محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ} (3)

{ إن شانئك هو الأبتر } قال ابن جرير{[7561]} : أي إن مبغضك يا محمد وعدوك هو الأبتر ، يعني الأقل الأذل المنقطع دابره ، الذي لا عقب له .

روى ابن إسحاق عن يزيد بن رومان قال : " كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( دعوه ، فإنه رجل أبتر لا عقب له ، فإذا هلك انقطع ذكره ) ، فأنزل الله هذه السورة " . وعن عطاء قال : " نزلت في أبي لهب ، وذلك حين مات ابن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذهب أبو لهب إلى المشركين فقال : بتر محمد الليلة ، فأنزل الله في ذلك السورة " . وقال شمر بن عطية : نزلت في عقبة بن أبي معيط ، قال ابن كثير : والآية تعم جميع من اتصف بذلك ممن ذكر وغيرهم .

وقال الإمام : كان المستهزئون من قريش كالعاص بن وائل وعقبة بن أبي معيط وأبي لهب وأمثالهم إذا رأوا أبناء النبي صلى الله عليه وسلم يموتون يقولون : بتر محمد ، أي لم يبق له ذكر في أولاده من بعده ، ويعدون ذلك عيبا يلمزونه به ، وينفرون به الناس من أتباعه ، وكانوا إذا رأوا ضعف المسلمين وفقرهم وقلتهم يستخفون بهم ، ويهونون أمرهم ، ويعدون ذلك مغمزا في الدين ، ويأخذون القلة والضعف دليلا على أن الدين ليس بحق ، ولو كان حقا لنشأ مع الغنى والقوة ، شأن السفهاء مع الحق في كل زمان أو مكان غلب فيه الجهل ، وكان المنافقون إذا رأوا ما فيه المؤمنون من الشدة والبأساء يمنون أنفسهم بغلبة إخوانهم القدماء من الجاحدين ، ينظرون السوء بالمسلمين لقلة عددهم ، وخلو أيديهم من المال ، وكان الضعفاء من حديثي العهد بالإسلام من المؤمنين تمر بنفوسهم خواطر السوء عندما تشتد عليهم حلقات الضيق ، فأراد الله سبحانه أن يمحص من نفوس هؤلاء ، ويبكت الآخرين ، فأكد الخبر لنبيه أن ما يخيله النظر القصير قليلا هو الكثير البالغ الغاية في الكثرة ، ليؤكد له الوعد بأنه هو الفائز ، وأن متبعه هو الظافر ، وأن عدوه هو الخائب الأبتر الذي يمحى ذكره ، ويعفى أثره .

تنبيه : لما روي من سبب نزول هذه السورة مما رويناه ذهب إمام اللغة ابن جني إلى تأويل الكوثر بالذرية الكثيرة ، وهو معنى بديع فيه مناسب لسبب النزول .

قال ابن جني في ( شرح ديوان المتنبي ) في قوله يمدح طاهر بن الحسين العلوي :

وأبهر آيات التهامي أنه***أبوك وأجدى مالكم من مناقب

في جملة ما أملاه علي أبو الفضل العروضي : أن قريشا وأعداء النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون : إن محمدا أبتر لا عقب له ، فإذا مات استرحنا منه ، فأنزل الله تعالى : { إنا أعطيناك الكوثر } العدد الكثير ، ولست بالأبتر الذي قالوه ، ومراده بالعدد الكثير الذرية ، وهم أولاد فاطمة . قال العروضي : فإن قيل : الإنسان بالأبناء والآباء والأمهات ، قلنا : هذا خلاف حكم الله تعالى ، فإنه قد قال {[7562]} { ومن ذريته داود وسليمان } إلى قوله { ويحيى وعيسى } ، فجعل عيسى من أولاد إبراهيم ومن ذريته ، ولا خلاف في أنه لم يكن لعيسى أب انتهى .

وقد بسطنا أدلة صحة انتساب الأسباط إلى أجدادهم في كتاب ( أشرف الأسباط ) بما لا مزيد عليه فراجعه .


[7561]:انظر الصفحة رقم 328 من الجزء الثلاثين (طبعة الحلبي الثانية).
[7562]:6 /الأنعام/ 84.