غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ} (3)

1

قال عامة أهل التفسير كابن عباس ومقاتل والكلبي : إن العاص بن وائل وجمعاً من صناديد قريش يقولون : إن محمداً أبتر ، لا ابن له يقوم مقامه بعده ، فإذا مات انقطع ذكره واسترحنا منه . وكان قد مات ابنه عبد الله ابن خديجة ، فأنزل الله تعالى هذه السورة كما مر في أول " المائدة " ، والشنء البغض ، والشانئ المبغض ، والبتر في اللغة استئصال القطع ، ومنه الأبتر : المقطوع الذنب ، فاستعير للذي لا عقب له ، ولمن انقطع خبره وذكره ، فبين الله تعالى بهذه الصيغة المفيدة للحصر أن أولئك الكفرة هم الذين ينقطع نسلهم وذكرهم ، وأن نسل محمد صلى الله عليه وسلم ثابت باق إلى يوم القيامة ، كما أخبر بقوله " كل حسب ونسب ينقطع إلا حسبي ونسبي " ، وإن دين الإسلام لا يزال يعلو ويزيد والكفر يعلى ويقهر إلى أن يبلغ الدين مشارق الأرض ومغاربهما ، كما قال { أو لم يروا إنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } [ الرعد :41 ] قال بعض أهل العلم : إن الكفار لما شتموه بأنه أبتر أجاب الله عنه من غير واسطة فقال { إن شانئك هو الأبتر } ، وهكذا سنة الأحباب إذا سمعوا من يشتم حبيبهم ، تولوا بأنفسهم جوابه ، ونظيره في القرآن كثير { قالوا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم } [ سبأ :7 ] إلى قوله { أم به جنة } [ سبأ :8 ] ، فقال سبحانه { بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد } [ سبأ :8 ] ، وقالوا : هو مجنون ، فأقسم الله { ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون } [ القلم :1 ، 2 ] ، وقالوا : لست مرسلاً ، فقال { يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم } [ يس : ا ، 3 ] { وقالوا أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون } [ الصافات :36 ] فرد عليهم بقوله { بل جاء بالحق وصدق المرسلين } [ الصافات :36 ] ، ثم ذكر وعيد خصمائه بقوله { إنكم لذائقوا العذاب الأليم } [ الصافات :38 ] ، وحين قال حاكياً : { أم يقولون شاعر }[ الطور :30 ] قال { وما علمناه الشعر } [ يس :69 ] ، وقالوا : { إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون }[ الفرقان :4 ] فأجابهم بقوله : { فقد جاؤا ظلماً وزوراًً } [ الفرقان :4 ] { وقالوا أساطير الأولين } [ الفرقان :5 ، 6 ] فقال :{ قل أنزله الذي يعلم السر } [ الفرقان :5 ، 6 ] . { وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق }[ الفرقان :7 ] فأجابهم بقوله : { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق }[ الفرقان :20 ] . فما أجل هذه الكرامة ! وقال أهل التحقيق السالكون : بل الواصلون لهم ثلاث درجات : أعلاها أن يكونوا مستغرقين بقلوبهم وأرواحهم في نور جلال الله ، وأشار إليهما بقوله { إنا أعطيناك الكوثر } ، فإن روحه القدسية متميزة في الكثرة عن سائر الأرواح البشرية بالكم ؛ لأنها أكثر مقدمات ، وبالكيف ؛ لأنها أسرع انتقالاً من المقدمات إلى النتائج . وأوسطها أن يكونوا مشتغلين بالطاعات والعبادات البدنية ، وأشار إليها بقوله { فصل لربك } ، وأدناها أن يكونوا في مقام منع النفس عن الانتصاب إلى اللذات العاجلة ، وهي قوله { وانحر } ، فإن منع النفس الشهوية جارية مجرى الذبح والنحر . ومن البيان أن ترتيب السالك هو الأخذ من الأدون إلى الأعلى ، وإنما ورد القرآن بما ورد تنبيهاً على أنه صلى الله عليه وسلم كان في نهاية الوصول . وأن هذا الترتيب بالنسبة إليه ينعكس ، وذلك أنه جاء من الحق إلى الخلق . ثم أشار بقوله { إن شانئك هو الأبتر } إلى أن دواعي النفس التي هي أعدى الأعداء لا بقاء لها ، وإنما هي لذات زائلة ، وتخيلات فانية ، { والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً } [ الكهف :46 ] .

/خ3