في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ} (3)

( إن شانئك هو الأبتر ) . .

في الآية الأولى قرر أنه ليس أبتر بل هو صاحب الكوثر . وفي هذه الآية يرد الكيد إلى كائديه ، ويؤكد - سبحانه - أن الأبتر ليس هو محمد ، إنما هم شانئوه وكارهوه .

ولقد صدق فيهم وعيد الله . فقد انقطع ذكرهم وانطوى . بينما امتد ذكر محمد وعلا . ونحن نشهد اليوم مصداق هذا القول الكريم ، في صورة باهرة واسعة المدى كما لم يشهدوه سامعوه الأولون !

إن الإيمان والحق والخير لا يمكن أن يكون أبتر . فهو ممتد الفروع عميق الجذور . وإنما الكفر والباطل والشر هو الأبتر مهما ترعرع وزها وتجبر . .

إن مقاييس الله غير مقاييس البشر . ولكن البشر ينخدعون ويغترون فيحسبون مقاييسهم هي التي تقرر حقائق الأمور ! وأمامنا هذا المثل الناطق الخالد . . فأين الذين كانوا يقولون عن محمد [ صلى الله عليه وسلم ] قولتهم اللئيمة ، وينالون بها من قلوب الجماهير ، ويحسبون حينئذ أنهم قد قضوا على محمد وقطعوا عليه الطريق ? أين هم ? وأين ذكراهم ، وأين آثارهم ? إلى جوار الكوثر من كل شيء ، ذلك الذي أوتيه من كانوا يقولون عنه : الأبتر ? !

إن الدعوة إلى الله والحق والخير لا يمكن أن تكون بتراء ولا أن يكون صاحبها أبتر ، وكيف وهي موصولة بالله الحي الباقي الأزلي الخالد ? إنما يبتر الكفر والباطل والشر ويبتر أهله ، مهما بدا في لحظة من اللحظات أنه طويل الأجل ممتد الجذور . .

وصدق الله العظيم . وكذب الكائدون الماكرون . .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ} (3)

المفردات :

شانئك : مبغضك .

الأبتر : المنقطع من كل خير .

التفسير :

3- إن شانئك هو الأبتر .

مبغضك هو المقطوع الأثر ، وقد روي أنه لما مات القاسم شمت كفار مكة ، وقال العاص بن وائل : دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له ، ولا نسل له من الذكور ، فإذا مات انقطع ذكره ، فأنزل الله تعالى هذه السورة توضّح أن محمدا صلى الله عليه وسلم في عز من الرحمان ، ومنعة من المسلمين ، ودينه في انتصار ، وأن المسلمين جميعا من زمانه إلى يوم القيامة في منزلة أبنائه وأحفاده ، فهو كالوالد لهم ، أما أعداؤه فهم مبتورون من رحمة الله .

أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد أبقى الله ذكره على رؤوس الأشهاد ، وأوجب شرعه على رقاب العباد ، مستمرا على دوام الآباد ، إلى يوم الحشر والمعاد ، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم التنادvii

***

تم بحمد الله وفضله وتوفيقه تفسير سورة ( الكوثر ) مساء الثلاثاء 20 من ربيع الأول 1422 ه ، الموافق 12/6/2001 ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

i تفسير جزء عم ، للإمام محمد عبده ، ص 126 ، وقارن بتفسير النيسابوري 30/175 .

ii تفسير النيسابوري 30/176 ، وقد أورد صفحات عدة في فضائله صلى الله عليه وسلم ، وقد جمع الله له جميع خصائص الرسل أجمعين ، فقد أعطاه الله كتابا خالدا ، وكتاب آدم كان كلمات ، وأعطى إبراهيم وموسى صحفا محدودة ، وكتاب محمد صلى الله عليه وسلم مهيمن على الجميع .

iii المرجع السابق .

iv تفسير النيسابوري بهامش الطبري 30/179 .

v تفسير جزء عم للإمام محمد عبده ص 128 ، مطبعة الشعب ، الطبعة السادسة .

vi نهر وعدنيه ربي عز وجل :

رواه مسلم في الصلاة ( 400 ) وأبو داود في الصلاة ( 784 ) وفي السنة ( 4747 ) والنسائي في الافتتاح ( 904 ) من حديث أني قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : ( أنزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمان الرحيم { إنا أعطيناك الكوثر . فصل لربك وانحر . إن شانئك هو الأبتر } . ثم قال : ( أتدرون ما الكوثر ) ؟ فقلنا : الله ورسوله أعلم : قال : ( فإنه نهر وعدنيه ربي عز وحل خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم فيختلج العبد منهم فأقول : رب إنه من أمتي فيقول : ما تدري ما أحدثت بعدك ) . زاد ابن الحجر في حديثه : بين أظهرنا في المسجد ، وقال : ما أحدث بعدك .

vii مختصر تفسير ابن كثير المجلد 3 ص 684 . تحقيق محمد علي الصابوني .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ} (3)

شانئك : مُبغِضَك . يقال : شَنَأ يَشْنأ . شَنْئاً ، وشَنَآنا : أبغَضَ . واسمُ الفاعل شانئ . والمؤنث شانئة .

الأبتر : المنقطع عن كل خير .

ثم بعد أن بشّره بهذا الخير الكثير ، وطالَبَه بالشّكر عليه ، زاد في البُشْرى بأنّ كلّ من يُبغِضُه ويَكيدُ له مُنْقَطِعون مَبْتُورون . وقد كانَ ذلك .

إن مُبْغِضَك يا محمد ، هو المنقطعُ عن كل خير . وقد حقق اللهُ له ذلكَ فانقطعَ ذِكر كلّ المشرِكين من العَرب وغيرِهم ، فيما بقيَ ذِكره خالداً في العالمين .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ} (3)

{ إِنَّ شَانِئَكَ } أي : مبغضك وذامك ومنتقصك { هُوَ الْأَبْتَرُ } أي : المقطوع من كل خير ، مقطوع العمل ، مقطوع الذكر .

وأما محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو الكامل حقًا ، الذي له الكمال الممكن في حق المخلوق ، من رفع الذكر ، وكثرة الأنصار ، والأتباع صلى الله عليه وسلم .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ} (3)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

"إن شانئك هو الأبتر" ... يعني إن مبغضك هو الأبتر ...الذي أبتر من الخير ، وأنت يا محمد ستذكر معي إذا ذكرت ، فرفع الله عز وجل له ذكره في الناس عامة ، فيذكر النبي صلى الله عليه وسلم في كل عيد للمسلمين في صلواتهم ، وفي الآذان ، والإقامة ، وفي كل موطن حتى خطبة النساء ، وخطبة الكلام ، وفي الحاجات . ...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قوله : { إنّ شانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ } يعني بقوله جلّ ثناؤه : { إنّ شانِئَكَ } إن مُبغضَك يا محمد وعدوّك { هُوَ الأبْتَرُ } يعني بالأبتر : الأقلّ والأذلّ المنقطع دابره ، الذي لا عَقِبَ له .

واختلف أهل التأويل في المعنيّ بذلك ؛

فقال بعضهم : عُنِي به العاص بن وائل السهميّ ...

وقال آخرون : بل عُنِي بذلك : عُقْبة بن أبي مُعَيط ...

وقال آخرون : بل عُنِي بذلك جماعة من قريش ...

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أن مُبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأقلّ الأذلّ ، المنقطع عقبه ، فذلك صفة كلّ من أبغضه من الناس ، وإن كانت الآية نزلت في شخص بعينه.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

( إن ) من أبغضك من قومك لمخالفتك لهم { هُوَ الأبتر } لا أنت ؛ لأنّ كل من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين فهم أولادك وأعقابك ، وذكرك مرفوع على المنابر والمنار ، وعلى لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر ، يبدأ بذكر الله ، ويثني بذكرك ، ولك في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف ، فمثلك لا يقال له : أبتر ، وإنما الأبتر هو شانئك المنسي في الدنيا والآخرة ، وإن ذكر ذكر باللعن .

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ إن شانئك } أي مبغضك والمتبرئ منك والمستهين بك مع ما أوتيت من الجمال ، والخصال الفاضلة والكمال { هو } أي خاصة { الأبتر } أي المقطوع من أصله ، والمقطوع النسل ، والمعدم والمنقطع الخير والبركة والذكر ، لا يعقبه من يقوم بأمره ويذكر به وإن جمع المال ، وفرغ بدنه لكل جمال ، وأنت الموصول الأمر ، النابه الذكر ، المرفوع القدر ، فلا تلتفت إليهم بوجه من الوجوه ، فإنهم أقل من أن يبالي بهم من يفرغ نفسه للفوز بالمثول في حضراتنا الشريفة ، والافتخار بالعكوف في أبوابنا العالية المنيفة ، لك ما أنت عليه ، ولهم ما هم فيه ، فالآية الأخيرة النتيجة ؛ لأن من الكوثر علو أمره وأمر محبيه وأتباعه في ملكوت السماء والأرض ونهر الجنة ، وسفول شأن عدوه فيهما .

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إن مقاييس الله غير مقاييس البشر . ولكن البشر ينخدعون ويغترون فيحسبون مقاييسهم هي التي تقرر حقائق الأمور ! وأمامنا هذا المثل الناطق الخالد . . فأين الذين كانوا يقولون عن محمد [ صلى الله عليه وسلم ] قولتهم اللئيمة ، وينالون بها من قلوب الجماهير ، ويحسبون حينئذ أنهم قد قضوا على محمد وقطعوا عليه الطريق ? أين هم ? وأين ذكراهم ، وأين آثارهم ? إلى جوار الكوثر من كل شيء ، ذلك الذي أوتيه من كانوا يقولون عنه : الأبتر ? ! ....

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{ الأبتر } : حقيقته المقطوع بعضه، وغلب على المقطوع ذَنبه من الدواب، ويستعار لمن نقص منه ما هو من الخير في نظر الناس تشبيهاً بالدَّابة المقطوع ذَنَبها تشبيه معقول بمحسوس كما في الحديث : " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر " يقال : بَتر شيئاً إذا قطع بعضَه وبَتر بالكسر كفرِح فهو أبتر ، ويقال للذي لا عقب له ذكوراً ، هو أبتر على الاستعارة تشبيه متخيل بمحسوس شبهوه بالدابة المقطوع ذنبها لأنه قُطع أثره في تخيُّل أهلِ العرف .

ومعنى الأبتر في الآية الذي لا خير فيه، وهو رد لقول العاصي بن وائل أو غيره في حق النبي صلى الله عليه وسلم فبهذا المعنى استقام وصف العاصي أو غيره بالأبتر دون المعنى الذي عناه هو حيث لمز النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أبتر ، أي لا عقب له لأن العاصي بن وائل له عقب ، فابنه عمرو الصحابي الجليل ، وابن ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص الصحابي الجليل ولعبد الله عقب كثير . قال ابن حزم في « الجمهرة » عقبه بمكة وبالرهط .

فقوله تعالى : { هو الأبتر } اقتضت صيغة القصر إثبات صفة الأبتر لشانئ النبي صلى الله عليه وسلم ونفيها عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأبتر بمعنى الذي لا خير فيه .

ولكن لما كان وصف الأبتر في الآية جيء به لمحاكاة قول القائل : « محمد أبتر » إبطالاً لقوله ذلك ، وكانَ عرفهم في وصف الأبتر أنه الذي لا عقب له تعيّن أن يكون هذا الإِبطال ضرباً من الأسلوب الحكيم وهو تلقي السامع بغير ما يترقب بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيهاً على أن الأحقَّ غيرُ ما عناه من كلامه كقوله تعالى : { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } [ البقرة : 189 ] . وذلك بصرف مراد القائل عن الأبتر الذي هو عديم الابن الذكر إلى ما هو أجدر بالاعتبار وهو الناقص حظّ الخير ، أي ليس ينقص للمرء أنه لا ولد له، لأن ذلك لا يعود على المرء بنقص في صفاته وخلائقه وعقله . وهب أنه لم يولد له البتة ، وإنما اصطلح الناس على اعتباره نقصاً لرغبتهم في الولد بناء على ما كانت عليه أحوالهم الاجتماعية من الاعتماد على الجهود البدنية فهم يبتغون الولد الذكور رجاء الاستعانة بهم عند الكبر وذلك أمر قد يعرض ، وقد لا يعرض أو لمحبة ذِكر المرء بعد موته وذلك أمر وهمي ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أغناه الله بالقناعة ، وأعزّه بالتأييد ، وقد جعل الله له لسان صدق لم يجعل مثله لأحد من خلقه ، فتمحض أن كماله الذاتي بما عَلِمه الله فيه إذ جعل فيه رسالته ، وأن كماله العرضي بأصحابه وأمته إذ جعله الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم ...

والشانىء : المبغض وهو فاعل من الشناءة وهي البغض ويقال فيه : الشنآن ، وهو يشمل كل مبغض له من أهل الكفر فكلهم بتر من الخير ما دام فيه شنآن للنبيء صلى الله عليه وسلم، فأما من أسلموا منهم فقد انقلب بعضهم محبة له واعتزازاً به .

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ } فهذا الذي يبغضك ويعلن العداء لك ولرسالتك انطلاقاً من الحدود المغلقة في شخصيته المحدودة ، هو الأبتر ؛ لأنه لا يملك أيّ امتدادٍ في قضايا الحياة ، بعد أن كان امتداده محصوراً في قضايا الذات ، مهما خيّل إليه أنه يتحرك في خط الخلود ؛ لأن الخالدين هم المنطلقون مع الله في رسالته ، فهو الذي يمنح الخلود للدور وللحركة وللذات في امتداد رسالتها في الحياة ....

 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ} (3)

{ إن شانئك هو الأبتر } الشانئ هو المبغض ، وهو من الشنآن بمعنى : العداوة ، ونزلت هذه الآية في العاص بن وائل ، وقيل : في أبي جهل على وجه الرد عليه ؛ إذ قال : إن محمدا أبتر ، أي : لا ولد له ذكر ، فإذا مات استرحنا منه ، وانقطع أمره بموته . فأخبر الله أن هذا الكافر هو الأبتر ، وإن كان له أولاد ؛ لأنه مبتور من رحمة الله ، أي : مقطوع عنها ، ولأنه لا يذكر -إذا ذكر- إلا باللعنة ، بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن ذكره خالد إلى آخر الدهر ، مرفوع على المنابر والصوامع ، مقرون بذكر الله ، والمؤمنون من زمانه إلى يوم القيامة أتباعه فهو كوالدهم .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ} (3)

ولما أمره باستغراق الزمان في عبادة الخالق ، والإحسان إلى الخلائق بأعلى الخلائق ، علله بما حاصله أنه لا شاغل له ولا حاجة أصلاً تلم به فقال : { إن شانئك } أي مبغضك والمتبرىء منك والمستهين بك مع ما أوتيت من الجمال ، والخصال الفاضلة والكمال { هو } أي خاصة { الأبتر * } أي المقطوع من أصله ، والمقطوع النسل ، والمعدم والمنقطع الخير والبركة والذكر ، لا يعقبه من يقوم بأمره ويذكر به وإن جمع المال ، وفرغ بدنه لكل جمال ، وأنت الموصول الأمر ، النابه الذكر ، المرفوع القدر ، فلا تلتفت إليهم بوجه من الوجوه ، فإنهم أقل من أن يبالي بهم من يفرغ نفسه للفوز بالمثول في حضراتنا الشريفة ، والافتخار بالعكوف في أبوابنا العالية المنيفة ، لك ما أنت عليه ، ولهم ما هم فيه ، فالآية الأخيرة النتيجة ؛ لأن من الكوثر علو أمره وأمر محبيه وأتباعه في ملكوت السماء والأرض ونهر الجنة ، وسفول شأن عدوه فيهما .

ختام السورة:

فقد التف كما ترى مفصلها بموصلها ، وعرف آخرها من أولها ، وعرف أن وسطاها كالحدود الوسطى معانقة للأولى بكونها من ثمارها ، ومتصلة بالأخرى ؛ لأنها من غايات مضمارها ، وقد صدق الله { ومن أصدق من الله قيلاً } ، لم يبق لأحد من مبغضيه ذكر بولد ولا تابع ، ولا يوجد لهم شاكر ولا مادح ولا رافع ، وأما هو صلى الله عليه وسلم فقد ملأت ذريته من فاطمة الزهراء الأرض ، وهم الأشراف مع مبالغة الملوك في قتلهم ، وإخلاء الأرض من نسلهم ، خوفاً من شرفهم العالي على شرفهم ، ورفعتهم بالتواضع الغالب لصلفهم ، وإذا راجعت آية{ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله }[ الأحزاب : 40 ] من الأحزاب علمت أن توفي بنيه عليهم السلام قبله من إعلاء قدره ومزيد تشريفه بتوحيد ذكره ، وأما أتباعه فقد استولوا على أكثر الأرض ، وهم أولو الفرقان ، والعلم الباهر والعرفان ، ويؤخذ منها أن من فرغ نفسه لربه أهلك عدوه ، وكفاه كل واحد منهم ، وقد علم أن حاصل هذه السورة المن عليه صلى الله عليه وسلم بالخير العظيم الذي من جملته النهر المادّ من الجنة في المحشر المورود لمن اتبعه ، الممنوع ممن تأبى عنه وقطعه ، وأمره بالصلاة والنحر للتوسعة على المحاويج ، والبشارة بقطع دابر أعدائه ونصر جماعة أوليائه ، كما أن من مقاصد الأعراف المناظرة لها في رد المقطع على المطلع تهديد الظالمين بالإهلاك في قوله{ وكم من قرية أهلكناها }[ الأعراف : 4 ] ، وتصوير ذلك بذكر مصارع الماضين لمخالفتهم الرسل عليهم الصلاة والسلام ، والأمر بالصلاة وستر العورة ، وما يقصد بالنحر بقوله :{ خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا }

الآيات [ الأعراف : 31 ] ، وذكر من يمنح ماء الجنة ومن يمنعه بقوله تعالى :{ ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أو أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله }الآيات [ الأعراف : 50 ] ، وقوله تعالى :

{ ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم }[ الأعراف : 157 ] هذا ما يتعلق بتفسير تراكبيها وجملها ، وتأويل تفاصيلها ومجملها ، وكذا نظيرتها في مبادىء أمرها ومكملها . ثم إن هذه السورة عشر كلمات في الكتابة ، إشارة إلى أن تمام بتر شانئه يكون مع تمام السنة العاشرة من الهجرة ، وكذا كان ، لم تمض السنة الحادية عشرة من الهجرة-وفي جزيرة العرب -إلا من يرى أشرف أحواله بذل نفسه وماله في حبه ، وإذا أضفنا إليها الضميرين المستترين كانت اثنتا عشرة ، وفي السنة الثانية عشرة من النبوة بايعه صلى الله عليه وسلم الأنصار على منابذة الكفار ، وإذا أضيف إلى العشرة الضمائر البارزة الخمسة كانت خمس عشرة ، فتكون إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم عند تمام السنة الخامسة عشر من نبوته يبسط يده العالية لبتر أعدائه ، وكذا كان في وقعة بدر الرفيعة القدر ، ففي ضمائر الاستتار كانت البيعة وهي مستترة ، وفي الضمائر البارزة كانت بدر وهي مشتهرة ، وإذا أضيف إلى ذلك الضميران المستتران كانت سبع عشرة ، وفي السنة السابعة عشرة من نبوته كانت غزوة بدر الموعد ، وفى فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالوعد في الإتيان إلى بدر للقاء قريش للقتال ومقارعة الأبطال ، فآذنهم الله فلم يأتوا ، وإنما اعتبر ما بعد الهجرة من أحوال النبوة عندما عدت الكلمات الخطية العشر لكونها أقوى أحوال النبوة ، كما أن الكلمات الخطية أقوى من الضمائر ، وإن اشترك الكل في اسم الكلمات ، فلذلك أخذ تمام البتر للشانىء ، وهو ما كان في السنة الحادية عشرة من هلاك أهل الردة ، وثبات العرب في صفة الإسلام ، ولما ضمت الضمائر البارزة الخمسة التي هي أقرب من المستترة إلى الكلمات الخطية ، وأضعف من الكلمات الخطية ، اعتبر من أول السورة لمناسبة ما كان من ضعف الحال فيما كان قبل الهجرة ، فوازى ذلك السنة الثانية من الهجرة التي كانت فيها غزوة بدر الكبرى ، وهي وإن كانت من العظم على أمر بالغ جداً لكنها كانت على وجه مخالف للقياس ، فإن حال الصحابة رضي الله عنهم كان فيها في غاية الضعف ، ولكونها أول ما وقع فيه النصر من الغزوات لم تكن نفوس المخالفين مذعنة ؛ لأن ما بعدها يكون مثلها ، فإذا ضم إلى ذلك الضميران المستتران - وهما أضعف من البارز - انطبق العدد على سنة غزوة بدر الموعد في سنة أربع ، وهي وإن كانت قوية لكون قريش ضعفوا عن اللقاء ، لكن كان حالها أضعف من بدر التي وقع فيها القتال وأستر ، وكون كلماتها الخطية والاصطلاحية التي هي أبعاض الكلمات الخطية سبع عشرة مؤذن بأن الأمر في { فصلِّ } مصوب بالذات بالقصد الأول إلى الصلوات الخمس التي هي سبع عشرة ركعة ، وأن من ثابر عليها كان مصلياً خارجاً من عهدة الأمر ، فإذا قصدت في السفر بما اقتضته صفة التربية بالإحسان نقصت بقدر عدة الضمائر سوى الذي وفى بالأمر بها ؛ لأن الأمر الناشىء عن مظهر العظمة لا يليق فيه التخفيف بنفسه كلمة الأمر ، وإذا أضفنا إليها كلمات البسملة الأربع كان لها أسرار كبرى من جهة أخرى ، وذلك أن الكلمات الخطية تكون أربع عشرة ، إشارة إلى أن ابتداء البتر للأضداد يكون بالقوة القريبة من الفعل بالتهييء له في السنة الرابعة عشرة من النبوة ، وذلك عام الهجرة ، فإذا أضفنا إليها الضمائر البارزة التي هي أقرب إلى الكلمات الخطية -وهي خمسة -كانت تسع عشرة ، وفي السنة التاسعة عشرة من النبوة -وهي السادسة من الهجرة- كان الفتح المبين على الشانئين الذي أنزل الله فيه سورة الفتح ، فإذا أضفنا إليها الضميرين المستترين كانت إحدى وعشرين -وهي سنة ثمان من الهجرة - سنة الفتح الأكبر الذي عم العلم فيه بأن الشانىء هو الأبتر ، وإذا اعتبرت حروفها المتلفظ بها كانت أربعة وأربعين حرفاً ، فإذا ناظرتها بالسنين من أول حين النبوة كان آخرها سنة إحدى وثلاثين من الهجرة ، وهي سنة البتر الأعظم لشانئه الأكبر الذي مزق كتابه ، وكان مالكاً لبلاد اليمن ، وهو قدر كبير من بلاد العرب ، وكذا لغيرهم مما قارب بلاده ، وكانت قريش تجعله من عدادهم كما مضى بيانه في سورة الروم وهو كسرى ملك الفرس ، ففيها كان انقراض ملكهم بقتل آخر ملوكهم يزدجرد ، كما أنك إذا اعتبرت كلماتها الخطية مع الضمائر البارزة التي هي كلمات اصطلاحية دون ما استتر - فإن وجوب استتاره منع من عده - كانت تسع عشرة كلمة ، فإن اعتبرت بها ما بعد الهجرة وازت وقت موت قيصر طاغية الروم في سنة تسع عشرة من الهجرة أهلكه الله ، وقد تجهز إلى قتال العرب بالإسكندرية بنفسه ، وأمر ألا يتخلف عنه أحد من الروم ، فكسر الله بموته شوكة الروم ، واستأسدت العرب عند ذلك ، فكانت الأحرف مشيرة إلى بتر الشانىء من الفرس ، والكلمات مشيرة إلى بتر الشانىء من الروم والفرس أولى بإشارة الأحرف ؛ لأنهم ليسوا بذوي علم ، والروم بالكلمات ؛ لأنهم أهل علم ، والكلمات أقرب إلى العلم ، وإذا اعتبرت أحرف البسملة اللفظية كانت ثمانية عشر حرفاً ، فإذا جعلتها سنين من أول النبوة كان آخرها سنة خمس من الهجرة ، وفيها كانت غزوة الأحزاب ، قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصرافهم منها :

" الآن نغزوهم ولا يغزونا " ، فهو أول أخذ الشانىء في الانبتار ، وإذا اعتبرت الأحرف بحسب الرسم كانت تسعة عشر ، آخرها سنة ست ، وهي عمرة الحديبية سنة الفتح السببي وهو الصلح الذي نزلت فيه سورة الفتح وسماه الله فتحاً ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنه أعظم الفتح " ، فكان سبب الفتح الأعظم بخلطة الكفار لأهل الإسلام بالصلح ، فأسرعوا إلى الإسلام بالدخول فيه لما رأوا من محاسن الدين وإعجاز القرآن ، فكانوا يوم الفتح عشرة آلاف بعد أن كانوا قبل ذلك بسنتين يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة ، والله الموفق ، هذا يسير من أسرار هذه السورة ، وقد علم منه من إعجازها ما يشرح الخواطر ويبهج النواظر ؛ لأنه يفوق حسناً على الرياض النواضر ، وعلم أيضاً جنون الخبيث المسخرة مسيلمة الكذاب - عليه اللعنة والتباب ، وله سوء المنقلب والمآب- حيث قال في معارضتها : إنا أعطيناك الجماهر ، فصل لربك وهاجر ، إنا كفيناك المكابر أو المجاهر ؛ لأنه كلام ، مع أنه قصير المدى ، ركيك اللحمة والسدى ، غريق الساحة والفنا في الهلك والفنا ، ليس فيه غنى ؛ بل كله نصب وعنا ، هلهل النسج رث القوى ، منفصم العرى ، مخلخل الأرجا ، فاسد المعنى والبنا ، سافل الألفاظ مر الجنى ؛ لأن العلل منافية للمعلولات ، والشوامل منافرة للمشمولات ، ثم رأيت في دلائل الإعجاز للإمام عبد القاهر الجرجاني أن الوسطى من قال : العاهر وجاهر ، فإن كان بالدين لم يمنع الصدح بالباطل ، وذلك لا يرضى به عاقل ، وإن كان بالحرب كان على النصف لكل من تدبر فعرف ، ولا نص فيه على الغلب بمطلوبيه ، ولا طلب مع نقص الجود على كل تقدير ، الذي هو المقصود للغني والفقير ، والمأمور والأمير ، هذا مع الإغارة على الأسلوب ، والحذو على المعهود غير محاذ{ في القصاص حياة }[ البقرة : 179 ] في إسقاط " القتل أنفى للقتل " بالرشاقة مع الوجازة ، والعذوبة مع البلاغة ، في إصابة حاق المعنى بما يقود إلى السماح بالنفس ، ويحمل على المبادرة إلى امتثال الأمر ، والأولى من سخيف عقل الخسيف ، وأكله إلى الخلق مع نقصان المعنى السار للإسرار ، والأخرى مهملة لذوي الشبه والستر مع ما فاتها من قصر الخسار ، وخصوص التبار ، إلى ما حوت من بيان الكذب البتار للأعمار المخرب للديار ، تصديقاً للنبي صلى الله عليه وسلم البار بأيدي صحابته الأخيار ، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار . فسبحان من علا فعلا كلامه كل كلام ، والسلام ، والحمد لله على كل حال .