وقوله تعالى : { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ } قال سفيان بن عبد اللَّه الثَّقَفِيُّ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَخْبِرْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ ، قَالَ : «قُلْ : رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ استقم » .
( ت ) : هذا الحديث خَرَّجه مسلم في «صحيحه » ، قال صاحب «المُفْهِمِ » : جوابه صلى الله عليه وسلم من جوامع الكَلِم ، وكأَنَّهُ مُنْتَزَعٌ من قول اللَّه تعالى : { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } الآية ، وتلخيصه : اعْتَدَلُوا على طاعته قولاً وفعلاً وعقداً ، انتهى من «شرح الأربعين حديثاً » لاِبْنِ الفَاكِهَانِيِّ .
قال ( ع ) : واخْتَلَفَ النَّاسُ في مقتضى قوله : { ثُمَّ استقاموا } فذهب الحَسَنُ وجماعةٌ إلى أَنَّ معناه : استقاموا بالطاعاتِ واجتناب المعاصِي ، وتلا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هذه الآيةُ على المِنْبَرِ ، ثم قال : استقاموا واللَّهِ بطاعتهِ ، ولم يروغوا روِغانَ الثَّعَالِبِ ، قال ( ع ) : فذهب رحمه اللَّه إلى حَمْلِ الناس على الأَتَمِّ الأفْضَلِ ، وإلاَّ فيلزم على هذا التأويل من دليل الخطاب أَلاَّ تتنزل الملائكةُ عِنْدَ الموت على غير مستقيمٍ على الطاعَةِ ، وذهب أبو بكْرٍ رضي اللَّه عنه وجماعةٌ معه إلى أَنَّ المعنى : ثم : استقاموا على قولهم : رَبُّنَا اللَّهُ ، فلم يختلَّ توحيدُهُمْ ، ولا اضطرب إيمانهم .
قال ( ع ) : وفي الحديث الصحيح : " مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّه ، دَخَلَ الجَنَّةَ " وهذا هو الْمُعْتَقَدُ إن شاء اللَّه ، وذلك أَنَّ العصاة من أُمَّةِ محمَّد وغيرها فرقتان : فأَمَّا مَنْ غفر اللَّه له ، وترك تعذيبه ، فلا محالة أَنَّه مِمَّن تتنزَّل عليهم الملائكة بالبشارة ، وهو إنَّما استقام على توحيده فَقَطْ ، وأَمَّا مَنْ قَضَى اللَّهُ بِتَعْذِيبِهِ مُدَّةً ، ثم يأمر بإدخاله الجَنَّةَ ، فلا محالة أَنَّه يلقى جميعَ ذلك عند مَوْتِهِ وَيَعْلَمُهُ ، وليس يَصِحُّ أنْ تكون حاله كحالة الكافر واليائِسِ مِنْ رحمة اللَّه ، وإذا كان هذا فقَدْ حَصَلَتْ له بشارة بأَلاَّ يخافَ الخُلُودَ ، ولا يحزنَ منه ، ويدخلَ فيمن يقال لهم : { وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } ومع هذا كله فلا يختلف في أَنَّ المُوَحِّدَ المستقيمَ عَلَى الطَّاعَةِ أَتَمُّ حالاً وأَكمل بشارةً ، وهو مقصد أمير المؤمنين عمر رضي اللَّه عنه ، وبالجملة ، فكُلَّما كان المرءُ أشَدَّ استعدادا ، كان أسْرَعَ فوزاً بفَضْلِ اللَّه تعالى ؛ قال الثعلبيُّ : قوله تعالى : { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة } أي : عند الموت { أن أَلاَّ تَخَافُواْ } ما أمامكم { وَلاَ تَحْزَنُواْ } على ما خلفتم من ضيعاتكم { وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كنتم توعدون } قال يبشر بثلاث بشارات عند الموت ، وإذا خرج من القبر ، وإذا فزع ، { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الحياة الدنيا } قال : كانوا معهم ، قال ابن المبارك : وأخبرنا رَجُلٌ عن منصورٍ ، عن مجاهدٍ في قوله تعالى : { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الحياة الدنيا } قال : قُرَنَاؤُهُمْ يلقونهم يوم القيامة ، فيقولون : لا نفارقُكُمْ حتى تدخلوا الجنة ، اه .
وقوله تعالى : { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة } المتكلم ب { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ } هم الملائكة القائلون : { أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ } أي : يقولون للمؤمنين عند الموت وعند مشاهدة الحق : نحن كُنَّا أولياءَكُمْ في الدنيا ، ونحن هُمْ أولياؤكم في الآخرة ؛ قال السُّدِّيُّ : المعنى : نحن حَفَظَتُكُم في الدنيا ، وأولياؤكم في الآخرة ، والضمير في قوله : { فِيهَا } عائدٌ على الآخرة ، و{ تَدَّعُونَ } معناه : تَطْلُبُونَ ؛ قال الفَخْرُ : ومعنى كونِهِمْ أولياءَ للمؤمنين ، إشارةٌ إلى أَنَّ للملائكة تأثيراتٍ في الأرواحِ البشريَّةِ ، بالإلهاماتِ والمُكَاشَفَاتِ اليقينيَّةِ والمناجاتِ الخفيَّةِ ؛ كما أَنَّ للشياطينِ تَأْثيراتٍ في الأرواحِ بإلقاء الوسَاوِسِ ، وبالجملة ، فَكَوْنُ الملائكةِ أولياءَ للأرواح الطَّيِّبَةِ الطاهرةِ ، حاصِلٌ من جهاتٍ كثيرةٍ معلومةٍ لأربابِ المكاشفاتِ والمشاهَدَاتِ ، فَهُمْ يَقُولُونَ : كما أَنَّ تلك الولاياتِ حاصلةٌ في الدنيا ، فهي تكونُ باقيةً في الآخرة ؛ فإنَّ تلك العلائِقَ ذاتِيَّةٌ لازمة ، غير مائلة إلى الزوال ؛ بل تصير بعد الموت أقوى وأبقى ؛ وذلك لأَنَّ جوهر النفْسِ من جنس الملائكة ، وهي كالشُّعْلَةِ بالنسبة إلى الشمس والقطرة بالنسبة إلى البحر ، وإنَّما التَّعَلُّقَاتُ الجَسَدَانِيَّةُ والتدبيراتُ البدنيَّةُ هي الحائلة بَيْنَهَا وبين الملائكة ، فإذا زالَتْ تلك العلائِقُ ، فقد زَالَ الْغِطَاءُ ، واتَّصَلَ الأثر بالمؤثر ، والقطرةُ بالبَحْرِ ، والشعلةُ بالشمْسِ ، انتهى .
( ت ) : وقد نقل الثعلبيُّ من كلام أرباب المعاني هنا كلاماً كثيراً حَسَناً جِدًّا ، موقظاً لأربابِ الهِمَمِ ، فانظره إنْ شِئْتَ ، وروى ابن المبارك في «رقائقه » بسنده عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ بأَنَّهُ قال : «إذَا فَنِيَتْ أَيَّامُ الدُّنْيَا عَنْ هَذَا الْعَبْدِ المُؤْمِنِ ، بَعَثَ اللَّهُ إلى نَفْسِهِ مَنْ يَتَوَفَّاهَا ، قَالَ : فَقَالَ صَاحِبَاهُ اللَّذَانِ يَحْفَظَانِ عَلَيْهِ عَمَلَهُ : إنَّ هَذَا قَدْ كَانَا لَنَا أَخاً وَصَاحِباً ، وَقَدْ حَانَ الْيَوْمَ مِنْهُ فِرَاقٌ ، فَأْذَنُوا لَنَا ، أَوْ قَالَ : دَعُونَا نُثْنِ على أَخِينَا ، فَيُقَالُ : أَثْنِيَا عَلَيْهِ ، فَيَقُولاَنِ : جَزَاكَ اللَّهُ خَيْراً ، وَرَضِيَ عَنْكَ ، وَغَفَرَ لَكَ ، وأَدْخَلَكَ الجَنَّةَ ؛ فَنِعْمَ الأَخُ كُنْتَ والصَّاحِبُ ؛ مَا كَانَ أَيْسَرَ مُؤْنَتَكَ ، وَأَحْسَنَ مَعُونَتَكَ على نَفْسِكَ ، مَا كَانَتْ خَطَايَاكَ تَمنَعُنَا أَنْ نَصْعَدَ إلى رَبِّنَا ، فَنُسَبِّحَ بِحَمْدِهِ ، وَنُقَدِّسَ لَهُ ، وَنَسْجُدَ لَهُ ، وَيَقُولُ الَّذِي يتوفى نَفْسَهُ : اخرج أَيُّهَا الرُّوْحُ الطَّيِّبُ إلى خَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ ، فَنِعْمَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ ، اخرج إلَى الرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ وَجَنَّاتِ النَّعِيمِ وَرَبٍّ عَلًَيْكَ غَيْرِ غَضْبَانَ ، ، وَإذَا فَنِيَتْ أَيَّامُ الدُّنْيَا عَنِ الْعَبْدِ الْكَافِرِ ، بَعَثَ اللَّهُ إلى نَفْسِهِ مَنْ يَتَوَفَّاهَا ، فَيَقُولُ صَاحِبَاهُ اللَّذَانِ كَانَا يَحْفَظَانِ عَلَيْهِ عَمَلَهُ : إنَّ هَذَا قَدْ كَانَ لَنَا صَاحِباً ، وَقَدْ حَانَ مِنْهُ فِرَاقٌ ، فَأْذَنُوا لَنَا ، وَدَعُونَا نُثْنِ على صَاحِبِنَا ، فَيُقَالُ : أَثْنِيَا عَلَيْهِ فَيَقُولاَن : لَعْنَةُ اللَّهِ وَغَضَبُهُ عَلَيْهِ ، وَلاَ غَفَرَ لَهُ ، وَأَدْخَلَهُ النَّارَ فَبِئْسَ الصَّاحِبُ ؛ مَا كَانَ أَشَدَّ مُؤْنَتَهُ ، وَمَا كَانَ يُعِينُ على نَفْسِهِ ؛ إنْ كَانَتْ خَطَايَاهُ وَذُنُوبُهُ لَتَمْنَعُنَا أَنْ نَصْعَدَ إلى رَبِّنَا فَنُسَبِّحَ لَهُ ، وَنُقَدِّسَ لَهُ ، وَنَسْجُدَ لَهُ ، وَيَقُولُ الَّذِي يتوفى نَفْسَهُ : اخرج أَيُّهَا الرُّوحُ الخَبِيثُ إلى شَرِّ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ ، فَبِئْسَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ ، اخرج إلَى الحَمِيمِ وَتَصْلِيَةِ الجَحِيمِ وَرَبٍّ عَلَيْكَ غَضْبَانَ » ، انتهى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.