الحديث في هذه السورة عن تلك الليلة الموعودة المشهودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وابتهال . ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى . ليلة بدء نزول هذا القرآن على قلب محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته ، وفي دلالته ، وفي آثاره في حياة البشرية جميعا . العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري :
والليلة التي تتحدث عنها السورة هي الليلة التي جاء ذكرها في سورة الدخان : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ، إنا كنا منذرين ، فيها يفرق كل أمر حكيم . أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين . رحمة من ربك إنه هو السميع العليم ) . . والمعروف أنها ليلة من ليالي رمضان ، كما ورد في سورة البقرة : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) . . أي التي بدأ فيها نزول القرآن على قلب الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ليبلغه إلى الناس . وفي رواية ابن إسحاق أن أول الوحي بمطلع سورة العلق كان في شهر رمضان ، ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يتحنث في غار حراء .
وقد ورد في تعيين هذه الليلة آثار كثيرة . بعضها يعين الليلة السابعة والعشرين من رمضان . وبعضها يعين الليلة الواحدة والعشرين . وبعضها يعينها ليلة من الليالي العشر الأخيرة . وبعضها يطلقها في رمضان كله . فهي ليلة من ليالي رمضان على كل حال في أرجح الآثار .
واسمها : ( ليلة القدر ) . . قد يكون معناه التقدير والتدبير . وقد يكون معناه القيمة والمقام . وكلاهما يتفق مع ذلك الحدث الكوني العظيم . حدث القرآن والوحي والرسالة . . وليس أعظم منه ولا أقوم في أحداث هذا الوجود . وليس أدل منه كذلك على التقدير والتدبير في حياة العبيد .
وهي خير من ألف شهر . والعدد لا يفيد التحديد . في مثل هذه المواضع من القرآن . إنما هو يفيد التكثير . والليلة خير من آلاف الشهور في حياة البشر . فكم من آلاف الشهور وآلاف السنين قد انقضت دون أن تترك في الحياة بعض ما تركته هذه الليلة المباركة السعيدة من آثار وتحولات .
( سورة القدر مكية ، وآياتها 5 آيات ، نزلت بعد سورة عبس )
والحديث في هذه السورة عن تلك الليلة الموعودة المشهودة ، التي سجلها الوجود كله ، في فرح وغبطة وابتهال ، ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى ، ليلة بدء نزول القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم . ليلة ذلك الحديث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته وفي دلالته ، وفي آثاره في حياة البشرية ، جميعا ، العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري .
وهي ليلة نزل فيها القرآن ذو قدر ، على نبي ذي قدر ، لأمة ذات قدر .
هي ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك ، قال تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان . . . ( البقرة : 185 ) .
وقد وردت في تعيين هذه الليلة آثار كثيرة ، منها ما ورد في البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إني رأيت ليلة القدر ثم نسّيتها و أنسيتها ، فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان )i .
ويتوقع طلبها في أوتار الليالي العشر الأواخر ، أي : 21 ، 23 ، 25 ، 27 ، 29 ، وفي كثير من الروايات أنها ليلة 27 من رمضان .
وعظمة هذه الليلة مستمدة من نزول القرآن الكريم فيها ، ذلك الكتاب الخالد الذي وصل الأرض بالسماء ، وكان هديه رب العباد للعباد ، وكان النور والهدى ، والسلامة والسلام للخلق أجمعين .
1- إنّا أنزلناه في ليلة القدر . نزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا جملة واحدة ، ثم نزل منجما على ثلاث وعشرين سنة ، وبدأ الإنزال في ليلة مقدرة لها شرفها عند الله ، وزادها شرفا بدء نزول القرآن فيها .
2- وما أدراك ما ليلة القدر . إن شأنها لعظيم عظمة لا تقدر ، ففيها فاض النور على الوجود كله ، وأسبغ الله فيها السلام والبشرى على البشرية بما تضمنه هذا القرآن من عقيدة وتصور ، وشريعة وآداب ، تشيع السلام في الأرض والضمير .
3- ليلة القدر خير من ألف شهر . أي هي –بما نزل فيها من ذكر وقرآن وهداية- أفضل من ألف شهر من شهور الجاهلية ، أو العبادة والعمل الصالح فيها أفضل من العبادة في ألف شهر .
روي عن مجاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر ، فتعجب المسلمون من ذلك ، فأنزل الله عز وجل : إنّا أنزلناه في ليلة القدر* وما أدراك ما ليلة القدر* ليلة القدر خير من ألف شهر .
4- تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر . تنزل الملائكة وجبريل الأمين في هذه الليلة بالسلام والأمان والرحمة لعباد الله ، وتنزل بأمر الله وتقديره ، من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة إلى عام قابل .
5- سلام هي حتى مطلع الفجر . هي سلام وأمان ، وثواب موصول ، وعبادة مضاعفة الثواب إلى طلوع الفجر .
وفي الصحيحين : ( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) .
فهي ليلة التجرد والإخلاص لله ، ليلة نزول القرآن ، وعبادة الرحمان ، ليلة تغمر الملائكة الأرض بالسلام والأمان من غروب الشمس إلى طلوع الفجر .
{ إنّا أنزلناه في ليلة القدر 1 وما أدراك ما ليلة القدر 2 ليلة القدر خير من ألف شهر 3 تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر 4 سلام هي حتى مطلع الفجر 5 }
ليلة القدر : القدر : الشرف والقيمة والمقام .
1- إنّا أنزلناه في ليلة القدر .
أنزل الله تعالى هذا القرآن الكريم من علياء السماء في ليلة مباركة ، هي ليلة القدر .
قال تعالى : إنّا أنزلناه في ليلة مباركة إنّا كنا منذرين . ( الدخان : 3 ) .
وقد أضاف الحق سبحانه وتعالى إنزال القرآن الكريم إليه سبحانه تشريفا لهذا الكتاب ، وتأكيدا لصدق محمد صلى الله عليه وسلم حين يبلّغ عن ربه ، وأنه حقا من عند الله .
قال تعالى : وبالحق أنزلناه وبالحق نزل . . . ( الإسراء : 105 ) .
وسميت بلية القدر لأن القدر يطلق على الشّرف والرفعة ، تقول : فلان ذو قدر ، أي : ذو منزلة عالية وقدر عظيم ، وأيضا لأنه نزل فيها قرآن ذو قدر ، على نبيّ قدر ، لأمة ذات قدر .
وللقرآن الكريم ثلاثة تنزّلات :
التنزل الأول : من عند الله تعالى إلى اللوح المحفوظ في السماء السابعة .
قال تعالى : بل هو قرآن مجيد* في لوح محفوظ . ( البروج : 21 ، 22 ) .
التنزل الثاني : من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، جملة واحدة في ليلة القدر .
قال تعالى : إنّا أنزلناه في ليلة القدر .
التنزل الثالث : من بيت العزة في السماء الدنيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم منجّما حسب الوقائع والحوادث في خلال ثلاثة وعشرين عاما .
قال تعالى : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزّلناه تنزيلا . ( الإسراء : 106 ) .
وقال تعالى : وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبّت به فؤادك ورتّلناه ترتيلا* ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا . ( الفرقان : 32 ، 33 ) .
والسر في تكرار نزول القرآن الكريم هو تكريم هذا الكتاب ، باعتباره آخر الكتب السماوية ، فنزل من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، جملة واحدة في ليلة القدر ، إحدى ليالي شهر رمضان .
ثم نزل منجما أي سورة أو بعض سورة ، أو آية أو آيات ، حتى كمل نزوله في ثلاثة وعشرين عاما هي مدة رسالته صلى الله عليه وسلم ، منها ثلاثة عشر عاما في مكة وعشرة أعوام في المدينة المنورة ، ثم لقى صلى الله عليه وسلم ربه في المدينة وعمره ثلاثة وستون عاما .
{ 1 - 5 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ }
يقول تعالى مبينًا لفضل القرآن وعلو قدره : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } كما قال تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } وذلك أن الله [ تعالى ] ، ابتدأ بإنزاله{[1461]} في رمضان [ في ] ليلة القدر ، ورحم الله بها العباد رحمة عامة ، لا يقدر العباد لها شكرًا .
وسميت ليلة القدر ، لعظم قدرها وفضلها عند الله ؛ ولأنه يقدر فيها ما يكون في العام من الأجل والأرزاق والمقادير القدرية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
مدنيّة في قول أكثر المفسرين ، قال علي بن الحسين بن واقد : هي أوّل سورة نزلت بالمدينة ، وروى شيبان عن قتادة أنها مكيّة ، وهي رواية نوفل بن أبي عقرب عن ابن عباس .
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
سورة القدر مكية في قول الأكثرين ، ومدنية في قول الضحاك . وذكر الواقدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة .
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الحديث في هذه السورة عن تلك الليلة الموعودة المشهودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وابتهال . ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى . ليلة بدء نزول هذا القرآن على قلب محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته ، وفي دلالته ، وفي آثاره في حياة البشرية جميعا . العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت هذه السورة في المصاحف التفسير وكتب السنة سورة القدر وسماها ابن عطية في تفسيره وأبو بكر الجصاص في أحكام القرآن سورة ليلة القدر . وهي مكية في قول الجمهور وهو قول جابر بن زيد ويروى عن ابن عباس . وعن ابن عباس أيضا والضحاك أنها مدنية، ونسبه القرطبي إلى الأكثر . وقال الواقدي : هي أول سورة نزلت بالمدينة ويرجحه أن المتبادر أنها تتضمن الترغيب في إحياء ليلة القدر، وإنما كان ذلك بعد فرض رمضان بعد الهجرة ... أغراضها: التنويه بفضل القرآن وعظمته بإسناد إنزاله إلى الله تعالى . . . والرد على الذين جحدوا أن يكون القرآن منزلا من الله تعالى . ورفع شأن الوقت الذي أنزل فيه ونزول الملائكة في ليلة إنزاله . وتفضيل الليلة التي توافق ليلة إنزاله من كل عام . ويستتبع ذلك تحرير المسلمين على تحين ليلة القدر بالقيام والتصدق . ...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في السورة تنويه بليلة القدر ، وتقرير إنزال القرآن فيها . وبعض الروايات تذكر أنها مدنية . غير أن جميع التراتيب المروية تسلكها في عداد السور المكية . وأسلوبها ووضعها في المصحف بعد سورة العلق قد يؤيدان مكيتها وتبكيرها في النزول . ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
في هذه السورة المكية حديثٌ عن إنزال القرآن في ليلة القدر التي هي من الليالي التي لا يستطيع أحدٌ أن يبلغ الدرجة الحقيقية العميقة في تقدير عظمتها وقداستها ، حتى إنَّ هذه الليلة الواحدة تفوق في فضلها ألف شهر ، وتنفتح السماء في أجوائها ليتنزّل الملائكة والروح الموكلون بالمهمات التي يكلفهم الله بها من كل أمرٍ يتصل بالحياة والإنسان ، في ما يقدّره الله للناس في أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم . وهي - بعد ذلك - ليلة السلام الذي يغمر الكون من خلال ألطاف الله وفيوضاته على عباده ، والتي تستمر إلى مطلع الفجر ...
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله : { إنا أنزلناه } يعني القرآن أنزله الله عز وجل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ... { في ليلة القدر } من شهر رمضان ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره : إنا أنزلنا هذا القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القَدْر ، وهي ليلة الحُكْم التي يقضي الله فيها قضاء السنة ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ إنا أنزلناه في ليلة القدر } قال أهل التأويل : إن قوله : { أنزلناه } يعني ( القرآن ، ...فمن قال : أنزل القرآن في ليلة القدر ، فهم مختلفون ، قال بعضهم : أنزل القرآن جملة إلى السماء الدنيا من اللوح المحفوظ في تلك الليلة ، وهي في شهر رمضان ، كقوله : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } ( البقرة : 185 ) أي أنزل من اللوح المحفوظ ، ثم أنزل من السماء الدنيا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتفاريق على قدر الحاجة من الأمر والنهي والحلال والحرام والمواعظ وكل ما يحتاج إليه إلى العام القابل جملة ، ثم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما بالتفاريق ، والله أعلم ....
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
... وفي تسميتها ليلة القدر أربعة أوجه :
أحدها : لأن الله تعالى قدر فيها إنزال القرآن .
الثاني : لأن الله تعالى يقدر فيها أمور السنة ، أي يقضيها ، وهو معنى قول مجاهد .
الثالث : لعظم قدرها وجلالة خطرها ، من قولهم رجل له قدر ، ذكره ابن عيسى .
الرابع : لأن للطاعات فيها قدراً عظيماً وثواباً جزيلاً .
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والقدر: كون الشيء على مساواة غيره من غير زيادة ولا نقصان ، ففي ليلة القدر تجدد الأمور على مقاديرها ، جعلها الله في الآجال والأرزاق والمواهب التي يجعلها الله للعباد ...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
ليلة القدر عبارة عن الليلة التي ينكشف فيها شيء من الملكوت ، وهو المراد بقوله تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } . ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أحدها : أن أسند إنزاله إليه ، وجعله مختصاً به دون غيره.
والثاني : أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه.
والثالث : الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ إنا } أي لما لنا من العظمة { أنزلناه } أي هذا الذكر كله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا مرتباً هذا الترتيب الذي جمع الله الأمة المعصومة عليه ، وهو الموجود الآن ...{ في ليلة القدر } أي الليلة التي لها قدر عظيم وشرف كبير ، والأعمال فيها ذات قدر وشرف ، فكانت بذلك كأنها مختصة بالقدر ، فلا قدر لغيرها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
( إنا أنزلناه في ليلة القدر . وما أدراك ما ليلة القدر ? ) . . ( ليلة القدر خير من ألف شهر ) . .
والنصوص القرآنية التي تذكر هذا الحدث تكاد ترف وتنير . بل هي تفيض بالنور الهادئ الساري الرائق الودود . نور الله المشرق في قرآنه :( إنا أنزلناه في ليلة القدر )ونور الملائكة والروح وهم في غدوهم ورواحهم طوال الليلة بين الأرض والملأ والأعلى :
( تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ) . . ونور الفجر الذي تعرضه النصوص متناسقا مع نور الوحي ونور الملائكة ، وروح السلام المرفرف على الوجود وعلى الأرواح السارية في هذا الوجود :( سلام هي حتى مطلع الفجر ) .
والليلة التي تتحدث عنها السورة هي الليلة التي جاء ذكرها في سورة الدخان : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ، إنا كنا منذرين ، فيها يفرق كل أمر حكيم . أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين . رحمة من ربك إنه هو السميع العليم ) . . والمعروف أنها ليلة من ليالي رمضان ، كما ورد في سورة البقرة : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) . . أي التي بدأ فيها نزول القرآن على قلب الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ليبلغه إلى الناس . وفي رواية ابن إسحاق أن أول الوحي بمطلع سورة العلق كان في شهر رمضان ، ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يتحنث في غار حراء .
وقد ورد في تعيين هذه الليلة آثار كثيرة . بعضها يعين الليلة السابعة والعشرين من رمضان . وبعضها يعين الليلة الواحدة والعشرين . وبعضها يعينها ليلة من الليالي العشر الأخيرة . وبعضها يطلقها في رمضان كله . فهي ليلة من ليالي رمضان على كل حال في أرجح الآثار .
واسمها : ( ليلة القدر ) . . قد يكون معناه التقدير والتدبير . وقد يكون معناه القيمة والمقام . وكلاهما يتفق مع ذلك الحدث الكوني العظيم . حدث القرآن والوحي والرسالة . . وليس أعظم منه ولا أقوم في أحداث هذا الوجود . وليس أدل منه كذلك على التقدير والتدبير في حياة العبيد .
وهي خير من ألف شهر . والعدد لا يفيد التحديد . في مثل هذه المواضع من القرآن . إنما هو يفيد التكثير . والليلة خير من آلاف الشهور في حياة البشر . فكم من آلاف الشهور وآلاف السنين قد انقضت دون أن تترك في الحياة بعض ما تركته هذه الليلة المباركة السعيدة من آثار وتحولات .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اشتملت هذه الآية على تنويه عظيم بالقرآن فافتتحت بحرف ( إنَّ ) وبالإِخبار عنها بالجملة الفعلية ، وكلاهما من طرق التأكيد والتقوّي .
ويفيد هذا التقديم قصراً وهو قصر قلب للرد على المشركين الذي نفوا أن يكون القرآن منزلاً من الله تعالى .
وفي ضمير العظمة وإسناد الإِنزال إليه تشريف عظيم للقرآن .
وفي الإِتيان بضمير القرآن دون الاسم الظاهر إيماء إلى أنه حاضر في أذهان المسلمين لشدة إقبالهم عليه فكون الضمير دون سبق معاد إيماء إلى شهرته بينهم .
فيجوز أن يراد به القرآنُ كلُّه فيكون فعل : « أنزلنا » مستعملاً في ابتداء الإِنزال لأن الذي أُنزل في تلك الليلة خمس الآيات الأول من سورة العلق ثم فتر الوحي ثم عاد إنزاله منجماً ولم يكمل إنزال القرآن إلا بعد نيف وعشرين سنة ، ولكن لما كان جميع القرآن مقرراً في علم الله تعالى مقدارُه وأنه ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم منجَّماً حتى يتم ، كان إنزاله بإنزال الآيات الأُول منه لأن ما ألحق بالشيء يعد بمنزلة أوله فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه " الحديث ، فاتفق العلماء على أن الصلاة فيما أُلْحق بالمسجد النبوي لها ذلك الفضل ، وأن الطواف في زيادات المسجد الحرام يصحّ كلما اتّسع المسجد .
ومن تسديد ترتيب المصحف أن وضعت سورة القدر عقب سورة العلق مع أنها أقلّ عدَد آياتٍ من سورة البينة وسُورٍ بعدها ، كأنه إماء إلى أن الضمير في { أنزلناه } يعود إلى القرآن الذي ابتدئ نزوله بسورة العلق .
ويجوز أن يكون الضمير عائداً على المقدار الذي أنزل في تلك الليلة وهو الآياتُ الخمسُ من سورة العلق فإن كل جزء من القرآن يسمى قرآناً ، وعلى كلا الوجهين فالتعبير بالمضي في فعل { أنزلناه } لا مجاز فيه . وقيل : أطلق ضمير القرآن على بعضه مجازاً بعلاقة البعضية .
والآية صريحة في أن الآيات الأوَل من القرآن نزلت ليلاً وهو الذي يقتضيه حديث بَدْء الوحي في « الصحيحين » لقول عائشة فيه : « فكان يتحنث في غار حراء اللياليَ ذواتِ العَدَد » فكان تعبده ليلاً ، ويظهر أن يكون الملك قد نزل عليه أثر فراغه من تعبده ، وأما قول عائشة : « فرجع بها رسول الله يرجف فُؤاده » فمعناه أنه خرج من غار حراء إثر الفجر بعد انقضاء تلقينه الآيات الخمس إذ يكون نزولها عليه في آخر تلك الليلة وذلك أفضل أوقات الليل كما قال تعالى : { والمستغفرين بالأسحار } [ آل عمران : 17 ] .
وليلة القدر : اسم جعله الله للَّيلة التي ابتدئ فيها نزول القرآن . ويظهر أن أول تسميتها بهذا الاسم كان في هذه الآية ولم تكن معروفة عند المسلمين وبذلك يكون ذكرها بهذا الاسم تشويقاً لمعرفتها ولذلك عقب بقوله : { وما أدراك ما ليلة القدر } [ القدر : 2 ] .
والقَدْر الذي عُرفت الليلة بالإضافة إليه هو بمعنى الشرفِ والفضل كما قال تعالى في سورة الدخان ( 3 ) : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } أي ليلة القدر والشرف عند الله تعالى مما أعطاها من البركة فتلك ليلة جعل الله لها شرفاً فجعلها مظهراً لما سبق به علمه فجعلها مبدأ الوحي إلى النبي .
والتعريف في { القدر } تعريف الجنس . ولم يقل : في ليلةِ قدرٍ ، بالتنكير لأنه قُصد جعل هذا المركب بمنزلة العلَم لتلك الليلة كالعلَم بالغلبة ، لأن تعريف المضاف إليه باللام مع تعريف المضاف بالإِضافة أوْغَلُ في جعل ذلك المركب لَقَباً لاجتماع تعريفين فيه .
وقد ثبت أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان قال تعالى : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } [ البقرة : 185 ] . ولا شك أن المسلمين كانوا يعلمون ذلك إذ كان نزول هذه السورة قبل نزول سورة البقرة بسنين إن كانت السورة مكية أو بمُدة أقل من ذلك إن كانت السورة مدنية ، فليلة القدر المرادة هنا كانت في رمضان وتأيد ذلك بالأخبار الصحيحة من كونها من ليالي رمضان في كل سنة .
وأكثر الروايات أن الليلة التي أنزل فيها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم كانت ليلةَ سَبْع عشرة من رمضان . وسيأتي في تفسير الآيات عقب هذه الكلامُ في هل ليلة ذات عدد متماثل في جميع الأعوام أو تختلف في السنين ؟ وفي هل تقع في واحدة من جميع ليالي رمضان أو لا تخرج عن العشر الأواخر منه ؟ وهل هي مخصوصة بليلة وترٍ كما كانت أول مرّة أوْ لا تختص بذلك ؟
والمقصود من تشريف الليلة التي كان ابتداء إنزال القرآن فيها تشريف آخر للقرآن بتشريف زمان ظهوره ، تنبيهاً على أنه تعالى اختار لابتداء إنزاله وقتاً شريفاً مباركاً لأن عظم قدر الفعل يقتضي أن يُختار لإِيقاعه فَضْل الأوقات والأمكنة ، فاختيار فضلِ الأوقات لابتداء إنزاله ينبئ عن علوّ قدره عند الله تعالى كقوله : { لا يمسه إلا المطهرون } [ الواقعة : 79 ] على الوجهين في المراد من المطهرين .
لما ذكر الله سبحانه وتعالى كتابه في هذا الذكر العربي المعجز ، ذكر إنزاله مستحضراً في كل قلب ، كان ذلك مغنياً عن إعادته بصريح اسمه ، فكان متى أضمره علمه المخاطب بما في السياق من القرائن الدالة عليه ، وبما له في القلب من العظمة ، وفي الذهن من الحضور ، لا سيما في هذه السورة ؛ لافتتاح العلق بالأمر بقراءته ، وختمها بالصلاة التي هي أعظم أركانها ، فكانت دلالتها عليه دلالة هي في غاية الوضوح ، فكان كأنه قال : واقترب بقراءة القرآن في الصلاة ، فكان إضماره أدل على العظمة الباهرة من إظهاره ، لدلالة الإضمار على أنه ما تم شيء ينزل غيره ، فهو بحيث لا يحتاج إلى التصريح به ، قال مفخماً له بأمور : إضماره ، وإسناد إنزاله إليه ، وجعل ذلك في مظهر العظمة ، وتعظيم وقت إنزاله المتضمن لعظمة البلد الذي أنزل فيه - على قول الأكثر ، والنبي الذي أنزل عليه ، مؤكداً لأجل ما لهم من الإنكار ، { إنا } أي لما لنا من العظمة { أنزلناه } أي هذا الذكر كله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا مرتباً هذا الترتيب الذي جمع الله الأمة المعصومة عليه ، وهو الموجود الآن ، وكذا كان إنزال أول نجم منه ، وهو أول السورة الماضية إنزالاً مصدقاً ؛ لأن عظمته من عظمتنا ، بما له من الإعجاز في نظمه ، ومن تضاؤل القوى عن الإحاطة بعلمه ، وأول ما أنزل منه صدرها إلى خمس آيات من آخرها " ما لم يعلم " على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو مجاور في هذا الشهر الشريف بجبل حراء من جبال مكة المشرفة ، ثم صار ينزل مفرقاً بحسب الوقائع ، حتى تم في ثلاث وعشرين سنة ، وكلما نزل منه نجم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بترتيبه في سورته عن أمر الله تعالى ، حتى تم في السور على ما هو عليه الآن ما هو عليه في بيت العزة .
ولما عظمه بما ذكر ، زاده عظماً بالوقت الذي اختار إنزاله فيه ، ليكون طالعه سعيداً ، لما كان أثره حميداً ، فقال : { في ليلة القدر * } أي الليلة التي لها قدر عظيم وشرف كبير ، والأعمال فيها ذات قدر وشرف ، فكانت بذلك كأنها مختصة بالقدر ، فلا قدر لغيرها .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : ورد تعريفاً بإنزال ما تقدم الأمر بقراءته لما قدمت الإشارة إلى عظيم أمر الكتب ، وأن السلوك إليه سبحانه إنما هو من ذلك الباب ، أعلم سبحانه وتعالى بليلة إنزاله ، وعرفنا بقدرها لنعتمدها في مظان دعائنا ، وتعلق رجائنا ، ونبحث في الاجتهاد في العمل لعلنا نوافقها ، وهي كالساعة في يوم الجمعة في إبهام أمرها مع جليل قدرها ، ومن قبيل الصلاة الوسطى ، ولله سبحانه في إخفاء ذلك أعظم رحمة ، وكان في التعريف بعظيم قدر هذه الليلة التعريف بجلالة المنزل فيها ، فصارت سورة القدر من تمام ما تقدم ، ووضح اتصالها - انتهى .