قوله : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر } . يجوز أن يكون «هُوَ » مبتدأ و «الأبتر » خبره ، والجملة خبر «إن » ، وأن يكون فصلاً .
وقال أبو البقاء{[60965]} : «أو توكيد » ، وهو غلط ؛ لأن المظهر لا يؤكد بالمضمر .
والأبترُ : الذي لا عقب له ، وهو في الأصل : الشيء المقطوع ، من بترهُ ، أي : قطعه .
وحمار أبتر : لا ذنب له ، ورجل أباتر - بضم الهمزة - : الذي يقطع رحمه .
5327- لَئِيمٌ نَزتْ فِي أنْفهِ خُنزُوانَةٌ *** عَلى قَطْعِ ذِي القُرْبَى أحَذُّ أباتِرُ{[60966]}
وبتر - بالكسر - : انقطع ذنبه .
قال أهل اللغة : الأبتر من الرجال : من لا ولد له ، ومن الدواب : الذي لا ذنب له .
[ وكل من انقطع من الخير أثره ، فهو أبتر . والبترُ : القطع ، بترت الشيء بتراً قطعته قبل الإتمام ، والانبتار : الانقطاع ، والباتر : السيف القاطع ]{[60967]} .
وفي الحديث : «مَا هَذهِ البُتَيْرَاء ؟ »{[60968]} لمن أوتر بركعة واحدة ، فأنكر عليه ابن مسعود .
وخطب زياد خطبة بتراء ، لم يذكر الله تعالى ، ولا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم . وكان للنبي درع يقال لها : «البتراء » ، سميت بذلك لقصرها ، وقال ابن السكيت : الأبتران : العِيْرُ والعبد ، سميا بذلك لقلة خيرهما .
[ والبتريّة فرقة من الزيدية نسبوا إلى المغيرة بن سعد ، ولقبه الأبتر ] .
وقرأ العامة : «شَانِئك » بالألف ، اسم فاعل بمعنى الحال ، أو الاستقبال أو الماضي .
وقرأ ابن عبَّاس{[60969]} : «شنئك » بغير ألف .
فقيل : يجوز أن تكون بناء مبالغة ك «فعال » و«مفعال » ، وقد أثبته سيبويه ؛ وأنشد : [ الكامل ]
5328- حَذِرٌ أموراً لا تَضِيرُ ، وآمِنٌ *** ما ليْسَ مُنْجِيَهُ مِنَ الأقْدَارِ{[60970]}
5329- أتَانِي أنَّهُمْ مَزقُونَ عِرْضِي*** جحَاشُ الكِرمَليْنِ لهَا قَديدُ{[60971]}
[ فإن كان بمعنى الحال ، والاستقبال ، فإضافته لمفعوله من نصب ، وإن كان بمعنى المضي فهي لا من نصب .
وقيل : يجوز أن يكون مقصوراً من فاعل كقولهم : بر وبار ، وبرد وبارد ] .
اختلف المفسرون [ في المراد ] بقوله تعالى : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر } فقيل : هو العاص بن وائل ، وكانت العرب تسمي من له بنون ، وبنات ، ثم مات البنون ، وبقي البنات : أبتر .
فقيل : إن العاص وقف مع النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه ، فقال له جمع من صناديد قريش : مع من كنت واقفاً ؟ فقال : مع ذلك الأبتر ، وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان من خديجة - رضي الله عنها - فأنزل الله تعالى : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر } أي : المقطوع ذكره من خير الدنيا ، والآخرة .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : كان أهل الجاهلية ، إذا مات ابن الرجل قالوا : بُتر فلان ، فلما توفي إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل لأصحابه ، فقال : بتر محمد ، فأنزل الله تعالى { إن شانئك هو الأبتر } يعني أبا جهل .
وقال شهر بن عطية : هو عقبة بن أبي معيط{[60972]} .
وقال السديُّ وابن زيد : إن قريشاً كانوا يقولون لمن مات له ذكور ولده : قد بتر فلان ، فلما مات لرسول الله صلى الله عليه وسلم القاسمُ ب «مكة » ، وإبراهيم ب «المدينة » ، قالوا : بتر محمد ، أي : فليس من يقوم بأمره من بعده ، فنزلت الآية{[60973]} .
وقيل : لما أوحى الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم دعا قريشاً إلى الإيمان قالوا : انبتر منا محمد ، أي خالفنا وانقطع عنا ، فأخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أنهم هم المبتورون ، قاله عكرمة وشهر بن حوشب .
فصل في المعاني التي احتوتها هذه السورة
قال أهل العلم : قد احتوت هذه السورة على كونها أقصر سورة في القرآن على معان بليغة ، وأساليب بديعة .
منها : دلالة استهلال السورة على أنه - تعالى - أعطاه كثيراً من كثير .
ومنها : إسناد الفعل للمتكلم المعظم نفسه .
ومنها : إيراده بصيغة الماضي تحقيقاً لوقوعه ك{ أتَى أمْرُ اللهِ } .
ومنها : تأكيد الجملة ب «إنَّ » .
ومنها : بناء الفعل على الاسم ليفيد بالإسناد مرتين .
ومنها : الإتيان بصيغة تدل على مبالغة الكثرةِ .
ومنها : حذف الموصوف بالكوثر ؛ لأن في حذفه من فرط الإبهام ما ليس في إثباته .
ومنها : تعريفه ب «أل » الجنسية الدالة على الاستغراق .
ومنها : فاء التعقيب الدالة على التسبب كما تقدم في «الأنعام » سبب الشكر والعبادة .
ومنها : التعريض بمن كانت صلاته ونحره لغير الله تعالى .
ومنها : أن الأمر بالصلاة إشارة إلى الأعمال الدينية التي هي الصلاة وأفضلها كالأمر بالنَّحر .
ومنها : حذف متعلق «انْحَرْ » ؛ إذ التقدير : فصلِّ لربِّك وانحر له .
ومنها : مراعاة السجع ، فإنه من صناعة البديع العاري عن التكلُّف .
ومنها : قوله تعالى : { لِرَبِّكَ } في الإتيان بهذه الصفة دون سائر صفاته الحسنى دلالة على أنه المربِّي ، والمصلح بنعمه ، فلا يلتمس كلّ خير إلا منه .
ومنها : الالتفات من ضمير المتكلم إلى الغائب في قوله تعالى : { لِرَبِّكَ } .
ومنها : جعل الأمر بترك الاحتمال للاستئناف ، وجعله خاتمة للإعراض عن الشانئ ، ولم يسمه ليشمل كلَّ من اتصف - والعياذ بالله - بهذه الصفة القبيحة ، وإن كان المراد به شخصاً معيناً لَعَيَّنَه الله تعالى .
ومنها : التنبيه بذكر هذه الصفة القبيحة ، على أنه لم يتصف إلا بمجرد قيام الصفةِ به ، من غير أن يؤثر في من شنأه شيئاً - ألبتة - لأن من شنأ شخصاً ، قد يؤثر فيه شنؤه .
ومنها : تأكيد الجملة ب «إنَّ » المؤذنة بتأكيد الخبر ، ولذلك يتلقى بها القسم ، وتقدير القسم يصلح هاهنا .
ومنها : الإتيان بضمير الفصل المؤذن بالاختصاص والتأكيد إن جعلنا «هُوَ » فصلاً ، وإن جعلناه مبتدأ فكذلك يفيد التأكيد إذ يصير الإسناد مرتين .
ومنها : تعريف الأبتر ب «أل » المؤذنة بالخصوصية بهذه الصفة ، كأنه قيل : الكامل في هذه الصفة .
ومنها : إقباله تعالى على رسوله بالخطاب ، من أول السورة إلى آخرها .
روى الثعلبي عن أبيّ - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَرَأ : { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر } سقاه اللَّهُ - تعالى - من أنهار الجنَّةِ ، وأعطي مِنَ الأجْرِ عَشْر حسناتٍ بعَددِ كُلِّ قربَانٍ قرَّبهُ العبادُ في كُلَّ عيدٍ ، أو يُقرِّبُونَهُ »{[1]} .
وعن مكحول - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَرَأ : { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر } كَانَ لَهُ ما بيْنَ المَشرِقِ والمَغربِ أبعِرةٌ ، على كُلِّ كرَاريسُ ، كُل كرَّاس مثلُ الدُّنيَا ومَا فيهَا ، كتب بدقة الشَّعرِ ، ليْسَ فِيهَا إلاَّ صفة قصوره ، ومنَازله في الجنَّةِ » .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.