لطائف الإشارات للقشيري - القشيري  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَبۡشِرُواْ بِٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ} (30)

قوله جل ذكره : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } .

" ثم " استقاموا : ثم حرف يقتضي التراخي ، فهو لا يدل على أنهم في الحال لا يكونون مستقيمين ، ولكنه معناه استقاموا في الحال ، ثم استقاموا في المآل بأن استداموا إيمانَهم إلى وقت خروجهم من الدنيا ، وهو آخرُ أحوالِ كونِهم مُكَلَّفين .

ويقال : قالوا بشرط الاستجابة أولاً ، ثم استبصروا بموجب الحجة ، ولم يثبتوا على وصف التقليد ، ولم يكتفوا بالقالة دون صفاء الحالة .

" استقاموا " : الاستقامة هي الثباتُ على شرائط الإيمان بجملتها من غير إخلالٍ بشيءٍ من أقسامها . ويقال : هم على قسمين :

مستقيم ( في أصول ) التوحيد والمعرفة . . وهذه صفة جميع المؤمنين .

ومستقيم في الفروع من غير عصيان . . وهؤلاء مختلفون ؛ فمنهم . . ومنهم ، ومنهم .

{ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ } : الذي لهم البشارة هم كل من استقام في التوحيد ، ولم يشرك . فله الأمان من الخلود . ويقال : مَنْ كان له أصل الاستقامة أَمِنَ من الخلود في النار ، ومن كمال الاستقامة أَمِنَ من الوعيد من غير أن يلحقه سوءٌ بحالٍ . . ثم الاستقامة لهم على حسب أحوالهم ؛ فمستقيمٌ في عهده ، ومستقيم في عقده ، ومستقيم في جهده ومراعاة حدِّه ، ومستقيم في عقده وجهده وحدِّه وحبِّه . وودِّه . . وهذا أتمُّهم .

ويقال : استقاموا على دوام الشهود وعلى انفراد القلب بالله .

ويقال : استقاموا في تصفية العقد ثم في توفية العهد ثم صحة القصد بدوام الوجد .

ويقال : استقاموا بأقوالهم ثم بأعمالهم ، ثم بصفاء أحوالهم في وقتهم وفي مآلهم .

ويقال : أقاموا على طاعته ، واستقاموا في معرفته ، وهاموا في محبته ، وقاموا بشرائط خدمته .

ويقال : استقامةٌ الزاهدِ ألا يرجعَ إلى الدنيا ، وألا يمنعَه الجاهُ بين الناس عن الله . واستقامةُ العارفِ ألا يشوبَ معرفتَه حظٌّ في الداريْن فيحجبه عن مولاه . واستقامةُ العابدَ ألا يعودَ إلى فترته واتباع شهوته ، ولا يتداخله رياءٌ وتصنُّع واستقامة المُحِبِّ ألا يكون له أرَبٌ من محبوبه ، بل يكتفي من عطائه ببقائه ، ومن مقتضى جوده بدوام عِزِّه ووجوده .

{ أَلاَ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُواْ } : إنما يكون الخوف في المستقل من الوقت ، ومن حلولِ مكروهِ أو فوات محبوبٍ فالملائكةُ يبشرونهم بأن كل مطلوبٍ لهم سيكون ، وكل محذورٍ لهم لا يكون .

والحزن من حُزُونه الوقت ، ومن كان راضياً بما يجري فلا حزنَ له في عيشه . والملائكة يبشرونهم بأنهم لا حزنه في أحوالهم ، وإنما هم الرَّوْح والراحة .

{ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ } : أي بحسن المآب ، وبما وَعَدَ اللَّهُ من جميل الثواب .

والذي هو موعودٌ للأولياء بسفارة الملَكِ موجودٌ اليومَ لخواصٌ عباده بعطاء المَلِكِ ؛ فلا يكون لأحدهم مطالعةٌ في المستقبل من حاله بل يكون بحكم الوقت ؛ فلا يكون له خوفٌ ؛ لأن الخوف -كما قلنا من قبل- ينشأ من تطلع إلى المستقبل إمَّا من زوالِ محبوبٍ أو حصولِ مكروه ، وإن الذي بصفة الرضا لا حزونة في حاله ووقته .

ويمكن القول : { لا تخافوا } من العذاب ، { ولا تحزنوا } على ما خلفتم من الأسباب ، { وأبشروا } بحسن الثواب في المآب .

ويقال : { لا تخافوا } من عزل الولاية ، { ولا تحزنوا } على ما أسلفتم من الجناية ، " وأبشروا " بحسن العناية في البداية .

ويقال : { لا تخافوا } مما أسلفتم ، { ولا تحزنوا } على ما خلفتم ، { وأبشروا } بالجنة التي لها تكلفتم .

ويقال : { لا تخافوا } المذلَّة ، { ولا تحزنوا } على ما أسلفتم من الزلَّة ، { وأبشروا } بدوام الوصلة .