السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ} (3)

{ إنّ شانئك } أي : مبغضك والشانئ المبغض ، يقال : شنأه يشنؤه ، أي : أبغضه { هو الأبتر } أي : المنقطع عن كل خير ، وأما أنت فقد أعطيت ما لا غاية لكثرته من خير الدارين الذي لم يعطه أحد غيرك ، فمعطي ذلك كله هو الله رب العالمين ، فاجتمعت لك العطيتان السنيتان : إصابة أشرف عطاء وأوفره من أكرم معط وأعظم منعم ، أو المنقطع العقب لا أنت ؛ لأنّ كل من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين فهم أعقابك وأولادك ، وذكرك مرفوع على المنابر والمنائر وعلى لسان ، كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر يبدأ بذكر الله تعال ، ى ويثني بذكرك ، ولك في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف ، فمثلك لا يقال له : أبتر ، إنما الأبتر هو شانئك المسيء في الدنيا والآخرة ، وقال الرازي : هذه السورة كالمقابلة للتي قبلها ، فإنه ذكر في الأولى البخل وترك الصلاة والرياء ومنع الماعون ، وذكر هاهنا في مقابلة البخل { إنا أعطيناك الكوثر } ، وفي مقابلة الصلاة { فصلّ } أي : دم على الصلاة وفي مقابلة الرياء { لربك } أي : لرضاه خالصاً ، وفي مقابلة منع الماعون { وانحر } أي : تصدّق بلحم الأضاحي ثم ختم السورة بقوله تعالى : { إنّ شانئك هو الأبتر } أي : أنّ المشاقق الذي أتى بتلك الأفعال القبيحة سيموت ولا يبقى له أثر ، وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل ، وفي الآخرة الثواب الجزيل .

واختلف المفسرون في الشانئ ، فقيل : هو العاص بن وائل ، وكانت العرب تسمي من كان له بنون وبنات ، ثم مات البنون وبقي البنات : أبتر ، فقيل : إنّ العاص وقف مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يكلمه فقال له جمع من صناديد قريش : مع من كنت واقفاً ، مع ذلك الأبتر ، وكان قد توفيّ قبل ذلك عبد الله ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان أهل الجاهلية إذا مات ابن الرجل قالوا : أبتر فلان ، فلما توفي عبد الله ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل على أصحابه فقال : بتر محمد ، فنزلت . وقال السديّ : إنّ قريشاً كانوا يقولون لمن مات ذكور ولده : بتر فلان ، فلما مات لرسول الله صلى الله عليه وسلم القاسم بمكة وإبراهيم بالمدينة قالوا : بتر محمد ، فليس له من يقوم بأمره من بعده فنزلت .

وقيل : لما أوحى الله تعالى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا قريش إلى الإيمان قالوا : أبتر منا محمد ، أي : خالفنا وانقطع عنا فنزلت .

تنبيه : قال أهل العلم قد احتوت هذه السورة على قصرها على معان بليغة وأساليب بديعة :

منها دلالة استهلال السورة على أنه تعالى أعطاه كثيراً من كثير .

ومنها إسناد الفعل إلى المتكلم المعظم نفسه .

ومنها إيراده بصيغة الماضي تحقيقاً لوقوعه كما في قوله تعالى : { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] .

ومنها : تأكيد الجملة بأن .

ومنها بناء الفعل على الاسم ليفيد الإسناد مرّتين .

ومنها : الإتيان بصيغة تدل على مبالغة الكثرة .

ومنها : حذف الموصوف بالكوثر ؛ لأنّ في حذفه من فرط الشياع والإبهام ما ليس في إثباته .

ومنها تعريفه ب( أل ) الجنسية الدالة على الاستغراق .

ومنها : فاء التعقيب الدالة على السبب ، فإنّ الإنعام سبب للشكر والعبادة .

ومنها : التعريض بمن كانت صلاته ونحره لغير الله تعالى .

ومنها أنّ الأمر بالصلاة إشارة إلى الأعمال الدينية التي الصلاة قوامها وأفضلها ، والأمر بالنحر إشارة إلى الأعمال البدينة التي النحر أسناها .

ومنها : حذف متعلق انحر ؛ إذ التقدير : فصل لربك وانحر له .

ومنها : مراعاة السجع ، فإنه من صناعة البديع العاري عن التكلف .

ومنها قوله تعالى : { لربك } في الإتيان بهذه الصفة دون سائر صفاته الحسنى ، دلالة على أنه المربي له ، والمصلح بنعمه ، فلا يلتمس كل خير إلا منه .

ومنها : الالتفات من ضمير المتكلم إلى الغائب في قوله تعالى : { لربك } .

ومنها : الأمر بترك الاهتمام بشانئه للاستئناف ، وجعله خاتمة للإعراض عن الشانئ ، ولم يسمه ليشمل كل من اتصف بهذه الصفة القبيحة ، ولو كان المراد شخصاً معيناً لعينه الله تعالى .

ومنها : التنبيه بذكر هذه الصفة القبيحة على أنه لم يتصف إلا بمجرّد قيام الصفة به من غير أن تؤثر فيمن يشنؤه شيئاً البتة ؛ لأنّ من يشنأ شخصاً قد يؤثر شنؤه شيئاً .

ومنها : تأكيد الجملة بأن المؤذنة بتأكيد الخبر ، ولذلك يتلقى بها القسم ، وتقدير القسم يصلح هنا . ومنها : الإتيان بضمير الفصل المؤذن بالاختصاص والتأكيد إن جعلناه فصلاً ، وإن جعلناه مبتدأ فكذلك يفيد التأكيد ؛ إذ يصير الإسناد مرّتين .

ومنها : تعريف الأبتر ب( أل ) المؤذنة بالخصوصية بهذه الصفة ، كأنه قيل : الكامل في هذه الصفة .

ومنها : إقباله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بالخطاب من أوّل السورة إلى آخرها .

ختام السورة:

وقول البيضاويّ تبعاً للزمخشريّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم :«من قرأ سورة الكوثر سقاه الله من كل نهر في الجنة ، ويكتب له عشر حسنات بعدد كل قربان قرّبه العباد في يوم النحر ، أو يقرّبونه » حديث موضوع .