في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (10)

وصدق رسول الله . إنه لأمر متفاوت . وإن موحيات الإيمان وموجباته لديهم لشيء هائل ، هائل ، عجيب عجيب . وهو يعجب : ما لهم لا يؤمنون ? ثم يطلب إليهم تحقيق الإيمان في نفوسهم إن كانوا مؤمنين ! ثم ينتقل بهم من موحيات الإيمان وموجباته إلى موحيات الإنفاق وموجباته في توكيد وتكرير :

( وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض ? ) . .

وفي هذه الإشارة عودة إلى حقيقة : ( له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور ) . . فميراث السماوات والأرض ملكه وراجع إليه ، وما استخلفوا فيه إذن سيؤول إليه في الميراث ! فما لهم لا ينفقون في سبيله حين يدعوهم إلى الإنفاق . وهو استخلفهم فيه كما قال لهم هناك . وكله عائد إليه كما يقول لهم هنا ? وما الذي يبقى من دواعي الشح وهواتف البخل أمام هذه الحقائق في هذا الخطاب ?

ولقد بذلت الحفنة المصطفاة من السابقين ، من المهاجرين والأنصار ، ما وسعها من النفس والمال ، في ساعة العسرة وفترة الشدة - قبل الفتح - فتح مكة أو فتح الحديبية وكلاهما اعتز به الإسلام أيام أن كان الإسلام غريبا محاصرا من كل جانب ، مطاردا من كل عدو ، قليل الأنصار والأعوان . وكان هذا البذل خالصا لا تشوبه شائبة من طمع في عوض من الأرض ، ولا من رياء أمام كثرة غالبة من أهل الإسلام . كان بذلا منبثقا عن خيرة اختاروها عند الله ؛ وعن حمية لهذه العقيدة التي اعتنقوها وآثروها على كل شيء وعلى أرواحهم وأموالهم جميعا . . ولكن ما بذلوه - من ناحية الكم - كان قليلا بالقياس إلى ما أصبح الذين جاءوا بعد الفتح يملكون أن يبذلوه . فكان بعض هؤلاء يقف ببذله عند القدر الذي يعرف ويسمع أن بعض السابقين بذلوه ! هنا نزل القرآن ليزن بميزان الحق بذل هؤلاء وبذل أولئك ، وليقرر أن الكم ليس هو الذي يرجح في الميزان ؛ ولكنه الباعث وما يمثله من حقيقة الإيمان :

( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل . أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ) . .

إن الذي ينفق ويقاتل والعقيدة مطاردة ، والأنصار قلة وليس في الأفق ظل منفعة ولا سلطان ولا رخاء . غير الذي ينفق ويقاتل والعقيدة آمنة ، والأنصار كثرة ، والنصر والغلبة والفوز قريبة المنال . ذلك متعلق مباشرة بالله ، متجرد تجردا كاملا لا شبهة فيه ، عميق الثقة والطمأنينة بالله وحده ، بعيد عن كل سبب ظاهر وكل واقع قريب . لا يجد على الخير عونا إلا ما يستمده مباشرة من عقيدته . وهذا له على الخير أنصار حتى حين تصح نيته ويتجرد تجرد الأولين .

قال الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا زهير ، حدثنا حميد الطويل ، عن أنس ، قال : كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام ، فقال خالد لعبد الرحمن : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها ! فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : " دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد - أو مثل الجبال - ذهبا ما بلغتم أعمالهم " . .

وفي الصحيح : " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " .

وبعد أن قرر القيم الحقيقية في ميزان الله لهؤلاء ولهؤلاء عاد فقرر أن للجميع الحسنى :

( وكلا وعد الله الحسنى ) . .

فقد أحسنوا جميعا ، على تفاوت ما بينهم في الدرجات .

ومرد ذلك التفاوت وهذا الجزاء بالحسنى للجميع ، إلى ما يعلمه الله من تقدير أحوالهم ، وما وراء أعمالهم من عزائمهم ونواياهم . وخبرته تعالى بحقيقة ما يعملون :

( والله بما تعملون خبير ) . .

وهي لمسة موقظة للقلوب ، في عالم النوايا المضمرة وراء الأعمال الظاهرة ، وهي التي تناط بها القيم ، وترجح بها الموازين . .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (10)

المفردات :

الفتح : فتح مكة .

الحسنى : المثوبة الحسنى ، وهي النصر والغنيمة في الدنيا ، والجنة في الآخرة .

التفسير :

10-{ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .

أي شيء يمنعكم من الإنفاق في مرضاة الله ، ونصر دينه ، وتأييد رسوله ، وتبليغ دعوته ، ودعم الجهاد في تأييد الإسلام ومرضاة الرحمن ؟

والحياة الدنيا محدودة ، فستنتهي أعماركم ، ويؤول المال إلى وارثكم ، وفي ذلك الوقت لا تستطيعون الإنفاق ، وفي الأثر : ( إن مالك ما قدّمت ، ومال وارثك ما أخّرت ) .

أو أن الناس جميعا ستفنى ، والله هو الباقي وحده ، وسيؤول إليه سبحانه ملك السماوات والأرض ، فملك البشر عارية محدودة ، وملك الله باق خالد .

قال تعالى : { كل من عليها فان*ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } . ( الرحمن : 26-27 ) .

وقال تعالى : { وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ . . . } ( الحديد : 7 ) .

فالمال مال الله ، والإنسان مستخلف عليه لتثميره ووضعه في حقه ، وكان الرجل من الصالحين يقول : هذا مال الله عندي ، ويقول : لله عندي سبعة أولاد ، وسبعون ألفا من الدراهم .

والخلاصة :

أنفقوا من أموالكم في سبيل الله قبل أن تموتوا ، ليكون ذلك ذخرا لكم عند ربكم ، فبعد الموت لا تقدرون على ذلك ، إذ تصير الأموال ميراثا لمن له السماوات والأرض .

{ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ . . . }

كان الإسلام غريبا في مكة ، مكث فيها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاما ، وكل من آمن به مائتا رجل وامرأة ، ولما هاجر المسلمون إلى المدينة بدأ الجهاد والقتال ، وخاض النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه اثنتين وخمسين غزوة وسريّة ، مع أن مدة المدينة كلها كانت عشر سنوات ، أي أنه كان لا يمضي شهران في المتوسط إلا والمسلمون يخوضون غمار غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو سرية مع أمير من الصحابة ، وكان الوقت فيه عسرة ومشقة ، وقلة في المال ، فمن تطوّع بماله ونفسه في تلك الفترة ، وفي وقت الجهد والمشقة والكفاح ، كان أصدق قصدا ، وأرغب فيما عند الله ، ثم فتحت مكة سنة 8 ه ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وجاء المال وجاءت المغانم ، وغنم المسلمون مغانم كثيرة في فتح حنين والطائف ، فقارن القرآن بين من أنفق قبل الفتح وضحّى بنفسه وماله ، مثل أبي بكر الصديق الذي قدّم ماله كله ابتغاء مرضاة الله ، ومن قدم ماله وجاهد بنفسه بعد الفتح .

قال تعالى : أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا . . .

من أنفق المال وقاتل في سبيل الله قبل فتح مكة ، أو قبل صلح الحديبية ، أعظم أجرا وثوابا ورضوانا من الله ، من الذين أنفقوا أموالهم وبذلوا أنفسهم بعد فتح مكة ، أو بعد صلح الحديبية .

وجمهور العلماء على أن المراد بالفتح فتح مكة ، وقيل : الفتح : صلح الحديبية .

قال قتادة : كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر ، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى ، كان القتال والنفقة من قبل فتح مكة أفضل من النفقة والقتال بعد ذلك .

{ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى . . . }

أي : كلا من الذين أنفقوا وجاهدوا قبل الفتح ، والذين أنفقوا وجاهدوا بعد الفتح ، وعدهم الله الثواب العظيم والجنة ، أو عز الدنيا وشرف الآخرة ، وإن كان بينهم تفاوت في مقدار الجزاء .

كما قال تعالى : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } . ( النساء : 95 ) .

وفي الحديث الصحيح : " المؤمن القوي خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير " .

لقد استوى الاثنان في الخير ، وفي الجزاء بالحسنى والجنة ، لكن الله فاوت بين الاثنين في الفضل ، وفضّل من أنفق وجاهد في وقت المشقة ، وقلة العدد وقلة المال ، حيث كان الإخلاص أظهر ، والرغبة فيما عند الله أوضح ، ومع ذلك جعل الله سبحانه جزاء حسنا لمن أنفق بعد الفتح وقاتل .

قال تعالى في ختام الآية :

{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .

هو سبحانه مطلع على القلوب والنفوس ، عالم بالنّوايا ، يعلم السر وأخفى ، وهو المجازي على أعمالكم ، فأخلصوا له النية .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (10)

{ 10 } { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض }

أي : وما الذي يمنعكم من النفقة في سبيل الله ، وهي طرق الخير كلها ، ويوجب لكم أن تبخلوا ، { و } الحال أنه ليس لكم شيء ، بل { لله مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } فجميع الأموال ستنتقل من أيديكم أو تنقلون عنها ، ثم يعود الملك إلى مالكه تبارك وتعالى ، فاغتنموا الإنفاق ما دامت الأموال في أيديكم ، وانتهزوا الفرصة ، ثم ذكر تعالى تفاضل الأعمال بحسب الأحوال والحكمة الإلهية ، فقال : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا } المراد بالفتح هنا هو فتح الحديبية ، حين جرى من الصلح بين الرسول وبين قريش مما هو أعظم الفتوحات التي حصل بها نشر الإسلام ، واختلاط المسلمين بالكافرين ، والدعوة إلى الدين من غير معارض ، فدخل الناس من ذلك الوقت في دين الله أفواجا ، واعتز الإسلام عزا عظيما ، وكان المسلمون قبل هذا الفتح لا يقدرون على الدعوة إلى الدين في غير البقعة التي أسلم أهلها ، كالمدينة وتوابعها ، وكان من أسلم من أهل مكة وغيرها من ديار المشركين يؤذى ويخاف ، فلذلك كان من أسلم قبل الفتح وأنفق وقاتل ، أعظم درجة وأجرا وثوابا ممن لم يسلم ويقاتل وينفق إلا بعد ذلك ، كما هو مقتضى الحكمة ، ولذلك كان السابقون وفضلاء الصحابة ، غالبهم أسلم قبل الفتح ، ولما كان التفضيل بين الأمور قد يتوهم منه نقص وقدح في المفضول ، احترز تعالى من هذا بقوله : { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } أي : الذين أسلموا وقاتلوا وأنفقوا من قبل الفتح وبعده ، كلهم وعده الله الجنة ، وهذا يدل على فضل الصحابة [ كلهم ] ، رضي الله عنهم ، حيث شهد الله لهم بالإيمان ، ووعدهم الجنة ، { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فيجازي كلا منكم على ما يعلمه من عمله .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (10)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم قال: {وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله} يعني في طاعة الله إن كنتم مؤمنين، فأنفقوا في سبيل الله، فإن بخلتم، فإن الله يرثكم ويرث أهل السماوات والأرض، فذلك قوله: {ولله ميراث السماوات والأرض} يفنون كلهم، ويبقى الرب تعالى وحده، فالعباد يرث بعضهم بعضا، والرب يبقى فيرثهم، قوله: {لا يستوي منكم} في الفضل والسابقة {من أنفق من} ماله {قبل الفتح} فتح مكة {وقاتل} العدو، {أولئك أعظم درجة} يعني جزاء {من الذين أنفقوا من بعد} بعد فتح مكة {وقاتلوا} العدو {وكلا وعد الله الحسنى} يعني الجنة، يعني كلا الفريقين وعد الله الجنة {والله بما تعملون خبير} بما أنفقتم من أموالكم، وهو مولاكم يعني وليكم...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وما لكم أيها الناس لا تنفقوا مما رزقكم الله في سبيل الله وإلى الله صائرٌ أموالكم إن لم تنفقوها في حياتكم في سبيل الله، لأن له ميراث السموات والأرض، وإنما حثهم جلّ ثناؤه بذلك على حظهم، فقال لهم: أنفقوا أموالكم في سبيل الله، ليكون ذلكم لكم ذخرا عند الله من قبل أن تموتوا، فلا تقدروا على ذلك، وتصير الأموال ميراثا لمن له السموات والأرض.

وقوله:"لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْح وَقاتَلَ"...

عن قتادة، قوله: "لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقاتَلَ أُولَئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الّذِينَ أنْفَقُوا مِنْ بَعْدِ وَقاتَلُوا وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى "قال: كان قتالان، أحدهما أفضل من الاَخر، وكانت نفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كانت النفقة والقتال من قبل الفتح «فتح مكة» أفضل من النفقة والقتال بعد ذلك...

وقال آخرون: عني بالفتح في هذا الموضع: صلح الحديبية...

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: معنى ذلك لا يستوي منكم أيها الناس من أنفق في سبيل الله من قبل فتح الحُدَيبية... وقاتل المشركين بمن أنفق بعد ذلك، وقاتل وترك ذكر من أنفق بعد ذلك، وقاتل استغناء بدلالة الكلام الذي ذُكر عليه من ذكره "أُولَئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الّذِينَ أنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا" يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين أنفقوا في سبيل الله من قبل فتح الحديبية، وقاتلوا المشركين أعظم درجة في الجنة عند الله من الذين أنفقوا من بعد ذلك، وقاتلوا.

وقوله: "وَكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى" يقول تعالى ذكره: وكلّ هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وعد الله الجنة بإنفاقهم في سبيله، وقتالهم أعداءه...

وقوله: "وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" يقول تعالى ذكره: والله بما تعملون من النفقة في سبيل الله، وقتال أعدائه، وغير ذلك من أعمالكم التي تعملون، خبير لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيكم على جميع ذلك يوم القيامة.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... {لا يستوي منكم من أنفق} أي لا يستوي منكم من آمن من قبل الفتح، لأنه قبل الفتح كان على من آمن الهلاك وأنواع العقوبات، لأن الغلبة في ذلك الوقت كانت لأهل الكفر. لذلك لم يستو من آمن منهم قبل الفتح ومن آمن منهم بعد الفتح... وكذلك الإنفاق في ذلك الوقت أفضل وأعظم لما في الإنفاق في ذلك الوقت معونة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن تابعه، أو لما أن الإنفاق من بعد الفتح يقع به طمع الوصول إلى المنافع و الأبدال من الصدقات والمغانم، وقبل الفتح لم يكن ذلك المعنى؛ فهو كله خالص بلا بدل ولا طمع كان معه، والله أعلم... وقوله تعالى: {والله بما تعملون خبير} فيه ترغيب وترهيب في ما يرغب فيه ويرغب عنه.

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

أبان عن فضيلة الإنفاق قبل الفتح على ما بَعْدَهُ لعِظَمِ عناء النفقة فيه وكثرة الانتفاع به؛ ولأن الإنفاق في ذلك الوقت كان أشدّ على النفس لقلة المسلمين وكثرة الكفار مع شدة المحنة والبلاء وللسبق إلى الطاعة، ألا ترى إلى قوله: {الذين اتبعوه في ساعة العسرة} [التوبة: 117] وقوله: {والسابقون الأولون} [التوبة: 10]؟ فهذه الوجوه كلها تقتضي تفضيلها.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

"وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل الله " استبطأهم في الإنفاق في سبيل الله الذي رغبهم بالإنفاق فيها...

أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :

{لاَ يَسْتَوي مِنْكُم مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وقَاتَلَ} ودل به على أن فضيلة العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ} في أن لا تنفقوا... {أولئك} الذي أنفقوا قبل الفتح وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه".

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{لا يستوي منكم} الآية، روي أنها نزلت بسبب أن جماعة من الصحابة أنفقت نفقات كثيرة حتى قال ناس: هؤلاء أعظم أجراً من كل من أنفق قديماً، فنزلت الآية مبينة أن النفقة قبل الفتح أعظم أجراً.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{وما} أي وأيّ شيء يحصل {لكم} في {ألا تنفقوا} أي توجدوا الإخراج للمال {في سبيل الله} أي في كل ما يرضي الملك الأعظم الذي له صفات الكمال لتكون لكم به وصلة فيخصكم بالرأفة التي هي أعظم الرحمة، فإنه ما بخل به أحد عن وجه خير إلا سلط الله عليه غرامة في وجه شر،ولما كان المراد بالإيمان خدمة الرحمة، وكان الإنفاق وإن كان مصدقاً للإيمان لا يكمل تصديقه إلا ببذل النفس قال: {وقاتل} أي سعياً في إنفاق نفسه لمن آمن به،ولعله أفرد الضمير إشارة إلى قلة السابقين...

. {الحسنى} أي الدرجة التي هي غاية الحسن وإن كانت في نفسها متفاوتة. {خبير} أي عالم بباطنه وظاهره علماً لا مزيد عليه بوجه، فهو يجعل جزاء الأعمال على قدر النيات التي هي أرواح صورها.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض؟) ولقد بذلت الحفنة المصطفاة من السابقين، من المهاجرين والأنصار، ما وسعها من النفس والمال، في ساعة العسرة وفترة الشدة -قبل الفتح- فتح مكة أو فتح الحديبية وكلاهما اعتز به الإسلام أيام أن كان الإسلام غريبا محاصرا من كل جانب، مطاردا من كل عدو، قليل الأنصار والأعوان...

(لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل. أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا).. (والله بما تعملون خبير).. وهي لمسة موقظة للقلوب، في عالم النوايا المضمرة وراء الأعمال الظاهرة، وهي التي تناط بها القيم، وترجح بها الموازين..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

الإِنفاق في سبيل الله بمعناه المشهور وهو الإِنفاق في عتاد الجهاد لم يكن إلا بعد الهجرة فإن سبيل الله غلب في القرآن إطلاقه على الجهاد ويؤيده قوله عقبه: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح}، لأن الأصل أن يكون ذلك متصلاً نزوله مع هذا ولو حمل الإِنفاق على معنى الصدقات لكان مقتضياً أنها مدنية لأن الإِنفاق بهذا المعنى لا يطلق إلا على الصدقة على المؤمنين فلا يُلام المشركون على تركه. وعليه فالخطاب موجّه للمؤمنين، فقد أعيد الخطاب بلون غير الذي ابتدئ به. ومن لطائفه أنه موجه إلى المنافقين الذين ظَاهِرُهم أنهم مسلمون وهم في الباطن مشركون فهم الذين شحّوا بالإِنفاق. ووجه إلحاق هذه الآية وهي مدنيّة بالمكيّ من السورة مناسبة استيعاب أحوال الممسكين عن الإِنفاق من الكفار والمؤمنين تعريضاً بالتحذير من خصال أهل الكفر إذ قد سبقها قوله: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} [الحديد: 7].

{لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وقاتلوا وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير}. استئناف بياني ناشئ عمّا يجول في خواطر كثير من السامعين من أنهم تأخروا عن الإنفاق غير ناوين تركه ولكنهم سيتداركونه. وأدمج فيه تفضيل جهاد بعض المجاهدين على بعض لمناسبة كون الإِنفاق في سبيل الله يشمل إنفاق المجاهد على نفسه في العُدة والزاد وإنفاقَه على غَيْرِهِ ممن لم يستكمل عُدته ولا زاده، ولأن من المسلمين من يستطيع الجهاد ولا يستطيع الإِنفاق، فأريد أن لا يغفل ذكره في عداد هذه الفضيلة إذ الإِنفاق فيها وسيلة لها. وظاهر لفظ الفتح أنه فتح مكة، ألا ترى أنه كان عليهم أن يثبتوا أمام العدوّ إذا كان عدد العدوّ عشرة أضعاف عدد المسلمين في القتال قال تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} [الأنفال: 65]. والحسنى: لقب قرآني إسلامي يدل على خيرات الآخرة، قال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26].

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (10)

فيه خمس مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله " أي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله ، وفيما يقربكم من ربكم وأنتم تموتون وتخلفون أموالكم وهي صائرة إلى الله تعالى : فمعنى الكلام التوبيخ على عدم الإنفاق . " ولله ميراث السماوات والأرض " أي إنهما راجحتان إليه بانقراض من فيهما كرجوع الميراث إلى المستحق له .

الثانية- قوله تعالى : " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل " أكثر المفسرين على أن المراد بالفتح فتح مكة . وقال الشعبي والزهري : فتح الحديبية . قال قتادة : كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر ، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى ، كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك . وفي الكلام حذف ، أي " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل " ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل ، فحذف لدلالة الكلام عليه . وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم ؛ لأن حاجة الناس كانت أكثر لضعف الإسلام ، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق والأجر على قدر النصب . والله أعلم .

الثالثة- روى أشهب عن مالك قال : ينبغي أن يقدم أهل الفضل والعزم ، وقد قال الله تعالى : " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل " وقال الكلبي : نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ، ففيها دليل واضح على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه وتقديمه ؛ لأنه أول من أسلم . وعن ابن مسعود : أول من أظهر الإسلام بسيفه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ؛ ولأنه أول من أنفق على نبي الله صلى الله عليه وسلم . وعن ابن عمر قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر وعليه عباءة قد خللها في صدره بخلال فنزل جبريل فقال : يا نبي الله ! ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال ؟ فقال : ( قد أنفق علي ماله قبل الفتح " قال : فإن الله يقول لك اقرأ على أبي بكر السلام وقل له : أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال رسول صلى الله عليه وسلم : ( يا أبا بكر إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط ) ؟ فقال أبو بكر : أأسخط ( على ربي ؟ إني عن ربي لراض ! إني عن ربي لراض ! إني عن ربي لراض ! قال : ( فإن الله يقول لك قد رضيت عنك كما أنت عني راض ) فبكى أبو بكر فقال جبريل عليه السلام : والذي بعثك يا محمد بالحق ، لقد تخللت حملة العرش بالعُبِيّ منذ تخلل صاحبك هذا بالعباءة ، ولهذا قدمته الصحابة عل أنفسهم ، وأقروا له بالتقدم والسبق . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : سبق النبي صلى الله عليه وسلم وصلى{[14700]} أبو بكر وثَلّثَ عمر ، فلا أوتى برجل فضلني على أبي بكر إلا جلدته حد المفتري ثمانين جلدة وطرح الشهادة . فنال المتقدمون من المشقة أكثر مما نال من بعدهم ، وكانت بصائرهم أيضا أنفذ .

والرابعة- التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدنيا ، فأما في أحكام الدين فقد قالت عائشة رضي الله عنها : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم . وأعظم المنازل مرتبة الصلاة . وقد قال صلى الله عليه وسلم في مرضه : ( مروا أبا بكر فليصل بالناس ) الحديث . وقال : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ) وقال : ( وليؤمكما أكبركما ) من حديث مالك بن الحويرث وقد قدم . وفهم منه البخاري وغيره من العلماء أنه أراد كبر المنزلة ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( الولاء للكِبَر ) ولم يعن كبر السن . وقد قال مالك وغيره : إن للسن حقا . وراعاه الشافعي وأبو حنيفة وهو أحق بالمراعاة ؛ لأنه إذا اجتمع العلماء والسن في خيرين قدم العلم ، وأما أحكام الدنيا فهي مُرَتَّبَة على أحكام الدين ، فمن قدم في الدين قدم في الدنيا . وفي الآثار : ( ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه ) . ومن الحديث الثابت في الأفراد : ( ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه ) . وأنشدوا{[14701]} :

يا عائباً للشيوخ من أَشَرِ *** داخلَه في الصِّبا ومن بَذَخِ

اذكر إذا شئت أن تُعَيِّرَهُم *** جَدَّكَ واذكر أباك يا ابن أخِ

واعلم بأن الشباب منسلخٌ *** عنك وما وِزْرُه بِمُنْسَلِخِ

من لا يعز الشيوخَ لا بلغتْ *** يوما به سنه إلى الشَّيَخِ

الخامسة- قوله تعالى : " وكلا وعد الله الحسنى " أي المتقدمون المتناهون السابقون ، والمتأخرون اللاحقون ، وعدهم الله جميعا الجنة مع تفاوت الدرجات . وقرأ ابن عامر " وكل " بالرفع ، وكذلك هو بالرفع في مصاحف أهل الشام . الباقون " وكلا " بالنصب على ما في مصافحهم ، فمن نصب فعلى إيقاع الفعل عليه أي وعد الله كلا الحسنى . ومن رفع فلأن المفعول إذا تقدم ضعف عمل الفعل ، والهاء محذوفة من وعده .


[14700]:السابق: الأول. والمصلي: الثاني.
[14701]:هو لابن عبد الصمد السرقسطي كما في "أحكام القرآن" لابن العربي.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (10)

ولما أمرهم بالإيمان والإنفاق ، وكان{[62412]} الإيمان مع كونه الأساس الذي لا يصح عمل بدونه ليس فيه{[62413]} شيء من خسران أو نقصان ، فبدأ به لذلك ، ورغب بختم الآية بالإشارة بالرأفة{[62414]} إلى أن من{[62415]} توصل إليه بشيء من الإيمان أو غيره زاده من فضله " من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً - إلى قوله : ومن أتاني يمشي أتيته هرولة " عطف عليه الترغيب في التوصل إليه{[62416]} بالإنفاق منكراً على من تركه موبخاً لمن حاد عنه{[62417]} هو يعلم أنه فان ، مفهماً بزيادة " أن " المصدرية اللوم على تركه في جميع الأزمنة الثلاثة فقال : { وما } أي وأيّ شيء يحصل { لكم } في { ألا تنفقوا } أي توجدوا الإخراج للمال { في سبيل الله } أي في كل ما يرضي الملك الأعظم الذي له صفات الكمال لتكون لكم به وصلة فيخصكم بالرأفة التي هي أعظم الرحمة ، فإنه ما بخل به{[62418]} أحد عن وجه خير إلا سلط الله عليه غرامة في وجه شر ، وأظهر موضع الإضمار في جملة حالية باعثاً على الإنفاق بأبلغ بعث{[62419]} فقال : { ولله } تأكيداً للعظمة بالندب إلى ذلك باستحضار جميع صفات الكمال لا سيما صفة الإرث المقتضية للزهد في الموروث { ميراث } أي{[62420]} الإرث {[62421]}والموروث{[62422]} والموروث عنه وغير ذلك { السماوات والأرض } جميعاً لا شيء فيهما أو منهما إلا هو كذلك يزول عن المنتفع به ويبقى لله بقاء الإرث{[62423]} ، ومن تأمل أنه زائل هو وكل ما في يده والموت من ورائه ، ويد طوارق الحوادث مطبقة به ، وعما قليل ينقل ما في يده إلى غيره هان عليه الجود بنفسه وماله .

ولما رغبهم في الإنفاق على الإطلاق ، رغبهم في المبادرة إليه ، مادحاً أهله خاصاً منهم أهل السياق فقال : { لا يستوي } . ولما كان المراد أهل الإسلام بين بقوله : { منكم من أنفق } أي أوجد الإنفاق في ماله وجميع قواه وما يقدر عليه . ولما كان المقصود الإنفاق في زمان الإيمان لا مطلق الزمان ، خص بالجارّ فقال : { من قبل الفتح } أي الذي هو فتح جميع الدنيا في الحقيقة وهو فتح مكة الذي كان سبباً لظهور{[62424]} الدين على الدين{[62425]} كله لما نال المنفق إذ ذاك بالإنفاق من كثرة المشاق لضيق المال حينئذ ، وذلك مستلزم لكون المنفق أنفذ بصيرة ونفقته أعظم غنّى وأشد نفعاً ، وفيه دليل على فضل أبي بكر رضي الله عنه فإنه أول من أنفق ولم يسبقه في ذلك أحد ، وفيه نزلت الآية - كما حكاه البغوي{[62426]} عن الكلبي .

ولما كان المراد بالإيمان خدمة الرحمة ، وكان الإنفاق وإن كان مصدقاً للإيمان لا يكمل تصديقه إلا ببذل النفس قال : { وقاتل } أي سعياً في إنفاق نفسه لمن آمن به ، وحذف المنفي للتسوية به وهو من{[62427]} لم ينفق مطلقاً أو بقيد القبلية لدلالة ما بعده ، ولعله أفرد الضمير إشارة إلى قلة السابقين .

ولما كان نفي المساواة لا يعرف منها الفاضل من غيره ، وقد كان حذف قسيم من أنفق لوضوحه والتنفير منه ودلالة ما بعده عليه ، نفى اللبس بقوله : { أولئك } أي المنفقون المقاتلون وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، {[62428]}المقربون من أهل الرتبة العلية لمبادرتهم إلى الجود بالنفس والمال { أعظم درجة } وبعظم الدرجة يكون عظم صاحبها { من الذين أنفقوا } ولما كان المراد التفضيل على أوجد الإنفاق والقتال في زمان بعد ذلك ، لا على من استغرق كل زمان بعده بالإنفاق والقتال{[62429]} أدخل الجار فقال : { من بعد وقاتلوا } ولما كان التفضيل مفهماً اشتراك الكل في الفضل ، صرح به ترغيباً في الإنفاق على كل حال فقال : { وكلاًّ } أي من القسمين { وعد الله } أي{[62430]} الذي له الجلال والكمال والإكرام { الحسنى } أي الدرجة التي هي غاية الحسن وإن كانت في نفسها متفاوتة ، وقرأ ابن عامر{[62431]} { وكل } وهو أوفق لما عطف عليه .

ولما كان زكاء الأعمال إنما هو بالنيات ، وكان التفضيل مناط العلم ، قال {[62432]}مرغباً في{[62433]} إحسان النيات مرهباً{[62434]} من{[62435]} التقصير فيها : { والله } أي الذي له الإحاطة الشاملة بجميع صفات الكمال ، وقدم الجار إعلاماً بمزيد اعتناء بالتمييز عند التفضيل فقال : { بما تعملون } أي تجددون عمله على مر الأوقات { خبير * } أي عالم بباطنه وظاهره علماً لا مزيد عليه بوجه ، فهو يجعل جزاء الأعمال على{[62436]} قدر النيات التي هي أرواح صورها .


[62412]:- من ظ، وفي الأصل: كون.
[62413]:- من ظ، وفي الأصل: فيها.
[62414]:- من ظ، وفي الأصل: إلى الرافه.
[62415]:- زيد من ظ.
[62416]:- تكرر ما بين الرقمين في الأصل: قبل "بشيء من الإيمان" س 1.
[62417]:- تكرر ما بين الرقمين في الأصل: قبل "بشيء من الإيمان" س 1.
[62418]:- زيد من ظ.
[62419]:- من ظ، وفي الأصل: نعت.
[62420]:- زيد من ظ.
[62421]:- سقط ما بين الرقمين من ظ.
[62422]:-سقط ما بين الرقمين من ظ.
[62423]:- من ظ، وفي الأصل: الأرض.
[62424]:- من ظ، وفي الأصل: في ظهور.
[62425]:- زيد من ظ.
[62426]:- راجع معالم التنزيل بهامش اللباب 7/ 27.
[62427]:- من ظ، وفي الأصل: في ظهور.
[62428]:- زيدت الواو في الأصل: ولم تكن في ظ فحذفناها.
[62429]:- زيد من ظ.
[62430]:- زيد من ظ.
[62431]:- راجع نثر المرجان 7/ 205.
[62432]:- من ظ، وفي الأصل: ابن عباس.
[62433]:- من ظ، وفي الأصل: ابن عباس.
[62434]:- من ظ، وفي الأصل: في.
[62435]:- من ظ، وفي الأصل: ممر.
[62436]:- من ظ، وفي الأصل: لا.
 
تفسير الجلالين للمحلي والسيوطي - تفسير الجلالين [إخفاء]  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (10)

{ وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير }

{ ومالكم } بعد إيمانكم { ألا } فيه إدغام نون أن في لام لا { تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض } بما فيهما فتصل إليه أموالكم من غير أجر الإنفاق بخلاف ما لو أنفقتم فتؤجرون { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح } لمكة { وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً } من الفريقين ، وفي قراءة بالرفع مبتدأ { وعد الله الحسنى } الجنة { والله بما تعملون خبير } فيجازيكم به .

 
التفسير الميسر لمجموعة من العلماء - التفسير الميسر [إخفاء]  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (10)

{ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 10 ) }

وأيُّ شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله ؟ ولله ميراث السموات والأرض يرث كلَّ ما فيهما ، ولا يبقى أحد مالكًا لشيء فيهما . لا يستوي في الأجر والمثوبة منكم مَن أنفق من قبل فتح " مكة " وقاتل الكفار ، أولئك أعظم درجة عند الله من الذين أنفقوا في سبيل الله من بعد الفتح وقاتلوا الكفار ، وكلا من الفريقين وعد الله الجنة ، والله بأعمالكم خبير لا يخفى عليه شيء منها ، وسيجازيكم عليها .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (10)

قوله : { وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والأرض } يعني ما الذي يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله وأنتم صائرون لا محالة إلى الهلاك والفناء فتاركو أموالكم من بعدكم فمردها إلى وارث السموات والأرض .

قوله : { لايستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل } أي لا يستوي هذا المؤمن الذي أنفق ماله في سبيل الله وقاتل المشركين من قبل فتح مكة وعزة الإسلام { أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } يعني أولئك الذين أنفقوا أموالهم قبل فتح مكة وهم السابقون من المهاجرين والأنصار أعظم درجة من المؤمنين الذين أنفقوا وقاتلوا المشركين بعد فتح مكة ، فثمة تفاوت بين الفريقين المنفقين المجاهدين من قبل الفتح ومن بعده . وذلك أن أمر المسلمين من قبل الفتح كان شديدا عسيرا . وكانت حالهم يظلها الخوف والإرهاب وطغيان المشركين الظالمين عليهم . لا جرم أن التمسك بالعقيدة الصحيحة والتزام شرع الله وأحكام دينه في مثل تلك الظروف القاسية أعظم قدرا من مثله بعد الفتح حيث الأمن والقوة والمنعة للمسلمين .

قوله : { وكلا وعد الله الحسنى } كلا ، مفعول أول لوعد . والحسنى ، مفعوله الثاني . يعني كل واحد من الفريقين { وعد الله الحسنى } وهي دخولهم الجنة مع تفاوت الدرجات بين المؤمنين الداخلين .

ويستفاد من هذه الآية أن الفريقين من الصحابة أبرار كرماء عند الله ، فما ينبغي الغضّ من قدر فريق منهم ، وإنما هم جميعهم طيبون عظماء يفضلون من بعدهم من المؤمنين على مرّ الزمن بفضل شرف الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم التي قدّر لهم أن يحظوا بها ، مع التذكير بأنهم من مراتب الإيمان وحسن الجزاء يوم القيامة متفاوتون . وذلك هو شأن المؤمنين في كل زمان ومكان . وذلك من حيث التفاوت في درجات إيمانهم وعزائمهم وما يؤدونه من إنفاق وتضحيات وجهاد ، فإن فيهم العظيم وفيهم الوسط وفيهم دون ذلك . وفي الحديث الصحيح : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير " .

قوله : { والله بما تعملون خبير } الله يعلم ما أنتم عليه من تفاوت في الإيمان والإخلاص والعمل ، فجازى كلا بما يستحق من الثواب .