نزلت هذه السورة بعد سورة الضحى . وكأنها تكملة لها . فيها ظل العطف الندي . وفيها روح المناجاة الحبيب . وفيها استحضار مظاهر العناية . واستعراض مواقع الرعاية . وفيها البشرى باليسر والفرج . وفيها التوجيه إلى سر اليسر وحبل الاتصال الوثيق . .
( ألم نشرح لك صدرك ? ووضعنا عنك وزرك . الذي أنقض ظهرك ? ورفعنا لك ذكرك ? )
وهي توحي بأن هناك ضائقة كانت في روح الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لأمر من أمور هذه الدعوة التي كلفها ، ومن العقبات الوعرة في طريقها ؛ ومن الكيد والمكر المضروب حولها . . توحي بأن صدره [ صلى الله عليه وسلم ] كان مثقلا بهموم هذه الدعوة الثقيلة ، وأنه كان يحس العبء فادحا على كاهله . وأنه كان في حاجة إلى عون ومدد وزاد ورصيد . .
ثم كانت هذه المناجاة الحلوة ، وهذا الحديث الودود !
( ألم نشرح لك صدرك ? ) . . ألم نشرح صدرك لهذه الدعوة ? ونيسر لك أمرها ? . ونجعلها حبيبة لقلبك ، ونشرع لك طريقها ? وننر لك الطريق حتى ترى نهايته السعيدة !
فتش في صدرك - ألا تجد فيه الروح والانشراح والإشراق والنور ? واستعد في حسك مذاق هذا العطاء ، وقل : ألا تجد معه المتاع مع كل مشقة والراحة مع كل تعب ، واليسر مع كل عسر ، والرضى مع كل حرمان ?
( سورة الشرح مكية ، وآياتها 8 آيات ، نزلت بعد سورة الضحى ) .
1- هيأ الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم لتلقي الرسالة الكريمة ، وأفاض عليه من نعمه الجزيلة ، فشرح صدره بما أودع فيه من العلوم والحكم ، حتى حمل أعباء النبوة ، وجعل أمر التبليغ عليه سهلا هينا .
2- قرن الله اسم النبي صلى الله عليه وسلم باسم الله العظيم في الشهادة والأذان والإقامة والتشهد .
3- بيّن الله أن ما يصيب النبي صلى الله عليه وسلم من شدة ، سيعقبها اليسر والفرج .
4- طلب الله تعالى من نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم إذا ما انتهى من تعليم الناس وإرشادهم ، أن يشغل نفسه بعبادة الله .
5- أمره ألا يسأل أحدا غيره ، لأنه سبحانه وتعالى هو السيد القادر وحده على إجابة دعوة العبد السائلi .
نزلت سورة الشرح بعد سورة الضحى ، وكأنها تكملة لها ، فيها مظاهر الرعاية والعناية الإلهية ، وفيها البشرى باليسر والفرج : ألم نفسح صدرك لهذه الدعوة ونيسر لك أمرها ؟
ووضعنا عنك وزرك* الذي أنقض ظهرك . أي : ووضعنا عنك عبأك الذي أثقل ظهرك حتى كاد يحطمه من ثقله ، وضعناه عنك بشرح صدرك له فخفّ وهان ، وبتيسيرك وتوفيقك للدعوة ومداخل القلوب .
ورفعنا لك ذكرك . رفعناه في الملأ الأعلى ، ورفعناه في الأرض ، ورفعناه في هذا الوجود جميعا ، ورفعناه فجعلنا اسمك مقرونا باسم الله ، كلما تحركت به الشفاه : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله .
قال مجاهد في معناه : أي لا أذكر إلا ذكرت معي .
فإن مع العسر يسرا . ومع الشدة فرجا ، ومع قلة ذات اليد السهولة والغنى ، فخذ في أسباب اليسر والتيسير ، فإذا فرغت من مهمة تبليغ الرسالة فانصب واتعب في القيام بواجبات العبادة لنا . وإلى ربك فارغب . واجعل رغبتك إليه ، ولا تسأل إلا فضله متوكلا عليه . وعلى الله فليتوكّل المؤمنون . ( التغابن : 13 ) .
( وتنتهي سورة الشرح كما انتهت سورة الضحى ، وقد تركت في النفس شعورين ممتزجين :
الشعور بعظمة الود الحبيب الجليل الذي ينسم على روح الرسول صلى الله عليه وسلم من ربه الودود الرحيم ، والشعور بالعطف على شخصه صلى الله عليه وسلم ونحن نكاد نلمس ما كان يساور قلبه الكريم ، في هذه الآونة التي اقتضت ذلك الود الجميل .
إنها الدعوة ، هذه الأمانة الثقيلة ، وهذا العبء الذي ينقض الظهر ، وهي مع هذا وهذا مشرق النور الإلهي ومهبطه ، ووصلة الفناء بالبقاء ، والعدم بالوجود )ii .
{ ألم نشرح لك صدرك 1 ووضعنا عنك وزرك 2 الذي أنقض ظهرك 3 ورفعنا لك ذكرك 4 فإنّ مع العسر يسرا 5 إنّ مع العسر يسرا 6 فإذا فرغت فانصب 7 وإلى ربك فارغب 8 }
ألم نشرح : ألم نفسح بالحكمة والنبوة ، والاستفهام للتقرير ، كأنه قيل : قد شرحنا لك صدرك .
الاستفهام هنا للتقرير ، فقد عدّد الله تعالى عليه بعض النعم في سورة الضحى ، ثم أتم تعديد النعم في سورة الشرح .
قد شرحنا صدرك ، أي وسّعناه ونورناه بالإيمان والرضا والسرور ، وإذهاب الضيق والآلام .
قال تعالى : أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه . . . ( الزمر : 22 ) .
وقد كان صلى الله عليه وسلم في ألم وحزن من تكذيب قومه لرسالته ، وإعراضهم عن دعوته .
قال تعالى : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون* فسبّح بحمد ربك وكن من الساجدين . ( الحجر : 97 ، 98 ) .
كانوا يقولون : ساحر وكاذب ومجنون ، وكانت يد الله تمسح على صدره ، فتهون عليه ما يلقاه في سبيل الدعوة ، وتدعوه أن يذكر اسم الله في الشدة ، وأن يلجأ إليه داعيا متبتلا .
قال تعالى : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا . ( الكهف : 6 ) .
وقال تعالى : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذّبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون . ( الأنعام : 33 ) .
وقيل : المراد بالشرح هنا : توسيع الصدر حسيا حين كان يرضع من حليمة السعدية ، فأخذه ملكان فأضجعاه وشقا صدره ، وأخرجا منه حظ الشيطان وملآه بالإيمان .
وقد ورد ذلك في صحيح مسلم ، وفي كتب السنة أن ذلك الشرح الحسّي تكرر وعمر النبي صلى الله عليه وسلم عشرون سنة وأشهر ، كما وقع ذلك ليلة الإسراء والمعراج ، والجمهور على أن شرح الصدر هو تنويره بالحكمة ، وتوسيعه لتلقي ما يوحى إليه .
وليس هناك ما يمنع من أن يراد من شرح الصدر الشرح الحسّي ، ويكون وسيلة لتطهير قلبه وتخليصه من أي أثر للشيطان ، ويكون هذا الشرح الحسي وسيلة للشرح المعنوي ، وهو تحمّل أعباء الرسالة ، والصبر على الأداء ، واحتمال تكذيب القوم ، مع الصبر وانتظار الفرج ، وقد أشار إلى شيء من ذلك الإمام ابن كثير حيث قال :
ألم نشرح لك صدرك . يعني : شرحنا لك صدرك ، أي نوّرناه وجعلناه فسيحا رحيبا واسعا .
وقيل : المراد بقوله : لم نشرح لك صدرك . شرح صدره ليلة الإسراء ، وهذا وإن كان واقعا ، لكن لا منافاة ، فإن من جملة شرح صدره صلى الله عليه وسلم ، الذي فعل بصدره ليلة الإسراء ، ما نشأ عنه من الشرح المعنوي أيضا . اه .
إن الله جمع له بين الشرح الحسّي من جهة ، ثم أودع في صدره من الهدى والإيمان والفضائل والحكمة ما لم يعطه لأحد سواه .
{ 1 - 8 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ }
يقول تعالى -ممتنًا على رسوله- : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } أي : نوسعه لشرائع الدين والدعوة إلى الله ، والاتصاف بمكارم الأخلاق ، والإقبال على الآخرة ، وتسهيل الخيرات فلم يكن ضيقًا حرجًا ، لا يكاد ينقاد لخير ، ولا تكاد تجده منبسطًا .
قوله تعالى : { ألم نشرح لك صدرك }
شرح الصدر : فتحه ، أي ألم نفتح صدرك للإسلام . وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : ألم نلين لك قلبك . وروى الضحاك عن ابن عباس قال : قالوا يا رسول اللّه ، أينشرح الصدر ؟ قال : [ نعم وينفسح ] . قالوا : يا رسول اللّه ، وهل لذلك علامة ؟ قال : [ نعم التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاعتداد للموت ، قبل نزول الموت ] . وقد مضى هذا المعنى في " الزمر " {[16163]} عند قوله تعالى : " أفمن شرح اللّه صدره للإسلام فهو على نور من ربه " . وروي عن الحسن قال : " ألم نشرح لك صدرك " قال : مُلئ حكما وعلما . وفي الصحيح{[16164]} عن أنس بن مالك ، عن مالك بن صعصعة - رجل من قومه - أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : ( فبينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان إذ سمعت قائلا يقول : أحد الثلاثة{[16165]} فأُتيت بطست من ذهب ، فيها ماء زمزم ، فشرح صدري إلى كذا وكذا ) قال قتادة : قلت : ما يعني ؟ قال : إلى أسفل بطني ، قال : [ فاستخرج قلبي ، فغسل قلبي بماء زمزم ، ثم أعيد مكانه ، ثم حشي إيمانا وحكمة ] . وفي الحديث قصة . وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : ( جاءني ملكان في صورة طائر ، معهما ماء وثلج ، فشرح أحدهما صدري ، وفتح الآخر بمنقاره فيه فغسله ) . وفي حديث آخر قال : [ جاءني ملك فشق عن قلبي ، فاستخرج منه عذرة{[16166]} ، وقال : قلبك وكيع ، وعيناك بصيرتان ، وأذناك سميعتان ، أنت محمد رسول اللّه ، لسانك صادق ، ونفسك مطمئنة ، وخلقك قثم ، وأنت قيم ] . قال أهل اللغة : قوله [ وكيع ] أي يحفظ ما يوضع فيه . يقال : سقاء وكيع ، أي قوي يحفظ ما يوضع فيه . واستوكعت معدته ، أي قويت وقوله : [ قثم ] أي جامع . يقال : رجل قثوم للخير ، أي جامع له . ومعنى " ألم نشرح " قد شرحنا . الدليل على ذلك قوله في النسق عليه : " ووضعنا عنك وزرك " ، فهذا عطف على التأويل ، لا على التنزيل ؛ لأنه لو كان على التنزيل لقال : ونضع عنك وزرك . فدل هذا على أن معنى " ألم نشرح " : قد شرحنا . و " لم " جحد ، وفي الاستفهام طرف من الجحد ، وإذا وقع جحد ، رجع إلى التحقيق ، كقوله تعالى : " أليس الله بأحكم الحاكمين{[16167]} " [ التين : 8 ] . ومعناه : اللّه أحكم الحاكمين . وكذا " أليس الله بكاف عبده " {[16168]} [ الزمر : 36 ] . ومثله قول جرير يمدح عبد الملك بن مروان :
ألستم خيرَ من رَكِبَ المطايا *** وأنْدَى العالمين بطونَ راحِ
لما أمره صلى الله عليه وسلم آخر الضحى بالتحديث بنعمته التي أنعمها عليه فصلها في هذه السورة فقال مثبتاً لها في استفهام إنكاري مبالغة في إثباتها عند من ينكرها والتقرير بها مقدماً المنة بالشرح في صورته قبل الإعلام بالمغفرة كما فعل ذلك في سورة الفتح الذي هو نتيجة الشرح ، لتكون البشارة بالإكرام أولاً لافتاً القول إلى مظهر العظمة تعظيماً للشرح . { ألم نشرح } أي شرحاً يليق بعظمتنا { لك } أي خاصة .
ولما عين المشروح له ، فكان المشروح مبهماً ، فزاد تشوف النفس إليه ليكون أضخم له ، بينه ليكون بياناً بعد إبهام فيكون أعظم في التنويه به وأجل في التعريف بأمره فقال : { صدرك * } أي نسره ونفرحه بالهجرة ، فإن هذه السورة مدنية عند ابن عباس رضي الله عنهما ، ونجله ونعظمه ونخرج منه قلبك ونشقه ونغسله ونملأه إيماناً وحكمة ورأفة وعلماً ورحمة ، فانفسح جداً حتى وسع مناجاة الحق ودعوة الخلق ، فكان مع الحق بعظمته وارتفاعه ، ومع الخلق بفيض أنواره وشعاعه ، وقد كان هذا الشرع حقيقة مراراً ، وكان مجازاً أيضاً بإحلال جميع معانيه ، وكل ذلك على ما لا يدخل تحت الوصف لا يعبر لكم عنه بأكثر من أنه شق بعظمتنا ، فالعلم الذي شق به معرفة الله والدار الآخرة والدين والدنيا ، والحكمة التي درّت فيه هي وضع الشيء في محله ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، وقرأ أبو جعفر المنصور بفتح جاء " نشرح " ، وخرجها ابن عطية على التأكيد بالنون الخفيفة ثم أبدل الألف من النون ، ثم حذف النون تخفيفاً ، وقال أبو حيان بأن اللحياني حكى في نوادره عن بعض العرب النصب بلم والجزم بلن ، وسره هنا أن الفتح في اللفظ مناسب غاية المناسبة للشرح ، ووجه قراءة الجمهور أنه لما دل على الفتح بالشرح دل بالجزم على أنه مع ذلك رابط لما أودعه من الحكم ضابط له ، هاد بما فيه من رزانة العلم ، ووقار التقى والحلم ، قال ابن برجان : ففرق ما بين النبي والولي في ذلك أن النبي شرح صدره ظاهراً فأعلى ظاهراً ، والولي شرح ذلك منه باطناً فعلى به باطناً ، والكافر ضيق ذلك منه وأبقى بظلمته وحظوظ الشيطان منه ، فهو لا يستطيع قبول الهداية ولا الصعود في معارج العبرة إلا على مقدار ما يستطيع الصعود في السماء
{ كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون }[ الأنعام : 125 ] .