ثم يطرق على قلوبهم طرقة أخرى ، وهو يذكرهم بيوم آخر من أيام الله . يوم القيامة . يوم التنادي :
( ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد . يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم . ومن يضلل الله فما له من هاد ) . .
وفي ذلك اليوم ينادي الملائكة الذين يحشرون الناس للموقف . وينادي أصحاب الأعراف على أصحاب الجنة وأصحاب النار . وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار ، وأصحاب النار أصحاب الجنة . . فالتنادي واقع في صور شتى . وتسميته ( يوم التناد )تلقي عليه ظل التصايح وتناوح الأصوات من هنا ومن هناك ، وتصور يوم زحام وخصام .
يوم التناد : يوم القيامة ، ينادي بعضهم بعضا للاستغاثة ، ويكثر فيه نداء أصحاب الجنة ، وأصحاب النار .
32- { ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد } .
إنّي أشفق عليكم من عذاب يوم القيامة ، حين ينادي أهل الجنة أهل النار ، وحين ينادي أهلُ النار أهل الجنة ، وحين ينادي أصحاب الأعراف أهل النار ، كما ورد في الآيات 44 ، 48 ، 50 من سورة الأعراف ، وفي ذلك اليوم تنادي الملائكة أهل السعادة لدخول الجنة ، وعلى أهل الشقاء لدخول النار ، فلفظ التناد بتخفيف الدال ، - وحذف الياء – تفاعل من النداء ، يقال : تنادى القوم ، إذ نادى بعضهم بعضا .
قوله تعالى : " ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد " زاد في الوعظ والتخويف وأفصح عن إيمانه ، إما مستسلما موطنا نفسه على القتل ، أو واثقا بأنهم لا يقصدونه بسوء ، وقد وقاه الله شرهم بقوله الحق " فوقاه الله سيئات ما مكروا " . وقراءة العامة " التناد " بتخفيف الدال وهو يوم القيامة ، قال أمية بن أبي الصلت :
وبثَّ الخلق فيها إذ دحاها *** فهم سُكَّانُهَا حتى التَّنَادِ
سمي بذلك لمناداة الناس بعضهم بعضا ، فينادي أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم ، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار : " أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا " وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة : " أن أفيضوا علينا من الماء " وينادي المنادى أيضا بالشقوة والسعادة : ألا إن فلان بن فلان قد شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدا ، ألا إن فلان بن فلان قد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا . وهذا عند وزن الأعمال . وتنادي الملائكة أصحاب الجنة : " أن تلكمُ الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون " [ الأعراف : 43 ] وينادى حين يذبح الموت : يا أهل الجنة خلود لا موت ويا أهل النار خلود لا موت . وينادي كل قوم بإمامهم إلى غير ذلك من النداء . وقرأ الحسن وابن السميقع ويعقوب وابن كثير ومجاهد : " التناد " بإثبات الياء في الوصل والوقف على الأصل . وقرأ ابن عباس والضحاك وعكرمة " يوم التناد " بتشديد الدال . قال بعض أهل العربية : هذا لحن ؛ لأنه من ند يند إذا مر على وجهه هاربا ، كما قال الشاعر{[13374]} :
وبَرْكٍ هُجُودٍ قد أثارتْ مَخَافَتِي *** نواديَها أسعى بِعَضْبٍ مُجَرَّدِ
قال : فلا معنى لهذا في القيامة . قال أبو جعفر النحاس : وهذا غلط والقراءة بها حسنة على معنى يوم التنافر . قال الضحاك : ذلك إذا سمعوا زفير جهنم ندوا هربا ، فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا وجدوا صفوفا من الملائكة ، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه ، فذلك قوله : " يوم التناد " . وقوله : " يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض " [ الرحمن :33 ] الآية . وقوله : " والملك على أرجائها " [ الحاقة : 17 ] ذكره ابن المبارك بمعناه . قال : وأخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال : حدثنا عبد الجبار بن عبيد الله بن سلمان في قوله تعالى : " إني أخاف عليكم يوم التناد . يوم تولون مدبرين " ثم تستجيب لهم أعينهم بالدمع فيبكون حتى ينفد الدمع ، ثم تستجيب لهم أعينهم بالدم فيبكون حتى ينفد الدم ، ثم تستجيب لهم أعينهم بالقيح . قال : يرسل عليهم من الله أمر فيولون مدبرين ، ثم تستجيب لهم أعينهم بالقيح ، فيبكون حتى ينفد القيح فتغور أعينهم كالخرق في الطين . وقيل : إن هذا يكون عند نفخ إسرافيل عليه السلام في الصور نفخة الفزع . ذكره علي بن معبد والطبري وغيرهما من حديث أبي هريرة ، وفيه فتكون الأرض كالسفينة في البحر تضربها الأمواج فيميد الناس على ظهرها وتذهل المراضع وتضع الحوامل ما في بطونها وتشيب الولدان وتتطاير الشياطين هاربة فتلقاها الملائكة تضرب وجوهها ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا وهي التي يقول الله تعالى : " يوم التناد . يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد " الحديث بكماله . وقد ذكرناه في كتاب التذكرة وتكلمنا عليه هناك . وروي عن علي بن نصر عن أبي عمرو إسكان الدال من " التناد " في الوصل خاصة . وروى أبو معمر عن عبد الوارث زيادة الياء في الوصل خاصة وهو مذهب ورش . والمشهور عن أبي عمرو حذفها في الحالين . وكذلك قرأ سائر السبعة سوى ورش على ما ذكرنا عنه وسوى ابن كثير على ما تقدم . وقيل : سمي يوم القيامة يوم التناد ؛ لأن الكافر ينادي فيه بالويل والثبور والحسرة . قاله ابن جريج . وقيل : فيه إضمار أي إني أخاف عليكم عذاب يوم التناد ، فالله أعلم .
ولما أشرق من آفاق هذا الوعظ شمس البعث ونور الحشر ، لأنه لا يسوغ أصلاً أن ملكاً يدع عبيده يبغي بعضهم على بعض من غير إنصاف بينهم ونحن نرى أكثر الخلق يموت مقهوراً من ظالمه ، ومكسوراً من حاكمه ، فعلم قطعاً أن الموت الذي لم يقدر ولا يقدر أحد أصلاً أن يسلم منه إنما هو سوق إلى دار العرض وساحة الجزاء للقرض - كما جرت به عادة الملوك إذا وكلوا بمن يأمرون باحضاره إليهم لعرضه عليهم ليظهر التجلي في صفات الجبروت والعدل ، ومظاهر الكرم والفضل قال : { ويا قوم } ولما كانوا منكرين للبعث أكد فقال : { إني أخاف } وعبر بأداة الاستعلاء زيادة في التخويف فقال : { عليكم } ولما كان قد سماه فيما مضى بالتلاقي والآزفة لما ذكر ، عرف هنا أن الخلق فيه وجلون خائفون وأنهم لكثرة الجمع ينادُون وينادَون للرفعة أو الضعة وغير ذلك من الأمور المتنوعة التي مجموعها يدل على ظهور الجبروت وذل الخلق لما يظهر لهم من الكبرياء والعظموت فقال : { يوم التناد * } أي أهواله وما يقع فيه ، فينادي الجبار سبحانه بقوله { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدو الشيطان } وينادونه " بلى يا ربنا " وتنادي الملائكة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب " يا فلان ابن فلان أقبل لفصل النزاع " وينادي ذلك العبد " ألا سمعاً وطاعة " وينادي الفائز " ألا نعم أجر العاملين " وينادي الخائب " ألا بئس منقلب الظالمين " وينادي بالشقاوة والسعادة ألا إن فلان قد سعد ، ألا إن فلانا قد شقي ، وينادي أصحاب الأعراف ، وأهل الجنة أهل النار ، وأهل النار أهل الجنة ، وينادي الكل حين يذبح الموت ، ويدعى كل أناس بإمامهم ، وتتنادى الملائكة وقد أحاطوا بالثقلين صفوفاً مترتبة ترتب السماوات التي كانوا بها بالتسبيح والتقديس ، وترتفع الأصوات بالضجيج ، بعضهم بالسرور وبعضهم بالويل والثبور ، وتنادي ألسن النيران : أي الجبارون أين المتكبرون ، وتنادي الجنة ، أين المشمرون في مرضاة الله والصابرون ، فيا له يوماً يذل فيه العصاة العتاة ، ويعز المنكسرة قلوبهم من أجل الله ، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما في آخرين بتشديد الدال من التناد على أنه مصدر تنادّ من ند البعير - إذا هرب ونفر ، وهو كقوله يوم
( يفر المرء من أخيه }[ عبس : 34 ] وتقدم في حذف ياء التلاق وإثباتها ما يمكن الفطن تنزيله هنا .