في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ} (30)

وفي ظل هذين المشهدين يحدثهم عما يصيبهم في هذه الحياة بما كسبت أيديهم . لا كله . فإن الله لا يؤاخذهم بكل ما يكسبون . ولكن يعفو منه عن كثير . ويصور لهم عجزهم ويذكرهم به ، وهم قطاع صغير في عالم الأحياء الكبير :

( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير . وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) .

وفي الآية الأولى يتجلى عدل الله ، وتتجلى رحمته بهذا الإنسان الضعيف . فكل مصيبة تصيبه لها سبب مما كسبت يداه ؛ ولكن الله لا يؤاخذه بكل ما يقترف ؛ وهو يعلم ضعفه وما ركب في فطرته من دوافع تغلبه في أكثر الأحيان ، فيعفو عن كثير ، رحمة منه وسماحة .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ} (30)

27

المفردات :

مصيبة : بلية وشدة .

التفسير :

30- { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } .

ما أصاب الإنسان في هذه الدنيا من مرض أو حزن أو فقد حبيب ، أو أي نوع من أنواع الألم أو الفقر أو الهزيمة ، فذلك بسبب إهماله لقانون الحياة وسنة الله في الكون ، وقد تكون المصيبة للابتلاء والاختبار ، أو لرفع الدرجات ، وكثير من الذنوب يسترها الله تعالى على العبد ويعفو عنها ، فلا يعاجل صاحبها بالعقوبة .

قال تعالى : { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة . . . } ( فاطر : 45 ) .

وفي الحديث الصحيح : ( والذي نفسي بيده ، ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن إلا كفر الله عنه بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها )13 .

وقد تصيب المصائب الأنبياء والصالحين لرفع درجاتهم ، أو لحكم أخرى يعلمها الله ، وفي الحديث : ( أشدكم بلاء الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل )14 .

وقد أمرنا الدين الإسلامي باحتمال المصائب ، مع الرضا بالقضاء والقدر ، خيره وشره ، حلوه ومره ، وذكر الصبر في القرآن الكريم في أكثر من سبعين موضعا ، كما حث الحديث الشريف المؤمن على الصبر والرضا طمعا في ثواب الله ، ورضا بقضائه وقدره .

قال تعالى : { ولنبْلُونّكُمْ بِشيْءٍ مِن الْخوْفِ والْجُوعِ ونقْصٍ مِن الْأمْوالِ والْأنْفُسِ والثّمراتِ وبشِّرِ الصّابِرِين ( 155 ) الّذِين إِذا أصابتْهُمْ مُصِيبةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وإِنّا إِليْهِ راجِعُون ( 156 ) أُولئِك عليْهِمْ صلواتٌ مِنْ ربِّهِمْ ورحْمةٌ وأُولئِك هُمُ الْمُهْتدُون ( 157 ) } . ( البقرة : 155-157 ) .

وفي الأثر : ( من علامة الإيمان : الشكر على النعماء ، والصبر على البأساء ، والرضا بأسباب القضاء ) كما جاء في الأثر أيضا : ( الإيمان نصفان : نصف صبر ، ونصف شكر ) .

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ} (30)

{ ما أصابكم من مصيبة } في مسند الإمام أحمد عن على كرم الله وجهه قال : ألا أخبركم بأفضل آية كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر الآية ثم قال : ( وسأفسرها لك يا علي ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله تعالى أكرم من أن يثنى عليكم العقوبة في الآخرة . وما عفا الله تعالى عنه في الدنيا فإنه سبحانه أحلم من أن يعاقب به بعد عفوه . وقال على : هذه الآية أرجى آية في كتاب الله ، وإذا كان يكفر عنا بالمصائب ويعفو عن كثير ، فأي شيء يبقى بعد كفارته وعفوه ! .

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ} (30)

{ وما أصابكم من مصيبة } بلية وشدة { فبما كسبت أيديكم } فهي جزاء ما اكتسبتم من الإجرام { ويعفو عن كثير } فلا يجازي عليه

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ} (30)

قوله تعالى : " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " قرأ نافع وابن عامر " بما كسبت " بغير فاء . الباقون " فبما " بالفاء ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم للزيادة في الحرف والأجر . قال المهدوي : إن قدرت أن " ما " الموصولة جاز حذف الفاء وإثباتها ، والإثبات أحسن . وإن قدرتها التي للشرط لم يجز الحذف عند سيبويه ، وأجازه الأخفش واحتج بقوله تعالى : " وإن أطعتموهم إنكم لمشركون " {[13515]} [ الأنعام : 121 ] . والمصيبة هنا الحدود على المعاصي ، قاله الحسن . وقال الضحاك : ما تعلم رجل القرآن ثم نسيه إلا بذنب ، قال الله تعالى : " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " ثم قال : وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن ، ذكره ابن المبارك عن عبد العزيز بن أبي رواد . قال أبو عبيد : إنما هذا على الترك ، فأما الذي هو دائب في تلاوته حريص على حفظه إلا أن النسيان يغلبه فليس من ذلك في شيء . ومما يحقق ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينسى الشيء من القرآن حتى يذكره . من ذلك حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم : سمع قراءة رجل في المسجد فقال : ( ما له رحمه الله ! لقد أذكرني آيات كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا ) . وقيل : " ما " بمعنى الذي ، والمعنى الذي أصابكم فيما مضى بما كسبت أيديكم . وقال علي رضي الله عنه : هذه الآية أرجى آية في كتاب الله عز وجل . وإذا كان يكفر عني بالمصائب ويعفو عن كثير فما يبقى بعد كفارته وعفوه ! وقد روي هذا المعنى مرفوعا عنه رضي الله عنه ، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها النبي صلى الله عليه وسلم : " وما من مصيبة فبما كسبت أيديكم " الآية : ( يا علي ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم . والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعاقب به بعد عفوه ) . وقال الحسن : لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب ولما يعفو الله عنه أكثر ) . وقال الحسن : دخلنا على عمران بن حصين فقال رجل : لا بد أن أسألك عما أرى بك من الوجع ، فقال عمران : يا أخي لا تفعل ! فوالله إني لأحب الوجع ومن أحبه كان أحب الناس إلى الله ، قال الله تعالى : " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبتم أيديكم ويعفو عن كثير " فهذا مما كسبت يدي ، وعفو ربي عما بقي أكثر . وقال مُرَّة الهمذاني : رأيت على ظهر كف شريح قرحة فقلت : يا أبا أمية ، ما هذا ؟ قال : هذا بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير . وقال ابن عون : إن محمد بن سيرين لما ركبه الدين اغتم لذلك فقال : إني لا أعرف هذا الغم ، هذا بذنب أصبته منذ أربعين سنة . وقال أحمد بن أبي الحواري{[13516]} قيل لأبى سليمان الداراني : ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن أساء إليهم ؟ فقال : لأنهم علموا أن الله تعالى إنما ابتلاهم بذنوبهم ، قال الله تعالى : " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير " . وقال عكرمة : ما من نكبة أصابت عبدا فما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفره له إلا بها أو لينال درجة لم يكن يوصله إليها إلا بها . وروي أن رجلا قال لموسى : يا موسى ، سل الله لي حاجة يقضيها لي هو أعلم بها ، ففعل موسى ، فلما نزل إذ هو بالرجل قد مزق السبع لحمه وقتله ، فقال موسى : ما بال هذا يا رب ؟ فقال الله تبارك وتعالى له : ( يا موسى انه سألني درجة علمت أنه لم يبلغها بعمله فأصبته بما ترى لأجعلها وسيلة له في نيل تلك الدرجة ) . فكان أبو سليمان الداراني إذا ذكر هذا الحديث يقول : سبحان من كان قادرا على أن ينيله تلك الدرجة بلا بلوى ! ولكنه يفعل ما يشاء .

قلت : ونظير هذه الآية في المعنى قوله تعالى : " من يعمل سوءا يجز به " [ النساء : 123 ] وقد مضى القول فيه{[13517]} . قال علماؤنا : وهذا في حق المؤمنين ، فأما الكافر فعقوبته مؤخرة إلى الآخرة . وقيل : هذا خطاب للكفار ، وكان إذا أصابهم شر قالوا : هذا بشؤم محمد ، فرد عليهم وقال بل ذلك بشؤم كفركم . والأول أكثر وأظهر وأشهر . وقال ثابت البناني : إنه كان يقال ساعات الأذى يذهبن ساعات الخطايا . ثم فيها قولان : أحدهما : أنها خاصة في البالغين أن تكون عقوبة لهم ، وفي الأطفال أن تكون مثوبة لهم . الثاني : أنها عقوبة عامة للبالغين في أنفسهم والأطفال في غيرهم من والد ووالدة . " ويعفو عن كثير " أي عن كثير من المعاصي ألا يكون عليها حدود ، وهو مقتضى قول الحسن . وقيل : أي يعفو عن كثير من العصاة ألا يعجل عليهم بالعقوبة .


[13515]:آية 121 سورة الأنعام.
[13516]:ضبط كسكارى (بالفتح) أو أحد الحواريين (شرح القاموس).
[13517]:راجع ج 5 ص 396.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ} (30)

ولما ذكرهم سبحانه بنعمه ، وكان السياق لتعداد ما ناسب مقصود هذه السورة منها ، وكان الفكر جديراً بأن يخطر له ما في الدنيا من الأمراض والأنكاد والهموم والفهوم بالإشقاء فيها والإسعاد ، قال شافياً لعي سؤاله عن ذلك ببيان ما فيه من نعمته على وجه دال على تمام قدرته ، عاطفاً على ما هو مضمون ما مضى بما تقديره : فهو الذي خلقكم ورزقكم وهو المتصرف فيكم بعد بثكم بالعافية والبلاء تمام التصرف ، فلا نعمة عندكم ولا نقمة إلا منه ، ولا يقدر أصحابها على ردها ولا رد شيء منها فهو وليكم وحده { وما أصابكم } واجههم بالخطاب زيادة في تقريب الطائع وتبكيت العاصي ، وعم بقوله : { من مصيبة } وأخبر عن المبتدأ بقوله : { فبما } أي كائن بسبب الذي - هذا على قراءة نافع وابن عامر ، وإثبات الفاء في الباقين زيادة في إيضاح السببية فقرأوا " فبما " لتضمن المبتدأ الشرط أي فهو بالذي .

ولما كانت النفوس مطبوعة على النقائض ، فهي لا تنفك عنها إلا بمعونة من الله شديدة ، كان عملها كله أو جله عليها ، فعبر بالفعل المجرد إشارة إلى ذلك فقال : { كسبت } .

ولما كان العمل غالباً باليد قال : { أيديكم } أي من الذنوب ، فكل نكد لاحق إنما هو بسبب ذنب سابق أقله التقصير ، روى ابن ماجة في سننه وابن حبان في صحيحه - والحاكم واللفظ له - وقال : صحيح الإسناد - عن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر ، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه " فالآية داعية لكل أحد إلى المبادرة عند وقوع المصيبة إلى محاسبة النفس ليعرف من أين جاء تقصيره ، فيبادر إلى التوبة عنه والإقبال على الله لينقذ نفسه من الهلكة ، وفائدة ذلك وإن كان الكل بخلقه وإرادته إظهار الخضوع والتذلل واستشعار الحاجة والافتقار إلى الواحد القهار ، ولولا ورود الشريعة لم يوجد سبيل إلى الهدى ، ولا إلى هذه الكمالات البديعية ، ومثل هذه التنبيهات ليستخرج من العبد ما أودع في طبيعته وركز في غريزته كغرس وزرع سبق إليه ماء وشمس لاستخراج ما أودع في طبيعته من المعلومات الإلهية والحكم العلية .

ولما ذكر عدله ، أتبعه فضله فقال : { ويعفو عن كثير * } ولولا عفوه وتجاوزه لما ترك على ظهرها من دابة ويدخل في هذا ما يصيب الصالحين لإنالة درجات وفضائل وخصوصيات لا يصلون إليها إلا بها لأن أعمالهم لم تبلغها فهي خير واصل من الله لهم ، وقيل لأبي سليمان الداراني : ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن أساء إليهم ؟ قال : لأنهم علموا أن الله ابتلاهم بذنوبهم - وقرأ هذه الآية .