والنص القرآني يصور الريح حية مدركة مأمورة بالتدمير : ( تدمر كل شيء بأمر ربها )وهي الحقيقة الكونية التي يحفل القرآن بإشعارها للنفوس . فهذا الوجود حي . وكل قوة من قواه واعية . وكلها تدرك عن ربها وتتوجه لما تكلف به من لدنه . والإنسان أحد هذه القوى . وحين يؤمن حق الإيمان ، ويفتح قلبه للمعرفة الواصلة ، يستطيع أن يعي عن القوى الكونية من حوله ، وأن يتجاوب معها ، وأن تتجاوب معه ، تجاوب الأحياء المدركة ، بغير الصورة الظاهرة التي يعرفها الناس من الحياة والإدراك . ففي كل شيء روح وحياة ، ولكننا لا ندرك هذا لأننا محجوبون بالظواهر والأشكال عن البواطن والحقائق . والكون من حولنا حافل بالأسرار المحجوبة بالأستار ، تدركها البصائر المفتوحة ولا تراها الأبصار .
وقد أدت الريح ما أمرت به ، فدمرت كل شيء ( فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ) . . أما هم وأما أنعامهم وأما أشياؤهم وأما متاعهم فلم يعد شيء منه يرى . إنما هي المساكن قائمة خاوية موحشة ، لا ديار فيها ولا نافخ نار . . ( كذلك نجزي القوم المجرمين ) . . سنة جارية وقدر مطرد في المجرمين .
فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم : فاجأتهم الريح فدمرتهم ، ولم يبق شيء يرى إلا مساكنهم .
كذلك نجزي القوم المجرمين : بمثل تلك العقوبة يجزي الله كل من كذب رسله .
25- { تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين } .
إنها جزء من هذا الكون الخاضع لأمر الله ، المسبح بحمده ، فهذه الريح تحولت إلى عذاب أليم ، وإلى ريح صرصر عاتية ، تأخذ بأنفاس المكذبين وتقطع رقابهم .
وقد ورد أنهم حفروا لأنفسهم حفرا ، وربطوا أنفسهم بالسلاسل ، وتركوا رقابهم فوق الأرض ، فكانت الريح تقطع أعناقهم ، وتترك أجسامهم ، كالنخلة الهالكة التي قطع أعلاها المثمر المفيد وترك أسفلها قليل الفائدة .
وفي سورة الحاقة يقول الله تعالى : { وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ( 6 ) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ( 7 ) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ( 8 ) } . ( الحاقة : 6-8 ) .
لقد أهلكهم الله هلاكا مدمرا ، جزاء عتوهم وكفرهم وعنادهم ، وجعل مثل هذا الهلاك لكل من أجرم وكفر .
{ كذلك نجزي القوم المجرمين } .
أي : مثل تلك العقوبة التي نزلت بعاد قوم هود ، يعاقب الله بها كل من أجرم وكذب وعتا وتكبر ، وكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر .
قال الإمام فخر الدين الرازي : والمقصود منه تخويف أهل مكة .
وفي السنة الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عصفت الريح يقول : ( اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها ، وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها ، وشر ما أرسلت به ) . فإذا تخيلت السماء تغير لون الرسول صلى الله عليه وسلم ، وخرج ودخل ، وأقبل وأدبر ، فإذا أمطرت سُرِّى عنه ، فسألته أم المؤمنين عائشة فقال : ( لعله يا عائشة كما قال قوم هود : { فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا . . . }25 ( الأحقاف : 24 ) ) .
أخرج الحديث مسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، عن عائشة ، وأورده ابن كثير في تفسير الآية مع غيره من الأحاديث النبوية .
{ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ } تمر عليه من شدتها ونحسها . فسلطها الله عليهم { سبع ليالي وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية } [ { بِأَمْرِ رَبِّهَا } أي : بإذنه ومشيئته ] . { فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ } قد تلفت مواشيهم وأموالهم وأنفسهم . { كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } بسبب جرمهم وظلمهم .
قوله تعالى : { تدمر كل شيء } مرت به من رجال عاد وأموالها ، { بأمر ربها } ، فأول ما عرفوا أنها عذاب رأوا ما كان خارجاً من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح بين السماء والأرض ، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم ، فجاءت الريح فقلعت أبوابهم وصرعتم ، وأمر الله الريح فأمالت عليهم الرمال ، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام ، لهم أنين ، ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال فاحتملتم فرمت بهم البحر .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الأسفرايني ، أنبأنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ ، أنبأنا يونس بن وهب ، أنبأنا عمرو بن الحارث ، أنبأنا النضر . حدثه عن سليمان بن يسار ، عن عائشة أنها قالت : " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه بياض لهواته ، وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه ، فقلت : يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا ، رجاء أن يكون فيه المطر ، وإذا رأيته عرف في وجهك الكراهية ، فقال : يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ، قد عذب قوم بالريح ، وقد رأى قوم العذاب فقالوا : { هذا عارض ممطرنا } الآية . { فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم } قرأ عاصم ، وحمزة ، ويعقوب : ( يرى ) بضم الياء مساكنهم برفع النون ، يعني : لا يرى شيء إلا مساكنهم ، وقرأ الآخرون : بالتاء وفتحها ، مساكنهم نصب يعني لا ترى أنت يا محمد إلا مساكنهم لأن السكان والأنعام بادت بالريح ، فلم يبق إلا هود ومن آمن معه . { كذلك نجزي القوم المجرمين }
{ تدمر } أي تهلك إهلاكاً عظيماً شديداً سريعاً تأتي بغتة على طريق الهجوم { كل شيء } أي أتت عليه-{[58978]} ، هذا شأنها فمن سلم منها كهود عليه الصلاة والسلام ومن آمن به رضي الله عنهم فسلامته أمر خارق للعادة كما أن أمرها في {[58979]}إهلاك كل ما{[58980]} مرت عليه أمر خارق للعادة{[58981]} ، والجملتان يحتمل أن {[58982]}تكونا وصفاً لريح{[58983]} ويحتمل وهو أعذب وأهز للنفس وأعجب أن تكونا{[58984]} استئنافاً ، ولما كان ربما ظن ظان{[58985]} أنها مؤثرة بنفسها قال : { بأمر ربها } أي المبدع لها والمربي والمحسن بالانتقام بها من أعدائه .
ولما ذكرها{[58986]} بهذا الذكر الهائل ، وكان التقدير : جاءتهم فدمرتهم لم{[58987]} تترك منهم أحداً ، سبب عن ذلك زيادة في التهويل قوله : { فأصبحوا } ولما اشتد إصغاء السامع إلى كيفية إصباحهم ، قال مترجماً لهلاكهم : { لا ترى{[58988]} } أي أيها الرائي ، فلما عظمت روعة القلب وهول{[58989]} النفس قال تعالى : { إلا مساكنهم } أي جزاء على إجرامهم ، فانطبقت العبارة على المعنى ، وعلم أن المراد بالإصباح مطلق الكون ، ولكنه عبر به لأن المصيبة فيه أعظم ، وعلم أنه لم يبق من المكذبين ديار ولا نافخ نار ، وهذا كناية عن عموم الهلاك{[58990]} لهم سواء كان الرمل دفنهم{[58991]} أو على وجه الأرض مرتبين كما في الآية الأخرى
( فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية }[ الحاقة : 7 ] وروي أن هوداً عليه الصلاة والسلام لما أحس بالريح اعتزل بمن آمن معه في حظيرة فأمالت الريح على الكفرة الأحقاف التي كانت مجتمعهم إذا تحدثوا ومحل بسطهم إذا لعبوا ، فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام ، ثم كشفت عنهم فاحتملتهم فقذفتهم في البحر وكذا{[58992]} أهلكت مواشيهم وكل شيء لهم فيه روح ولم يصب هوداً عليه الصلاة والسلام ومن معه رضي الله عنهم منها-{[58993]} إلا ما لين أبشارهم ونعش{[58994]} أرواحهم ، والآية{[58995]} على هذا على حقيقتها في أنه لم يصبح الصباح ومنهم أحد يرى .
ولما طارت لهذا الهول الأفئدة واندهشت الألباب ، قال تعالى منبهاً على زبدة المراد بطريق الاستئناف : { كذلك } أي مثل هذا الجزاء الهائل{[58996]} في أصله أو جنسه أو نوعه أو شخصه من الإهلاك{[58997]} { نجزي } بعظمتنا دائماً إذا شئنا { القوم } وإن كانوا أقوى ما يكون { المجرمين * } أي العريقين في الإجرام الذين يقطعون ما حقه الوصل فيصلون{[58998]} ما حقه القطع ، وذلك الجزاء هو الإهلاك على هذا الوجه الشنيع ، فاحذروا أيها العرب مثل ذلك إن لم ترجعوا .