وبعد عرض هاتين الصورتين يتجه إلى الذين آمنوا يناديهم ليتقوا ويحسنوا ؛ ويتخذوا من حياتهم القصيرة على هذه الأرض وسيلة للكسب الطويل في الحياة الآخرة :
( قل : يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم . للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة . وأرض الله واسعة . إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) . .
وفي التعبير : ( قل : يا عباد الذين آمنوا )التفاتة خاصة . فهو في الأصل : قل لعبادي الذين آمنوا . . قل لهم : اتقوا ربكم . ولكنه جعله يناديهم ، لأن في النداء إعلاناً وتنبيهاً . والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لا يقول لهم : ( يا عبادي )فهم عباد الله . فهناك هذه الالتفاتة في أثناء تكليفه بتبليغهم أن يناديهم باسم الله . فالنداء في حقيقته من الله . وما محمد [ صلى الله عليه وسلم ] إلا مبلغ عنه للنداء .
( قل : يا عباد الذين آمنوا . اتقوا ربكم ) . .
والتقوى هي تلك الحساسية في القلب ، والتطلع إلى الله في حذر وخشية ، وفي رجاء وطمع ، ومراقبة غضبه ورضاه في توفز وإرهاف . . إنها تلك الصورة الوضيئة المشرقة ، التي رسمتها الآية السابقة لذلك الصنف الخاشع القانت من عباد الله .
( للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ) . .
وما أجزل الجزاء ! حسنة في الدنيا القصيرة الأيام الهزيلة المقام . تقابلها حسنة في الآخرة دار البقاء والدوام . ولكنه فضل الله على هذا الإنسان . الذي يعرف منه ضعفه وعجزه وضآلة جهده . فيكرمه ويرعاه !
فلا يقعد بكم حب الأرض ، وإلف المكان ، وأواصر النسب والقربى والصحبة في دار عن الهجرة منها ، إذا ضاقت بكم في دينكم ، وأعجزكم فيها الإحسان . فإن الالتصاق بالأرض في هذه الحالة مدخل من مداخل الشيطان ؛ ولون من اتخاذ الأنداد لله في قلب الإنسان .
وهي لفتة قرآنية لطيفة إلى مداخل الشرك الخفية في القلب البشري ، في معرض الحديث عن توحيد الله وتقواه ، تنبئ عن مصدر هذا القرآن . فما يعالج القلب البشري هذا العلاج إلا خالقه البصير به ، العليم بخفاياه .
والله خالق الناس يعلم أن الهجرة من الأرض عسيرة على النفس ، وأن التجرد من تلك الوشائج أمر شاق ، وأن ترك مألوف الحياة ووسائل الرزق واستقبال الحياة في أرض جديدة تكليف صعب على بني الإنسان : ومن ثم يشير في هذا الموضع إلى الصبر وجزائه المطلق عند الله بلا حساب :
( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) . .
فيأخذ قلوبهم بهذه اللمسة في موضعها المناسب ، ويعالج ما يشق على تلك القلوب الضعيفة العلاج الشافي ، وينسم عليها في موقف الشدة نسمة القرب والرحمة . ويفتح لها أبواب العوض عن الوطن والأرض والأهل والإلف عطاء من عنده بغير حساب . . فسبحان العليم بهذه القلوب ، الخبير بمداخلها ومساربها ، المطلع فيها على خفي الدبيب .
وأرض الله واسعة : فهاجروا فيها ، ولا تقيموا مع من يقترف المعاصي .
10- { قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجورهم بغير حساب } .
يا من آمنتم بالله ربّا ، ضمّوا إلى الإيمان بالله تعالى ، التقوى ومخافة الله ومراقبته .
والتقوى هي الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والاستعداد ليوم الرحيل .
وقيل : هي ألا يراك حيث نهاك ، ولا يفقدك حيث أمرك .
وقيل : هي ذوبان الحشا لما سبق من الخطأ .
وقيل : هي الاجتهاد في عمل الطاعات ، والابتعاد عن اقتراف المعاصي .
{ للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة . . . }
للذين أحسنوا عملهم ، وراقبوا ربّهم حسنة في الدنيا ، من رضوان الله وتوفيقه ورزقه وعنايته ، أو لمن أحسن في هذه الدنيا حسنة في الآخرة ، ويمكن أن يراد الاثنان معا ، أي : للمؤمنين المحسنين حسنة في الدنيا وحسنة في الآخرة .
أي : فهاجروا من دار الكفر إلى دار الإيمان ، ولا تقيموا في أرض لا تتمكنون فيها من إقامة شعائر الله .
قال المفسرون : نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه ، حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة ، والغرض منها التأنيس لهم والتنشيط إلى الهجرة {[587]} .
{ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } .
يكافأ الصابرون الذين صبروا على هجرة الأهل والوطن ، مكافأة لا يهتدي إليها حساب الحُسّاب ، أي بغير تقدير ، أي : حين يكافأ أهل الطاعات كالصلاة والصيام والزكاة والحج ، والجهاد وصلة الرحم وإكرام الجار والعطف على المساكين ، يكافأ هؤلاء على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، فإن أهل البلايا والصبر على البأساء يلقون جزاءهم بدون حصر وبدون عدد .
قال الأوزاعي : ليس يوزن لهم ولا يكال ، إنما يغرف غرفّا .
وقال ابن جريح : بلغني أنهم لا يحسب عليهم ثواب عملهم قطّ ، ولكن يزادون على ذلك .
لقد كان القرآن يأخذ بيد المؤمنين ، فيحثهم على الثبات والصبر ، والمجاهدة في تحمل مشاق الهجرة ومتاعبها ، واحتمال البلايا في طاعة الله ، وكان الرسول الأمين وصحابته الأبرار قدوة عملية في الثبات والتضحية .
وفي الحديث الشريف : " تنصب الموازين لأهل الصلاة والصدقة والحج فيؤتون بها أجورهم ، ولا تنصب لأل البلايا ، بل يصب عليهم الأجر صبّا ، حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض ، مما يذهب به أهل البلاء من الفضل
قوله تعالى : " قل ياعباد الذين آمنوا " أي قل يا محمد لعبادي المؤمنين " اتقوا ربكم " أي اتقوا معاصيه والتاء مبدلة من واو وقد تقدم . وقال ابن عباس : يريد جعفر بن أبي طالب والذين خرجوا معه إلى الحبشة . ثم قال : " للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة " يعني بالحسنة الأولى الطاعة وبالثانية الثواب في الجنة . وقيل : المعنى للذين أحسنوا في الدنيا حسنة في الدنيا ، يكون ذلك زيادة على ثواب الآخرة ، والحسنة الزائدة في الدنيا الصحة والعافية والظفر والغنيمة . قال القشيري : والأول أصح ؛ لأن الكافر قد نال نعم الدنيا .
قلت : وينالها معه المؤمن ويزاد الجنة إذا شكر تلك النعم . وقد تكون الحسنة في الدنيا الثناء الحسن ، وفي الآخرة الجزاء .
قوله تعالى : " وأرض الله واسعة " فهاجروا فيها ولا تقيموا مع من يعمل بالمعاصي . وقد مضى القول في هذا مستوفى في " النساء " وقيل : المراد أرض الجنة ، رغبهم في سعتها وسعة نعيمها ، كما قال : " عرضها السماوات والأرض " [ آل عمران : 133 ] والجنة قد تسمى أرضا ، قال الله تعالى : " وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء " [ الزمر : 74 ] والأول أظهر فهو أمر بالهجرة . أي ارحلوا من مكة إلى حيث تأمنوا . الماوردي : يحتمل أن يريد بسعة الأرض سعة الرزق ؛ لأنه يرزقهم من الأرض فيكون معناه ورزق الله واسع وهو أشبه ؛ لأنه أخرج سعتها مخرج الامتنان .
قلت : فتكون الآية دليلا على الانتقال من الأرض الغالية ، إلى الأرض الراخية ، كما قال سفيان الثوري : كن في موضع تملأ فيه جرابك خبزا بدرهم .
قوله تعالى : " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " أي بغير تقدير . وقيل : يزاد على الثواب ؛ لأنه لو أعطي بقدر ما عمل لكان بحساب . وقيل : " بغير حساب " أي بغير متابعة ولا مطالبة كما تقع المطالبة بنعيم الدنيا . و " الصابرون " هنا الصائمون ، دليله قوله عليه الصلاة والسلام مخبرا عن الله عز وجل : ( الصوم لي وأنا أجزي به " قال أهل العلم : كل أجر يكال كيلا ويوزن وزنا إلا الصوم فإنه يحثى حثوا ويغرف غرفا ، وحكي عن علي رضي الله عنه . وقال مالك بن أنس في قوله : " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " قال : هو الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها . ولا شك أن كل من سلم فيما أصابه ، وترك ما نهي عنه ، فلا مقدار لأجرهم . وقال قتادة : لا والله ما هناك مكيال ولا ميزان ، حدثني أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( تنصب الموازين فيؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين ، وكذلك الصلاة والحج ، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر بغير حساب قال الله تعالى : " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل ) . وعن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أد الفرائض تكن من أعبد الناس وعليك بالقنوع تكن من أغنى الناس ، يا بني إن في الجنة شجرة يقال لها شجرة البلوى يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان يصب عليهم الأجر صبا ) ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " . ولفظ صابر يمدح به وإنما هو لمن صبر عن المعاصي ، وإذا أردت أنه صبر على المصيبة قلت صابر على كذا . قاله النحاس . وقد مضى في " البقرة " مستوفى .