اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ} (3)

قوله : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر } . يجوز أن يكون «هُوَ » مبتدأ و «الأبتر » خبره ، والجملة خبر «إن » ، وأن يكون فصلاً .

وقال أبو البقاء{[60965]} : «أو توكيد » ، وهو غلط ؛ لأن المظهر لا يؤكد بالمضمر .

والأبترُ : الذي لا عقب له ، وهو في الأصل : الشيء المقطوع ، من بترهُ ، أي : قطعه .

وحمار أبتر : لا ذنب له ، ورجل أباتر - بضم الهمزة - : الذي يقطع رحمه .

قال : [ الطويل ]

5327- لَئِيمٌ نَزتْ فِي أنْفهِ خُنزُوانَةٌ *** عَلى قَطْعِ ذِي القُرْبَى أحَذُّ أباتِرُ{[60966]}

وبتر - بالكسر - : انقطع ذنبه .

قال أهل اللغة : الأبتر من الرجال : من لا ولد له ، ومن الدواب : الذي لا ذنب له .

[ وكل من انقطع من الخير أثره ، فهو أبتر . والبترُ : القطع ، بترت الشيء بتراً قطعته قبل الإتمام ، والانبتار : الانقطاع ، والباتر : السيف القاطع ]{[60967]} .

وفي الحديث : «مَا هَذهِ البُتَيْرَاء ؟ »{[60968]} لمن أوتر بركعة واحدة ، فأنكر عليه ابن مسعود .

وخطب زياد خطبة بتراء ، لم يذكر الله تعالى ، ولا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم . وكان للنبي درع يقال لها : «البتراء » ، سميت بذلك لقصرها ، وقال ابن السكيت : الأبتران : العِيْرُ والعبد ، سميا بذلك لقلة خيرهما .

[ والبتريّة فرقة من الزيدية نسبوا إلى المغيرة بن سعد ، ولقبه الأبتر ] .

وقرأ العامة : «شَانِئك » بالألف ، اسم فاعل بمعنى الحال ، أو الاستقبال أو الماضي .

وقرأ ابن عبَّاس{[60969]} : «شنئك » بغير ألف .

فقيل : يجوز أن تكون بناء مبالغة ك «فعال » و«مفعال » ، وقد أثبته سيبويه ؛ وأنشد : [ الكامل ]

5328- حَذِرٌ أموراً لا تَضِيرُ ، وآمِنٌ *** ما ليْسَ مُنْجِيَهُ مِنَ الأقْدَارِ{[60970]}

وقول زيد الخيل : [ الوافر ]

5329- أتَانِي أنَّهُمْ مَزقُونَ عِرْضِي*** جحَاشُ الكِرمَليْنِ لهَا قَديدُ{[60971]}

[ فإن كان بمعنى الحال ، والاستقبال ، فإضافته لمفعوله من نصب ، وإن كان بمعنى المضي فهي لا من نصب .

وقيل : يجوز أن يكون مقصوراً من فاعل كقولهم : بر وبار ، وبرد وبارد ] .

فصل في أقوال العلماء في الآية

اختلف المفسرون [ في المراد ] بقوله تعالى : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر } فقيل : هو العاص بن وائل ، وكانت العرب تسمي من له بنون ، وبنات ، ثم مات البنون ، وبقي البنات : أبتر .

فقيل : إن العاص وقف مع النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه ، فقال له جمع من صناديد قريش : مع من كنت واقفاً ؟ فقال : مع ذلك الأبتر ، وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان من خديجة - رضي الله عنها - فأنزل الله تعالى : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر } أي : المقطوع ذكره من خير الدنيا ، والآخرة .

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : كان أهل الجاهلية ، إذا مات ابن الرجل قالوا : بُتر فلان ، فلما توفي إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل لأصحابه ، فقال : بتر محمد ، فأنزل الله تعالى { إن شانئك هو الأبتر } يعني أبا جهل .

وقال شهر بن عطية : هو عقبة بن أبي معيط{[60972]} .

وقال السديُّ وابن زيد : إن قريشاً كانوا يقولون لمن مات له ذكور ولده : قد بتر فلان ، فلما مات لرسول الله صلى الله عليه وسلم القاسمُ ب «مكة » ، وإبراهيم ب «المدينة » ، قالوا : بتر محمد ، أي : فليس من يقوم بأمره من بعده ، فنزلت الآية{[60973]} .

وقيل : لما أوحى الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم دعا قريشاً إلى الإيمان قالوا : انبتر منا محمد ، أي خالفنا وانقطع عنا ، فأخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أنهم هم المبتورون ، قاله عكرمة وشهر بن حوشب .

ختام السورة:

فصل في المعاني التي احتوتها هذه السورة

قال أهل العلم : قد احتوت هذه السورة على كونها أقصر سورة في القرآن على معان بليغة ، وأساليب بديعة .

منها : دلالة استهلال السورة على أنه - تعالى - أعطاه كثيراً من كثير .

ومنها : إسناد الفعل للمتكلم المعظم نفسه .

ومنها : إيراده بصيغة الماضي تحقيقاً لوقوعه ك{ أتَى أمْرُ اللهِ } .

ومنها : تأكيد الجملة ب «إنَّ » .

ومنها : بناء الفعل على الاسم ليفيد بالإسناد مرتين .

ومنها : الإتيان بصيغة تدل على مبالغة الكثرةِ .

ومنها : حذف الموصوف بالكوثر ؛ لأن في حذفه من فرط الإبهام ما ليس في إثباته .

ومنها : تعريفه ب «أل » الجنسية الدالة على الاستغراق .

ومنها : فاء التعقيب الدالة على التسبب كما تقدم في «الأنعام » سبب الشكر والعبادة .

ومنها : التعريض بمن كانت صلاته ونحره لغير الله تعالى .

ومنها : أن الأمر بالصلاة إشارة إلى الأعمال الدينية التي هي الصلاة وأفضلها كالأمر بالنَّحر .

ومنها : حذف متعلق «انْحَرْ » ؛ إذ التقدير : فصلِّ لربِّك وانحر له .

ومنها : مراعاة السجع ، فإنه من صناعة البديع العاري عن التكلُّف .

ومنها : قوله تعالى : { لِرَبِّكَ } في الإتيان بهذه الصفة دون سائر صفاته الحسنى دلالة على أنه المربِّي ، والمصلح بنعمه ، فلا يلتمس كلّ خير إلا منه .

ومنها : الالتفات من ضمير المتكلم إلى الغائب في قوله تعالى : { لِرَبِّكَ } .

ومنها : جعل الأمر بترك الاحتمال للاستئناف ، وجعله خاتمة للإعراض عن الشانئ ، ولم يسمه ليشمل كلَّ من اتصف - والعياذ بالله - بهذه الصفة القبيحة ، وإن كان المراد به شخصاً معيناً لَعَيَّنَه الله تعالى .

ومنها : التنبيه بذكر هذه الصفة القبيحة ، على أنه لم يتصف إلا بمجرد قيام الصفةِ به ، من غير أن يؤثر في من شنأه شيئاً - ألبتة - لأن من شنأ شخصاً ، قد يؤثر فيه شنؤه .

ومنها : تأكيد الجملة ب «إنَّ » المؤذنة بتأكيد الخبر ، ولذلك يتلقى بها القسم ، وتقدير القسم يصلح هاهنا .

ومنها : الإتيان بضمير الفصل المؤذن بالاختصاص والتأكيد إن جعلنا «هُوَ » فصلاً ، وإن جعلناه مبتدأ فكذلك يفيد التأكيد إذ يصير الإسناد مرتين .

ومنها : تعريف الأبتر ب «أل » المؤذنة بالخصوصية بهذه الصفة ، كأنه قيل : الكامل في هذه الصفة .

ومنها : إقباله تعالى على رسوله بالخطاب ، من أول السورة إلى آخرها .

روى الثعلبي عن أبيّ - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَرَأ : { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر } سقاه اللَّهُ - تعالى - من أنهار الجنَّةِ ، وأعطي مِنَ الأجْرِ عَشْر حسناتٍ بعَددِ كُلِّ قربَانٍ قرَّبهُ العبادُ في كُلَّ عيدٍ ، أو يُقرِّبُونَهُ »{[1]} .

وعن مكحول - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَرَأ : { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر } كَانَ لَهُ ما بيْنَ المَشرِقِ والمَغربِ أبعِرةٌ ، على كُلِّ كرَاريسُ ، كُل كرَّاس مثلُ الدُّنيَا ومَا فيهَا ، كتب بدقة الشَّعرِ ، ليْسَ فِيهَا إلاَّ صفة قصوره ، ومنَازله في الجنَّةِ » .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[60965]:ينظر: الإملاء 2/295.
[60966]:البيت لأبي الرئيس المازني، واسمه عبادة بن طهفة. ينظر اللسان (بتر)، والبحر 8/520، والدر المصون 6/578.
[60967]:سقط من: ب.
[60968]:أخرجه ابن ماجه (1/372)، كتاب: إقامة الصلاة، باب: ما جاء في الوتر بركعة حديث (1176).
[60969]:ينظر: البحر المحيط 8/521، والدر المصون 6/578.
[60970]:تقدم.
[60971]:تقدم.
[60972]:أخرجه ابن سعد وابن عساكر والزبير بن بكار كما في "الدر المنثور" (6/690)، وينظر تفسير الماوردي (6/356).
[60973]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/691)، وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن السدي.