هذه صلة . صلة الوسوسة والإغراء . وهناك صلة . صلة النصح والولاء . إنهم المؤمنون . الذين قالوا : ربنا الله ، ثم استقاموا على الطريق إليه بالإيمان والعمل الصالح . إن الله لا يقيض لهؤلاء قرناء سوء من الجن والإنس ؛ إنما يكلف بهم ملائكة يفيضون على قلوبهم الأمن والطمأنينة ، ويبشرونهم بالجنة ، ويتولونهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة :
( إن الذين قالوا : ربنا الله . ثم استقاموا . تتنزل عليهم الملائكة : ألا تخافوا ولا تحزنوا ، وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون . نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة . ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون . نزلا من غفور رحيم ) .
والاستقامة على قولة : ( ربنا الله ) . الاستقامة عليها بحقها وحقيقتها . الاستقامة عليها شعوراً في الضمير ، وسلوكاً في الحياة . الاستقامة عليها والصبر على تكاليفها . أمر ولا شك كبير . وعسير . ومن ثم يستحق عند الله هذا الإنعام الكبير . صحبة الملائكة ، وولاءهم ، ومودتهم . هذه التي تبدو فيما حكاه الله عنهم . وهم يقولون لأوليائهم المؤمنين : لا تخافوا . لا تحزنوا . أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون .
ما وعد الله به أهل الاستقامة والحكمة
{ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون 30 نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون 31 نزلا من غفور رحيم 32 ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين 33 ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم 34 وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم 35 وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم 36 }
استقاموا : ثبتوا على الإيمان والصراط المستقيم .
تتنزل عليهم الملائكة : بالبشارة والإلهام في حياتهم ، وعند موتهم وبعثهم بما يسرّهم .
30-{ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } .
تصف الآيات منزلة المؤمنين الذين أعلنوا إيمانهم بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيّا ورسولا ، واستقاموا على ذلك فلم يروغوا روغان الثعالب ، بل ثبتوا على الإيمان وعملوا بمقتضاه .
قال رجل : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولا ، وأقلل فيه لعلي أعيه ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : " قل أمنت بالله ثم استقم " فقال الرجل : يا رسول الله ، ما أكثر ما تخاف عليّ ؟ فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه ثم قال : " هذا " أي : أخاف عليك لسانك {[648]} . ( رواه الإمام أحمد ، ومسلم في صحيحه ، والنسائي ) .
فالمؤمن المستقيم على فعل الصالحات وترك المعاصي ، الثابت على الخير ، البعيد عن الشر ، الذي وطن نفسه على الهوى ، وفطمها عن الردى ، تنزل عليه الملائكة في الدنيا – وإن لم يرها- تشرح صدره ، وتيسّر أمره ، وتمنحه المعونة والهدى والتوفيق ، وتنزل عليه عند الموت تبشّره برضوان الله ، وتنزل عليه في القبر تؤنسه وتبشره بمنزلته في الجنة ، وتنزل عليه عند البعث حيث ينزل عليه الملكان اللذان كانا يكتبان عليه الحسنات والسيئات ليصحباه إلى عرصات القيامة ، ونعيم الجنة ، ولا يمرّ المؤمن المستقيم بأي كرب من كروب الآخرة إلا بشّرته بما أُعدّ له ، ويسرت له الحفظ من كل كرب ، وبشرته بالجنة التي كان يوعد بها في الدنيا على ألسنة الرسل .
استقاموا : ثبتوا على الإيمان والعمل الصالح .
هذه الآية الكريمة والتي بعدها دستورٌ عظيم في الأخلاق ، وحسن المعاشرة ، وكيفية الدعوة إلى الله والتحلّي بالصبر والأناة ، ولو أننا اتبعناها حقا ، ولو أن وعّاظنا وأئمة مساجدنا تحلَّوا بها وساروا على هديها - لنفع الله بهم الناس ، وهدى الكثيرَ الكثير منهم على أيديهم ، ولاستقامت الأمور ، وارتقت أحوالنا ، هدانا الله إلى التحلّي بكل مكرمة .
إن الذين قالوا ربنا الله اعترافاً بربوبيته وإقراراً بوحدانيته ، ثم استقاموا في أعمالهم - أولئك تحفّهم الملائكة ، وتبشّرهم بالفلاح والفوز بالجنة التي وعدَهم بها الله ،
{ 30 - 32 } { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ }
يخبر تعالى عن أوليائه ، وفي ضمن ذلك ، تنشيطهم ، والحث على الاقتداء بهم ، فقال : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } أي : اعترفوا ونطقوا ورضوا بربوبية الله تعالى ، واستسلموا لأمره ، ثم استقاموا على الصراط المستقيم ، علمًا وعملاً ، فلهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة .
{ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ } الكرام ، أي : يتكرر نزولهم عليهم ، مبشرين لهم عند الاحتضار . { أَلَّا تَخَافُوا } على ما يستقبل من أمركم ، { وَلَا تَحْزَنُوا } على ما مضى ، فنفوا عنهم المكروه الماضي والمستقبل ، { وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } فإنها قد وجبت لكم وثبتت ، وكان وعد الله مفعولاً .
قوله تعالى :{ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن الاستقامة فقال : أن لا تشرك بالله شيئاً . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الاستقامة : أن تستقيم على الأمر والنهي ، ولا ترغ روغان الثعلب . وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه : أخلصوا العمل لله . وقال علي رضي الله عنه : أدوا الفرائض . وقال ابن عباس : استقاموا على أداء الفرائض . وقال الحسن : استقاموا على أمر الله تعالى ، فعملوا بطاعته ، واجتنبوا معصيته . وقال مجاهد و عكرمة : استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله . وقال مقاتل : استقاموا على المعرفة ولم يرتدوا . وقال قتادة : كان الحسن إذا تلا هذه الآية قال : اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة . قوله عز وجل : { تتنزل عليهم الملائكة } قال ابن عباس : عند الموت . وقال قتادة ومقاتل : إذا قاموا من قبورهم . قال وكيع بن الجراح : البشرى تكون في ثلاث مواطن : عند الموت وفي القبر وعند البعث . { أن لا تخافوا } من الموت . وقال مجاهد : لا تخافوا على ما تقدمون عليه من أمر الآخرة . { ولا تحزنوا } على ما خلفتم من أهل وولد ، فإنا نخلفكم في ذلك كله . وقال عطاء بن أبي رباح : لا تخافوا ولا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم . { وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } .
{ ثم استقاموا } قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه " استقاموا على قولهم : ربنا الله ، فصح إيمانهم ودام توحيدهم " . وقال عمر بن الخطاب : المعنى : " استقاموا على الطاعة وترك المعاصي " وقول عمر أكمل وأحوط وقول أبي بكر أرجح لما روى أنس أن رسول صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال : قد قالها قوم ثم كفروا فمن مات عليها فهو ممن استقام ، وقال بعض الصوفية : معنى : استقاموا أعرضوا عما سوى الله وهذه حالة الكمال على أن اللفظ لا يقتضيه .
ولما ذكر الأعداء وقرناءهم نذارة ، أتبعه ذكر الأولياء وأوداءهم بشارة ، فقال مبيناً لحالهم القابل للإعراض وثمراته جواباً لمن يسأل عنهم مؤكداً لأجل إنكار المعاندين : { إن الذين } قال أبو حيان : قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في الصديق رضي الله عنه وأرضاه . { قالوا } أي قولاً حقيقياً مذعنين به بالجنان وناطقين باللسان تصديقاً لداعي الله في دار الدنيا متذللين حيث ينفع الذل جامعين بين الأسّ الذي هو المعرفة والاعتقاد ، والبناء الذي هو العمل الصالح بالقول والفعل على السداد ، فإن أصل الكمالات النفسانية يقين مصلح وعمل صالح ، تعرف الحق لذاته والخير لتعمل له ورأس المعارف اليقينية ورئيسها معرفة الله ، ورأس الأعمال الصالحة الاستقامة على حد الاعتدال من غير ميل إلى طرف إفراط أو تفريط : { ربنا } أي المحسن إلينا { الله } المختص بالجلال والإكرام وحده لا شريك له .
ولما كان الثبات على التوحيد ومصححاته إلى الممات أمراً في علو رتبته لا يرام إلا بتوفيق ذي الجلال والإكرام ، أشار إليه بأداة التراخي فقال : { ثم استقاموا } طلبوا وأوجدوا القوام بالإيمان بجميع الرسل وجميع الكتب ولم يشركوا به صنماً ولا ثناً ولا آدمياً ولا ملكاً ولا كوكباً ولا غيره بعبادة ولا رياء ، وعملوا بما يرضيه وتجنبوا كل ما يسخطه وإن طال الزمان ، امتثالاً لما أمر به أول السورة في قوله { إنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه } فمن كان له أصل الاستقامة في التوحيد أمن من النار بالخلود ، ومن كان له كمال الاستقامة في الأصول والفروع أمن الوعيد { تتنزل } على سبيل التدريج المتصل { عليهم } من حين نفخ الروح فيهم إلى أن يموتوا ثم إلى أن يدخلوا الجنة باطناً فظاهراً { الملائكة } بالتأييد في جميع ما ينوبهم فتستعلي الأحوال الملكية على صفاتهم البشرية وشهواتهم الحيوانية فتضمحل عندها ، وتشرق مرائيهم ، ثم شرح ما يؤيدونهم به وفسره فقال : { ألا تخافوا } أي من شي مثله يخيف ، وكأنهم يثبتون ذلك في قلوبهم { ولا تحزنوا } أي على شيء فاتكم ، فإن ما حصل لكم أفضل منه ، فأوقاتكم الأخراوية فيها بل هي كلها روح وراحة ، فلا يفوتهم لذلك محبوب ولا يلحقهم مكروه { وابشروا } أي املأوا صدوركم سروراً يظهر أثره على بشرتكم بتهلل الوجه ونعمة سائر الجسد { بالجنة التي كنتم } أي كوناً عظيماً على ألسنة الرسل { توعدون * } أي يتجدد لكم ذلك كل حين بالكتب والرسل ، وقال الرازي في اللوامع : يبشرون في ثلاثة مواضع : عند الموت ، وفي القبر ، ويوم البعث - انتهى . وهذا محول على الكلام الحقيقي وما قبله على أنهم يفعلون معه ما ترجمته ذلك .