بعد ذلك ينظم القرآن علاقة المسلمين ببيوت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وبنسائه - أمهات المؤمنين - في حياته وبعد وفاته كذلك . ويواجه حالة كانت واقعة ، إذ كان بعض المنافقين والذين في قلوبهم مرض يؤذون النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في بيوته وفي نسائه . فيحذرهم تحذيرا شديدا ، ويريهم شناعة جرمهم عند الله وبشاعته . و يهددهم بعلم الله لما يخفون في صدورهم من كيد وشر :
( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام - غير ناظرين إناه - ولكن إذا دعيتم فادخلوا ، فإذا طعمتم فانتشروا . ولا مستأنسين لحديث . إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق . وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب . ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن . وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ، ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا . إن ذلكم كان عند الله عظيما . إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما ) . .
روى البخاري - بإسناده - عن أنس بن مالك قال : بنى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بزينب بنت جحش بخبز ولحم . فأرسلت على الطعام داعيا . فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون . ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون . فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه . فقلت : يا رسول الله ما أجد أحدا أدعوه . قال : " ارفعوا طعامكم " . وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت . فخرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فانطلق إلى حجرة عائشة - رضي الله عنها - فقال " السلام عليكم - أهل البيت - ورحمة الله وبركاته " . قالت : وعليك السلام ورحمة الله . كيف وجدت أهلك يا رسول الله ? " بارك الله لك " . فتقرى حجر نسائه ، كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة ، ويقلن كما قالت عائشة . ثم رجع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون . وكان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] شديد الحياء . فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة . فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا . فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخله والأخرى خارجه . أرخى الستر بيني وبينه ، وأنزلت آية الحجاب .
والآية تتضمن آدابا لم تكن تعرفها الجاهلية في دخول البيوت ، حتى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان الناس يدخلون البيوت بلا إذن من أصحابها - كما جاء في شرح آيات سورة النور الخاصة بالاستئذان - وربما كان هذا الحال أظهر في بيوت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بعد أن أصبحت هذه البيوت مهبط العلم والحكمة وكان بعضهم يدخل وحين يرى طعاما يوقد عليه يجلس في انتظار نضج هذا الطعام ليأكل بدون دعوة إلى الطعام ! وكان بعضهم يجلس بعد الطعام - سواء كان قد دعي إليه أو هجم هو عليه دون دعوة - ويأخذ في الحديث والسمر غير شاعر بما يسببه هذا من إزعاج للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأهله . وفي رواية أن أولئك الثلاثة الرهط الذين كانوا يسمرون كانوا يفعلون هذا وعروس النبي - زينب بنت جحش - جالسة وجهها إلى الحائط ! والنبي [ صلى الله عليه وسلم ] يستحيي أن ينبههم إلى ثقلة مقامهم عنده حياء منه ، ورغبة في ألا يواجه زواره بما يخجلهم ! حتى تولى الله - سبحانه - عنه الجهر بالحق ( والله لا يستحيي من الحق ) .
ومما يذكر أن عمر - رضي الله عنه - بحساسيته المرهفة كان يقترح على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] الحجاب ؛ وكان يتمناه على ربه . حتى نزل القرآن الكريم مصدقا لاقتراحه مجيبا لحساسيته !
من رواية للبخاري - بإسناده - عن أنس بن مالك . قال : قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله . يدخل عليك البر والفاجر . فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب . فأنزل الله آية الحجاب . . . ؛
وجاءت هذه الآية تعلم الناس ألا يدخلوا بيوت النبي بغير إذن . . فإذا دعوا إلى الطعام دخلوا . فأما إذا لميدعوا فلا يدخلون يرتقبون نضجه ! ثم إذا طعموا خرجوا ، ولم يبقوا بعد الطعام للسمر والأخذ بأطراف الحديث . وما أحوج المسلمين اليوم إلى هذا الأدب الذي يجافيه الكثيرون . فإن المدعوين إلى الطعام يتخلفون بعده ، بل إنهم ليتخلفون على المائدة ، ويطول بهم الحديث ؛ وأهل البيت - الذين يحتفظون ببقية من أمر الإسلام بالاحتجاب - متأذون محتبسون ، والأضياف ماضون في حديثهم وفي سمرهم لا يشعرون ! وفي الأدب الإسلامي غناء وكفاء لكل حالة ، لو كنا نأخذ بهذا الأدب الإلهي القويم .
ثم تقرر الآية الحجاب بين نساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] والرجال :
( وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ) . .
وتقرر أن هذا الحجاب أطهر لقلوب الجميع :
( ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) . .
فلا يقل أحد غير ما قال الله . لا يقل أحد إن الاختلاط ، وإزالة الحجب ، والترخص في الحديث واللقاء والجلوس والمشاركة بين الجنسين أطهر للقلوب ، وأعف للضمائر ، وأعون على تصريف الغريزة المكبوتة ، وعلى إشعار الجنسين بالأدب وترقيق المشاعر والسلوك . . إلى آخر ما يقوله نفر من خلق الله الضعاف المهازيل الجهال المحجوبين . لا يقل أحد شيئا من هذا والله يقول : ( وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) . . يقول هذا عن نساء النبي الطاهرات . أمهات المؤمنين . وعن رجال الصدر الأول من صحابة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ممن لا تتطاول إليهن وإليهم الأعناق ! وحين يقول الله قولا . ويقول خلق من خلقه قولا . فالقول لله - سبحانه - وكل قول آخر هراء ، لا يردده إلا من يجرؤ على القول بأن العبيد الفانين أعلم بالنفس البشرية من الخالق الباقي الذي خلق هؤلاء العبيد !
والواقع العملي الملموس يهتف بصدق الله ، وكذب المدعين غير ما يقوله الله . والتجارب المعروضة اليوم في العالم مصدقة لما نقول . وهي في البلاد التي بلغ الاختلاط الحر فيها أقصاه أظهر في هذا وأقطع من كل دليل . [ وأمريكا أول هذه البلاد التي آتى الاختلاط فيها أبشع الثمار ] .
وقد ذكرت الآية أن مجيئهم للطعام منتظرين نضجه من غير دعوة ؛ وبقاءهم بعد الطعام مستأنسين للحديث . . كان يؤذي النبي فيستحيي منهم . وفي ختامها تقرر أنه ما يكون للمسلمين أن يؤذوا رسول الله . وكذلك ما يكون لهم أن يتزوجوا أزواجه من بعده ؛ وهن بمنزلة أمهاتهم . ومكانهن الخاص من رسول الله يحرم أن ينكحهن أحد من بعده ، احتفاظا بحرمة هذا البيت وجلاله وتفرده :
( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ، ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا ) . .
وقد ورد أن بعض المنافقين قال : إنه ينتظر أن يتزوج من عائشة !
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النّبِيّ إِلاّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىَ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النّبِيّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوَاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللّهِ عَظِيماً } .
يقول تعالى ذكره لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيها الذين أمنوا بالله ورسوله ، لا تدخلوا بيوت نبيّ الله إلا أن تُدْعَوا إلى طعام تطعمونه غَيرَ ناظِرِينَ إناهُ يعني : غير منتظرين إدراكه وبلوغه وهو مصدر من قولهم : قد أنى هذا الشيء يَأنِي إنىً وأنْيا وإنَاءً قال الحُطَيئة :
وآنَيْتُ العَشاءَ إلى سُهَيْلٍ *** أوِ الشّعْرَى فَطالَ بيَ الأَناءُ
وفيه لغة أخرى ، يقال : قد إن لك : أي تبين لك إينا ، ونال لك ، وأنال لك ومنه قول رُؤبة بن العَجاج :
هاجَتْ وَمِثْلِي نَوْلُه أنْ يَرْبَعا *** حَمامَةٌ ناخَتْ حَماما سُجّعا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : إلى طَعامٍ غيرَ ناظِرِينَ إناهُ قال : مُتَحَيّنين نُضْجَه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، غيرَ ناظِرِينَ إناهُ يقول : غير ناظرين الطعامَ أن يُصْنَع .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة غيرَ ناظِرِينَ إناهُ قال : غير متحينين طعامه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
ونصب غيرَ في قوله : غَيرَ ناظِرِينَ إناهُ على الحال من الكاف والميم في قوله : إلاّ أنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ لأن الكاف والميم معرفة وغير نكرة ، وهي من صفة الكاف والميم . وكان بعض نحويّي البصرة يقول : لا يجوز في «غير » الجرّ على الطعام ، إلا أن تقول : أنتم ، ويقول : ألا ترى أنك لو قلت : أبدى لعبد الله عليّ امرأة مبغضا لها ، لم يكن فيه إلا النصب ، إلا أن تقول : مبغض لها هو ، لأنك إذا أجريت صفته عليها ، ولم تظهر الضمير الذي يدلّ على أن الصفة له لم يكن كلاما ، لو قلت : هذا رجل مع امرأةٍ مُلازِمِها ، كان لحنا ، حتى ترفع ، فتقول ملازمُها ، أو تقول مُلازمِهَا هُو ، فتجرّ .
وكان بعض نحويي الكوفة يقول : لو جعلت «غير » في قوله : غَيرَ ناظِرِينَ إناهُ خفضا كان صوابا ، لأن قبلها الطعام وهو نكرة ، فيجعل فعلهم تابعا للطعام ، لرجوع ذكر الطعام في إناه ، كما تقول العرب : رأيت زيدا مع امرأةٍ محسنا إليها ومحسنٍ إليها ، فمن قال محسنا جعله من صفة زيد ، ومن خفضه فكأنه قال : رأيته مع التي يحسن إليها فإذا صارت الصلة للنكرة أتبعتها وإن كانت فعلاً لغير النكرة ، كما قال الأعشى :
فَقُلْتُ لَهُ هَذِهِ هاتِها *** إلَيْنا بِأَدْماءَ مُقْتادِها
فجعل المقتاد تابعا لإعراب بأدماء ، لأنه بمنزلة قولك : بأدماء تقتادها ، فخفضه ، لأنه صلة لها ، قال : ويُنْشَد : «بأدماءِ مقتادِها » بخفض الأدماء لإضافتها إلى المقتاد ، قال : ومعناه : هاتها على يدي من اقتادها . وأنشد أيضا :
وَإنّ امْرَأً أهْدَى إلَيْكِ ودُونَهُ *** مِن الأرْضِ مَوْماةٌ وَبَيْداءُ فَيْهَقُ
لَمَحْقُوقَةٌ أنْ تَسْتَجِيبي لِصَوْتِهِ *** وأنْ تعْلَمي أنّ المُعانَ مُوَفّقُ
وحُكِي عن بعض العرب سَمَاعا يُنْشِد :
أرأيْتِ إذْ أعْطَيْتُكِ الوُدّ كُلّه *** ولمْ يَكُ عِنْدي إنْ أَبَيْتِ إباءُ
أمُسْلِمَتِي للْمَوْتِ أنْتِ فَمَيّتٌ *** وَهَلْ للنّفُوسِ المُسْلِماتِ بَقاءُ
ولم يقل : فميت أنا ، وقال الكسائي : سمعت العرب تقول : يدك باسطها ، يريدون أنت ، وهو كثير في الكلام ، قال : فعلى هذا يجوز خفض «غير » .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، القول بأجازة جرّ «غير » في «غير ناظرين » في الكلام ، لا في القراءة ، لما ذكرنا من الأبيات التي حكيناها فأما في القراءة فغير جائز في «غير » غير النصب ، لإجماع الحجة من القرّاء على نصبها .
وقوله : وَلَكِنْ إذا دُعِيتُمْ فادْخُلُوا يقول : ولكن إذا دعاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فادخلوا البيت الذي أذن لكم بدخوله فإذَا طَعِمْتُمْ فانْتَشِرُوا يقول : فإذا أكلتم الطعام الذي دعيتم لأكله فانتشروا ، يعني فتفرّقوا واخرجوا من منزله . وَلا مُسْتأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ فقوله : وَلا مُسْتأْنِسينَ لِحَديثٍ في موضع خفض عطفا به على ناظرين ، كما يقال في الكلام : أنت غير ساكت ولا ناطق . وقد يحتمل أن يقال : «مستأنسين » في موضع نصب عطفا على معنى ناظرين ، لأن معناه : إلا أن يؤذن لكم إلى طعام لا ناظرين إناه ، فيكون قوله : وَلا مُسْتأْنِسِينَ نصبا حينئذ ، والعرب تفعل ذلك إذا حالت بين الأوّل والثاني ، فتردّ أحيانا على لفظ الأوّل ، وأحيانا على معناه ، وقد ذكر الفراء أن أبا القمقام أنشده :
أجِدّك لَسْتَ الدّهْرَ رَائيَ رَامَةٍ *** وَلا عاقِلٍ إلاّ وأنْتَ جَنِيبُ
وَلا مُصْعِدٍ فِي المُصْعِدِينَ لَمِنْعِجٍ *** وَلا هابِطا ما عِشْتُ هَضْبَ شَطِيبِ
فردّ «مصعد » على أن «رائي » فيه باء خافضة ، إذ حال بينه وبين المصعد مما حال بينهما من الكلام .
ومعنى قوله : وَلا مُسْتأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ : ولا متحدّثين بعد فراغكم من أكل الطعام إيناسا من بعضكم لبعض به ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَلا مُسْتأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ بعد أن تأكلوا .
واختلف أهل العلم في السبب الذي نزلت هذه الاَية فيه ، فقال بعضهم : نزلت بسبب قوم طعموا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وليمة زينب بنت جحش ، ثم جلسوا يتحدّثون في منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حاجة ، فمنعه الحياء من أمرهم بالخروج من منزله . ذكر من قال ذلك :
حدثني عمران بن موسى القزاز ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا عبد العزيز بن صُهَيب ، عن أنس بن مالك ، قال : بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ، فبعثت داعيا إلى العطام ، فدعوت ، فيجيء القوم يأكلون ويخرجون ثم يجيء القوم يأكلون ويخرجون ، فقلت : يا نبيّ الله قد دعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه ، قال : «ارفعوا طعامكم » ، وإن زينب لجالسة في ناحية البيت ، وكانت قد أعطيت جمالاً ، وبقي ثلاثة نفر يتحدّثون في البيت ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم منطلقا نحو حجرة عائشة ، فقال : «السّلامُ عَلَيْكُمْ أهْلَ البَيْتِ » فقالوا : وعليك السلام يا رسول الله ، كيف وجدت أهلك ؟ قال : فأتى حجر نسائه ، فقالوا مثل ما قالت عائشة ، فرجع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإذا الثلاثة يتحدّثون في البيت ، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم شديد الحياء ، فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم منطلقا نحو حجرة عائشة ، فلا أدري أَخبرَتْه ، أو أُخبر أن الرهط قد خرجوا ، فرجع حتى وضع رجله في أُسكفّة داخل البيت ، والأخرى خارجه ، إذ أرخى الستر بيني وبينه ، وأُنزلت آية الحجاب .
حدثني أبو معاوية بشر بن دحية ، قال : حدثنا سفيان ، عن الزهريّ ، عن أنس بن مالك ، قال : سألني أبيّ بن كعب عن الحجاب ، فقلت : أنا أعلم الناس به ، نزلت في شأن زينب أولم النبيّ صلى الله عليه وسلم عليها بتمر وسويق ، فنزلت : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النّبِيّ إلاّ أنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى قوله : ذَلِكُمْ أطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ .
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثني عمي ، قال : أخبرني يونس ، عن الزهريّ ، قال : أخبرني أنس بن مالك أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل في مبتني رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بها عروسا ، فدعا القوم فأصابوا من الطعام حتى خرجوا ، وبقي منهم رهط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطالوا المكث ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج ، وخرجت معه لكي يخرجوا ، فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشيت معه ، حتى جاء عتبة حجرة عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثم ظنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قد خرجوا ، فرجع ورجعت معه ، حتى دخل على زينب ، فإذا هم جلوس لم يقوموا ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعت معه ، فإذا هم قد خرجوا ، فضرب بيني وبينه سترا ، وأنزل الحجاب .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن حميد ، عن أنس ، قال : دعوت المسلمين إلى وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صبيحة بنى بزينب بنت جحش ، فأوسعهم خبزا ولحما ، ثم رجع كما كان يصنع ، فأتى حجر نسائه فسلم عليهنّ ، فدعون له ، ورجع إلى بيته وأنا معه فلما انتهينا إلى الباب إذا رجلان قد جرى بهما الحديث في ناحية البيت ، فلما أبصرهما ولى راجعا فلما رأيا النبيّ صلى الله عليه وسلم ولّى عن بيته ، ولّيا مُسْرِعين ، فلا أدري أنا أخبرته ، أو أُخبر فرجع إلى بيته ، فأرخى الستر بيني وبينه ، ونزلت آية الحجاب .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن حميد ، عن أنس بن مالك ، قال : قال عمر بن الخطاب : قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو حجبت عن أمهات المؤمنين ، فإنه يدخل عليك البرّ والفاجر ، فنزلت آية الحجاب .
حدثني القاسم بن بشر بن معروف ، قال : حدثنا سليمان بن حرب ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس بن مالك ، قال : أنا أعلم الناس بهذه الاَية ، آية الحجاب لما أُهديت زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع طعاما ، ودعا القوم ، فجاؤوا فدخلوا وزينب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت ، وجعلوا يتحدّثون ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يدخل وهم قعود ، قال : فنزلت هذه الاَية : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النّبِيّ . . . . إلى : فاسأَلُوهُنّ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ قال : فقام القوم وضرب الحجاب .
حدثني عمر بن إسماعيل بن مجالد ، قال : حدثنا أبي ، عن بيان ، عن أنس بن مالك ، قال : بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من نسائه ، فأرسلني ، فدعوت قوما إلى الطعام فلما أكلوا وخرجوا ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم منطلقا قِبَلَ بيت عائشة ، فرأى رجلين جالسين ، فانصرف راجعا ، فأنزل الله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النّبِيّ إلاّ أنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا المسعودي ، قال : حدثنا ابن نهشل ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، قال : أمر عمر نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحجاب ، فقالت زينب : يا بن الخطاب ، إنك لتغار علينا ، والوحي ينزل في بيوتنا ، فأنزل الله : وَإذَا سألْتُمُوهُنّ مَتاعا فاسأَلُوهُنّ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ .
حدثني محمد بن مرزوق ، قال : حدثنا أشهل بن حاتم ، قال : حدثنا ابن عون ، عن عمرو بن سعد ، عن أنس ، قال : وكنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكان يمرّ على نسائه ، قال : فأتى بامرأة عروس ، ثم جاء وعندها قوم ، فانطلق فقضى حاجته ، واحتبس وعاد وقد خرجوا قال : فدخل فأرخى بيني وبينه سترا ، قال : فحدثت أبا طلحة ، فقال : إن كان كما تقول : لينزلنّ في هذا شيء ، قال : ونزلت آية الحجاب .
وقال آخرون : كان ذلك في بيت أمّ سلمة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَلَكِنْ إذَا دُعِيُتمْ فادْخُلُوا فإذَا طَعِمْتُمْ فانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسينَ لِحَدِيثٍ قال : كان هذا في بيت أمّ سلمة ، قال : أكلوا ، ثم أطالوا الحديث ، فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يدخل ويخرج ويستحي منهم ، والله لا يستحي من الحق .
قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : وَإذَا سألْتُمُوهُنّ مَتاعا فاسأَلُوهُنّ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ قال : بلغنا أنهنّ أُمرن بالحجاب عند ذلك .
وقوله : إنّ ذَلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النّبِيّ . يقول : إن دخولكم بيوت النبيّ من غير أن يؤذن لكم ، وجلوسكم فيها مستأنسين للحديث بعد فراغكم من أكل الطعام الذي دعيتم له ، كان يؤذي النبيّ ، فيستحي منكم أن يخرجكم منها إذا قعدتم فيها للحديث بعد الفراغ من الطعام ، أو يمنعكم من الدخول إذا دخلتم بغير إذن مع كراهيته لذلك منكم وَاللّهُ لا يَسْتحْيِ مِنَ الحَقّ أن يتبين لكم ، وإن استحيا نبيكم فلم يبين لكم كراهية ذلك حياء منكم وَإذَا سألْتَمُوهُنّ مَتاعا فاسأَلُوهُنّ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ يقول : وإذا سألتم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج متاعا فاسأَلُوهُنّ مِنْ وَرَاءِ حِجاب يقول : من وراء ستر بينكم وبينهنّ ، ولا تدخلوا عليهنّ بيوتهنّ ذَلِكُمْ أطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ يقول تعالى ذكره : سؤالكم إياهنّ المتاع إذا سألتموهنّ ذلك من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهنّ من عوارض العين فيها التي تعرض في صدور الرجال من أمر النساء ، وفي صدور النساء من أمر الرجال ، وأحرى من أن لا يكون للشيطان عليكم وعليهنّ سبيل .
وقد قيل : إن سبب أمر الله النساء بالحجاب ، إنما كان من أجل أن رجلاً كان يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة معهما ، فأصابت يدها يد الرجل ، فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن ليث ، عن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه ، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة ، فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت آية الحجاب .
وقيل : نزلت من أجل مسألة عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ويعقوب ، قالا : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا حميد الطويل ، عن أنس ، قال : قال عمر بن الخطاب : قلت : يا رسول الله ، إن نساءك يدخل عليهنّ البرّ والفاجر ، فلو أمرتهن أن يحتجبن ؟ قال : فنزلت آية الحجاب .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا حميد ، عن أنس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثني أحمد بن عبد الرحمن ، قال : ثني عمرو بن عبد الله بن وهب ، قال : ثني يونس ، عن الزهريّ ، عن عروة ، عن عائشة قالت : إن أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم كنّ يخرجن بالليل إذا تبرّزن إلى «المناصع » وهو صعيد أفيح ، وكان عمر يقول : يا رسول الله ، احجب نساءك ، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة ، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكانت امرأة طويلة ، فناداها عمر بصوته الأعلى : قد عرفناك يا سودة ، حرصا أن ينزل الحجاب ، قال : فأنزل الله الحجاب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : خرجت سودة لحاجتها بعد ما ضرب علينا الحجاب ، وكانت امرأة تفرع النساء طولاً ، فأبصرها عمر ، فناداها : يا سودة ، إنك والله ما تخفين علينا ، فانظري كيف تخرجين ، أو كيف تصنعين ؟ فانكفأت فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه ليتعشى ، فأخبرته بما كان ، وما قال لها ، وإن في يده لعَرْقا ، فأوحي إليه ، ثم رفع عنه ، وإن العَرْق لفي يده ، فقال : «لقد أُذن لكنّ أن تخرجن لحاجتكنّ » .
حدثني أحمد بن محمدالطوسي ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا همام ، قال : حدثنا عطاء بن السائب ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، قال : أمر عمر نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحجاب فقالت زينب : يا ابن الخطاب ، إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ؟ فأنزل الله : وَإذَا سألْتُمُوهُنّ مَتاعا فاسأَلُوهُنّ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ .
حدثني أبو أيوب النهراني سليمان بن عبد الحميد ، قال : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، قال : ثني ابن حرب ، عن الزبيدي ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أن أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كنّ يخرجن بالليل إذا تبرّزن إلى «المناصع » وهو صعيد أفيح وكان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : احجب نساءك ، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي عشاء ، وكانت امرأة طويلة ، فناداها عمر بصوته الأعلى : قد عرفناك يا سودة ، حرصا على أن ينزل الحجاب ، قالت عائشة : فأنزل الله الحجاب ، قال الله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا . . . الاَية .
وقوله : وَما كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ يقول تعالى ذكره : وما ينبغي لكم أن تؤذوا رسول الله ، وما يصلح ذلك لكم وَلا أنْ تَنْكِحُوا أزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبَدا يقول : وما ينبغي لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا لأنهنّ أمهاتكم ، ولا يحلّ للرجل أن يتزوّج أمه .
وذُكر أن ذلك نزل في رجل كان يدخل قبل الحجاب ، قال : لئن مات محمد لأتزوجنّ امرأة من نسائه سماها ، فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك : وَما كانَ لَكُمْ أن تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ وَلا أنْ تَنْكِحُوا أزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبَدا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَما كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ وَلا أنْ تَنْكِحُوا أزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبَدا إنّ ذَلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللّهِ عَظِيما قال : ربما بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الرجل يقول : لو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم توفي تزوّجت فلانة من بعده ، قال : فكان ذلك يؤذي النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فنزل القرآن : وَما كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ . . . . الاَية .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عامر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مات ، وقد ملك قيلة بنت الأشعث ، فتزوّجها عكرمة بن أبي جهل بعد ذلك ، فشقّ على أبي بكر مشقة شديدة ، فقال له عمر : يا خليفة رسول الله إنها ليست من نسائه إنها لم يخيرّها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحجبها ، وقد برأها منه بالردّة التي ارتدّت مع قومها ، فاطمأنّ أبو بكر وسكن .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وقد ملك بنت الأشعث بن قيس ، ولم يجامعها ، ذكر نحوه .
وقوله : إنّ ذَلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللّهِ عَظِيما يقول : إن أذاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكاحكم أزواجه من بعده عند الله عظيم من الإثم .
هذه الآية تضمنت قصتين إحداهما الأدب في أمر الطعام والجلوس الثانية في أمر الحجاب ، فأما الأولى فالجمهور من المفسرين على أن سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش أولم عليها فدعا الناس ، فلما طعموا ، قعد نفر في طائفة من البيت فثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم فخرج ليخرجوا لخروجه ، ومر على حجر نسائه ثم عاد فوجدهم في مكانهم وزينب في البيت معهم ، فلما دخل وراءهم انصرف فخرجوا عند ذلك ، قال أنس بن مالك : فأعلم أو أعلمته بانصرافهم فجاء ، فلما وصل الحجرة أرخى الستر بيني وبينه ودخل ، ونزلت الآية بسبب ذلك{[9558]} ، وقال قتادة ومقاتل وفي كتاب الثعلبي : إن هذا السبب جرى في بيت أم سلمة{[9559]} والأول أشهر ، وقال ابن عباس : نزلت في ناس في المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون{[9560]} ، وقال إسماعيل بن أبي حكيم : هذا أدب أدّب الله تعالى به الثقلاء ، وقال ابن أبي عائشة في كتاب الثعلبي : بحسبك من الثقلاء إن الشرع لم يحتملهم ، وأما آية الحجاب فقال أنس بن مالك وجماعة سببها أمر العقود في بيت زينب ، القصة المذكورة آنفاً ، وقالت فرقة بل في بيت أم سلمة ، وقال مجاهد سبب آية الحجاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل معه قوم وعائشة معهم فمست يدها يد رجل منهم فنزلت آية الحجاب بسبب ذلك ، وقالت عائشة وجماعة سبب الحجاب كلام عمر وأنه كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم مراراً في أن يحجب نساءه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفعل وكان عمر يتابع فخرجت سودة ليلة لحاجتها وكانت امرأة تفرع النساء طولاً فناداها عمر قد عرفناك يا سودة -رصاً على الحجاب{[9561]}-
وقالت له زينب بنت جحش : عجبنا لك يا ابن الخطاب تغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ، فما زال عمر يتابع حتى نزلت آية الحجاب{[9562]} .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وافقت ربي في ثلاث : منها الحجاب ، ومقام إبراهيم ، و{ عسى ربه إن طلقكن }{[9563]} . الحديث{[9564]} .
وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى دار الدعوة ينتظر طبخ الطعام ونضجه في حديث أنس ، وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا ، كذلك فنهى الله تعالى المؤمنين عن أمثال ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ودخل في النهي سائر المؤمنين ، والتزم الناس أدب الله تعالى لهم في ذلك فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل لا قبله لانتظار نضج الطعام ، و { ناظرين } معناه منتظرين و { إناه } مصدر أنى الشيء يأنى إذا فرغ وحان آناً ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
تمخضت المنون له بيوم . . . أنى ولكل خاتمة تمام{[9565]}
وقرأ الجمهور بفتح النون من «إناه » وأمالها حمزة والكسائي ، ثم أكد المنع وحصر وقت الدخول بأن يكون عن الإذن ، ثم أمر تعالى بعد الطعام بأن يفترق جمعهم وينتشر ، وقوله { ولا مستأنسين } عطف على قوله { غير ناظرين } و { غير } منصوبة على الحال من الكاف والميم في { لكم } أي ناظرين ولا مستأنسين ، وقرأ ابن أبي عبلة «غير » بكسر الراء وجوازه على تقدير «غير ناظرين إناه أنتم {[9566]} » ، وقرأ الأعمش «آناءة » على جمع «أنى » بمدة بعد النون{[9567]} ، وقرأت فرقة «فيستحيي » بإظهار الياء المكسورة قبل الساكنة ، وقرأت فرقة «فيستحيي » بسكون الياء دون ياء مكسورة قبلها ، وقوله { والله لا يستحيي } معناه لا يقع منه ترك قوله { الحق } ولما كان ذلك يقع من البشر لعلة الاستحياء نفي عن الله تعالى العلة الموجبة لذلك في البشر ، وقوله تعالى : { وإذا سألتموهن متاعاً } الآية هي آية الحجاب ، و «المتاع » عام في جميع ما يمكن أن يطلب على عرف السكنى والمجاورة من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا ، وقوله { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } يريد من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النّساء وللنساء في أمر الرجال ، وقوله تعالى : { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } الآية روي أنها نزلت بسبب أن بعض الصحابة قال : لو مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأذى به ، هكذا كنى عنه ابن عباس ببعض الصحابة ، وحكى مكي عن معمر أنه قال هو طلحة بن عبيد الله{[9568]} .
قال الفقيه الإمام القاضي : لله در ابن عباس ، وهذا عندي لا يصح على طلحة ، الله عاصمه منه ، وروي أن رجلاً من المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بعد أبي سلمة وحفصة بعد خُنَيْس بن حذافة ما بال محمد يتزوج نساءنا والله لو مات لأجلنا السهام على نسائه فنزلت الآية في هذا ، وحرم الله تعالى نكاح أزواجه بعده وجعل لهن حكم الأمهات ، ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب ثم رجعت زوج عكرمة بن أبي جهل قتيلة بنت الأشعث بن قيس وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوجها ولم يبن بها{[9569]} فصعب ذلك على أبي بكر الصديق وقلق منه فقال له عمر : مهلاً يا خليفة رسول الله إنها ليست من نسائه إنه لم يخيرها ولا أرخى عليها حجاباً وقد أبانتها منه ردتها مع قومها ، فسكن أبو بكر{[9570]} ، وذهب عمر إلى أن لا يشهد جنازة زينب بنت جحش إلا ذو محرم منها مراعاة للحجاب ، فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش في القبة وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة فصنعه عمر ، وروي أن ذلك صنع في جنازة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم .