل في هذا ما يصيب الصالحين لإنالة درجات وفضائل وخصوصيات لا يصلون إليها إلا بها لأن أعمالهم لم تبلغها فهي خير واصل من الله لهم ، وقيل لأبي سليمان الداراني : ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن أساء إليهم ؟ قال : لأنهم علموا أن الله ابتلاهم بذنوبهم - وقرأ هذه الآية .