{ إنّ شانئك } أي : مبغضك والشانئ المبغض ، يقال : شنأه يشنؤه ، أي : أبغضه { هو الأبتر } أي : المنقطع عن كل خير ، وأما أنت فقد أعطيت ما لا غاية لكثرته من خير الدارين الذي لم يعطه أحد غيرك ، فمعطي ذلك كله هو الله رب العالمين ، فاجتمعت لك العطيتان السنيتان : إصابة أشرف عطاء وأوفره من أكرم معط وأعظم منعم ، أو المنقطع العقب لا أنت ؛ لأنّ كل من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين فهم أعقابك وأولادك ، وذكرك مرفوع على المنابر والمنائر وعلى لسان ، كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر يبدأ بذكر الله تعال ، ى ويثني بذكرك ، ولك في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف ، فمثلك لا يقال له : أبتر ، إنما الأبتر هو شانئك المسيء في الدنيا والآخرة ، وقال الرازي : هذه السورة كالمقابلة للتي قبلها ، فإنه ذكر في الأولى البخل وترك الصلاة والرياء ومنع الماعون ، وذكر هاهنا في مقابلة البخل { إنا أعطيناك الكوثر } ، وفي مقابلة الصلاة { فصلّ } أي : دم على الصلاة وفي مقابلة الرياء { لربك } أي : لرضاه خالصاً ، وفي مقابلة منع الماعون { وانحر } أي : تصدّق بلحم الأضاحي ثم ختم السورة بقوله تعالى : { إنّ شانئك هو الأبتر } أي : أنّ المشاقق الذي أتى بتلك الأفعال القبيحة سيموت ولا يبقى له أثر ، وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل ، وفي الآخرة الثواب الجزيل .
واختلف المفسرون في الشانئ ، فقيل : هو العاص بن وائل ، وكانت العرب تسمي من كان له بنون وبنات ، ثم مات البنون وبقي البنات : أبتر ، فقيل : إنّ العاص وقف مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يكلمه فقال له جمع من صناديد قريش : مع من كنت واقفاً ، مع ذلك الأبتر ، وكان قد توفيّ قبل ذلك عبد الله ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان أهل الجاهلية إذا مات ابن الرجل قالوا : أبتر فلان ، فلما توفي عبد الله ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل على أصحابه فقال : بتر محمد ، فنزلت . وقال السديّ : إنّ قريشاً كانوا يقولون لمن مات ذكور ولده : بتر فلان ، فلما مات لرسول الله صلى الله عليه وسلم القاسم بمكة وإبراهيم بالمدينة قالوا : بتر محمد ، فليس له من يقوم بأمره من بعده فنزلت .
وقيل : لما أوحى الله تعالى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا قريش إلى الإيمان قالوا : أبتر منا محمد ، أي : خالفنا وانقطع عنا فنزلت .
تنبيه : قال أهل العلم قد احتوت هذه السورة على قصرها على معان بليغة وأساليب بديعة :
منها دلالة استهلال السورة على أنه تعالى أعطاه كثيراً من كثير .
ومنها إسناد الفعل إلى المتكلم المعظم نفسه .
ومنها إيراده بصيغة الماضي تحقيقاً لوقوعه كما في قوله تعالى : { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] .
ومنها بناء الفعل على الاسم ليفيد الإسناد مرّتين .
ومنها : الإتيان بصيغة تدل على مبالغة الكثرة .
ومنها : حذف الموصوف بالكوثر ؛ لأنّ في حذفه من فرط الشياع والإبهام ما ليس في إثباته .
ومنها تعريفه ب( أل ) الجنسية الدالة على الاستغراق .
ومنها : فاء التعقيب الدالة على السبب ، فإنّ الإنعام سبب للشكر والعبادة .
ومنها : التعريض بمن كانت صلاته ونحره لغير الله تعالى .
ومنها أنّ الأمر بالصلاة إشارة إلى الأعمال الدينية التي الصلاة قوامها وأفضلها ، والأمر بالنحر إشارة إلى الأعمال البدينة التي النحر أسناها .
ومنها : حذف متعلق انحر ؛ إذ التقدير : فصل لربك وانحر له .
ومنها : مراعاة السجع ، فإنه من صناعة البديع العاري عن التكلف .
ومنها قوله تعالى : { لربك } في الإتيان بهذه الصفة دون سائر صفاته الحسنى ، دلالة على أنه المربي له ، والمصلح بنعمه ، فلا يلتمس كل خير إلا منه .
ومنها : الالتفات من ضمير المتكلم إلى الغائب في قوله تعالى : { لربك } .
ومنها : الأمر بترك الاهتمام بشانئه للاستئناف ، وجعله خاتمة للإعراض عن الشانئ ، ولم يسمه ليشمل كل من اتصف بهذه الصفة القبيحة ، ولو كان المراد شخصاً معيناً لعينه الله تعالى .
ومنها : التنبيه بذكر هذه الصفة القبيحة على أنه لم يتصف إلا بمجرّد قيام الصفة به من غير أن تؤثر فيمن يشنؤه شيئاً البتة ؛ لأنّ من يشنأ شخصاً قد يؤثر شنؤه شيئاً .
ومنها : تأكيد الجملة بأن المؤذنة بتأكيد الخبر ، ولذلك يتلقى بها القسم ، وتقدير القسم يصلح هنا . ومنها : الإتيان بضمير الفصل المؤذن بالاختصاص والتأكيد إن جعلناه فصلاً ، وإن جعلناه مبتدأ فكذلك يفيد التأكيد ؛ إذ يصير الإسناد مرّتين .
ومنها : تعريف الأبتر ب( أل ) المؤذنة بالخصوصية بهذه الصفة ، كأنه قيل : الكامل في هذه الصفة .
ومنها : إقباله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بالخطاب من أوّل السورة إلى آخرها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.