ذلك إلى ما أوحى الله به إلى الملائكة من تثبيت الذين آمنوا ؛ وإلى ما وعد به من إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ؛ وإلى ما أمر به الملائكة من الاشتراك الفعلي في المعركة :
( إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم ، فثبتوا الذين آمنوا ، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ، فاضربوا فوق الأعناق ، واضربوا منهم كل بنان ) . .
إنه الأمر الهائل . . إنها معية الله سبحانه للملائكة في المعركة ؛ واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة . . هذا هو الأمر الذي لا يجوز أن يشغلنا عنه أن نبحث : كيف اشتركت الملائكة ? ولاكم قتيلاً قتلت ? ولا كيف قتلت ? . . . إن الحقيقة الكبيرة الهائلة في الموقف هي تلك الحقيقة . . إن حركة العصبة المسلمة في الأرض بهذا الدين أمر هائل عظيم . . أمر يستحق معية الله لملائكته في المعركة ، واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة !
إننا نؤمن بوجود خلق من خلق الله اسمهم الملائكة ؛ ولكنا لا ندرك من طبيعتهم إلا ما أخبرنا به خالقهم عنهم . فلا نملك من إدراك الكيفية التي اشتركوا بها في نصر المسلمين يوم بدر إلا بمقدار ما يقرره النص القرآني . . وقد أوحى إليهم ربهم : أني معكم . وأمرهم أن يثبتوا الذين آمنوا ، ففعلوا - لأنهم يفعلون ما يؤمرون - ولكننا لا ندري كيف فعلوا . وأمرهم أن يضربوا فوق أعناق المشركين وأن يضربوا منهم كلبنان . ففعلوا كذلك بكيفية لا نعلمها ، فهذا فرع عن طبيعة إدراكنا نحن لطبيعة الملائكة ، ونحن لا نعلم عنها إلا ما علمنا الله . . ولقد وعد الله سبحانه أن يلقي الرعب في قلوب الذين كفروا . فكان ذلك ، ووعده الحق ، ولكنا كذلك لا نعلم كيف كان . فالله هو الذي خلق ، وهو أعلم بمن خلق ، وهو يحول بين المرء وقلبه ؛ وهو أقرب إليه من حبل الوريد . .
إن البحث التفصيلي في كيفيات هذه الأفعال كلها ليس من الجد الذي هو طابع هذه العقيدة . وطابع الحركة الواقعية بهذه العقيدة . . ولكن هذه المباحث صارت من مباحث الفرق الإسلامية ومباحث علم الكلام في العصور المتأخرة ، عندما فرغ الناس من الاهتمامات الإيجابية في هذا الدين ، وتسلط الترف العقلي على النفوس والعقول . . وإن وقفة أمام الدلالة الهائلة لمعية الله سبحانه للملائكة في المعركة ، واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة ، لهي أنفع وأجدى .
وفي نهاية هذا الاستعراض ، وفي أعقاب المشهد الهائل الذي تتجلى فيه تلك الحقيقة الهائلة ، يجيء التقرير الموضح لما وراء المعركة كلها . ووراء النصر فيها والهزيمة ، من قاعدة ودستور لمجرى هذه الأمور :
وأما قوله : إذْ يُوحي رَبّكَ إلى الَملائِكَةِ أنّي مَعَكُمْ أنصركم ، فَثَبّتُوا الّذِينَ آمَنُوا يقول : قوّوا عزمهم ، وصححوا نياتهم في قتال عدوّهم من المشركين . وقد قيل : إن تثبيت الملائكة المؤمنين كان حضورهم حربهم معهم ، وقيل : كان ذلك معونتهم إياهم بقتال أعدائهم ، وقيل : كان ذلك بأن الملك يأتي الرجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : سمعت هؤلاء القوم ، يعني المشركين يقولون : والله لئن حملوا علينا لننكشفن ، فيحدث المسلمون بعضهم بعضا بذلك ، فتقوى أنفسهم . قالوا : وذلك كان وحيَ الله إلى ملائكته .
وأما ابن إسحاق ، فإنه قال بما :
حدثنا بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : فَثَبّتُوا الّذِينَ آمَنُوا أي فآزروا الذين آمنوا .
القول في تأويل قوله تعالى : سأُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ فاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ .
يقول تعالى ذكره : سأرعب قلوب الذين كفروا بي أيها المؤمنون منكم ، وأملؤها فَرَقا حتى ينهزموا عنكم ، فاضربوا فوق الأعناق
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : فَوْقَ الأعْناقِ فقال بعضهم : معناه : فاضربوا الأعناق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية : فاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ قال : اضربوا الأعناق .
قال : حدثنا أبي ، عن المسعودي ، عن القاسم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّي لَمْ أُبْعَثْ لاِعَذّبَ بِعَذَابِ اللّهِ ، إنّما بُعِثْتُ لِضَرْبِ الأعْناقِ وَشَدّ الوثاقِ » .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ يقول : اضربوا الرقاب .
واحتجّ قائلو هذه المقالة بأن العرب تقول : رأيت نفس فلان ، بمعنى رأيته ، قالوا : فكذلك قوله : فاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ إنما معناه : فاضربوا الأعناق .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فاضربوا الرءوس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : وحدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة : فاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ قال : الرءوس .
واعتلّ قائلو هذه المقالة بأن الذي فوق الأعناق : الرءوس ، وقالوا : وغير جائز أن تقول : فوق الأعناق ، فيكون معناه : الأعناق . قالوا : ولو جاز كان أن يقال تحت الأعناق ، فيكون معناه : الأعناق . قالوا : وذلك خلاف المعقول من الخطاب ، وقلب معاني الكلام .
وقال آخرون : معنى ذلك : فاضربوا على الأعناق . وقالوا : «على » و «فوق » معناهما متقاربان ، فجاز أن يوضع أحدهما مكان الاَخر .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله أمر المؤمنين معلمهم كيفية قتل المشركين وضربهم بالسيف أن يضربوا فوق الأعناق منهم والأيدي والأرجل وقوله : فَوْقَ الأعْناقِ محتمل أن يكون مرادا به الرءوس ، ومحتمل أن يكون مرادا به فوق جلدة الأعناق ، فيكون معناه : على الأعناق وإذا احتمل ذلك صحّ قول من قال : معناه : الأعناق . وإذا كان الأمر محتملاً ما ذكرنا من التأويل ، لم يكن لنا أن نوجهه إلى بعض معانيه دون بعض إلاّ بحجة يجب التسليم لها ، ولا حجة تدلّ على خصوصه ، فالواجب أن يقال : إن الله أمر بضرب رءوس المشركين وأعناقهم وأيديهم وأرجلهم أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم الذين شهدوا معه بدرا .
وأما قوله : وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ فإن معناه : واضربوا أيها المؤمنون من عدوّكم كلّ طرف ومفصل من أطراف أيديهم وأرجلهم . والبنان : جمع بنانة ، وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين ، ومن ذلك قول الشاعر :
ألا لَيْتَنِي قَطّعْتُ مِنّي بَنانَةً ***وَلاقَيْتُهُ فِي البَيْتِ يَقْظانَ حاذِرَا
يعني بالبنانة : واحدة البنان .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية : وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ قال : كلّ مفصل .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية : وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ قال : المفاصل .
قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ قال : كلّ مفصل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسن ، عن يزيد ، عن عكرمة : وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ قال : الأطراف ، ويقال : كلّ مفصل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ يعني بالبنان : الأطراف .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ قال : الأطراف .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ يعني الأطراف .
وقوله تعالى : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة } الآية ، العامل في { إذ } العامل الأول على ما تقدم فيما قبلها ، ولو قدرناه قريباً لكان قوله { ويثبت } على تأويل عود الضمير على الربط ، وأما على عوده على الماء فيقلق أن تعمل { ويثبت } في { إذ }{[5246]} ووحي الله إلى الملائكة إما بإلهام أو بإرسال بعض إلى بعض ، وقرأ عيسى بن عمر بخلاف عنه «إني معكم » بكسر الألف على استئناف إيجاب القصة ، وقرأ جمهور الناس «أني » بفتح الألف على أنها معمولة ل { يوحي } ، ووجه الكسر أن الوحي في معنى القول ، وقوله { فثبتوا } يحتمل أن يكون بالقتال معهم على ما روي .
ويحتمل بالحضور في حيزهم والتأنيس لهم بذلك ، ويحتمل أن يريد : فثبوتهم بأقوال مؤنسة مقوية للقلب ، وروي في ذلك أن بعض الملائكة كان في صورة الآدميين فكان أحدهم يقول للذي يليه من المؤمنين : لقد بلغني أن الكفار قالوا لئن حمل المسلمون علينا لننكشفن ، ويقول آخر : ما أرى الغلبة والظفر إلا لنا . ويقول آخر : أقدم يا فلان ، ونحو هذا من الأقوال المثبتة .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أيضاً أن يكون التثبيت الذي أمر به ما يلقيه الملك في قلب الإنسان بلمته{[5247]} من توهم الظفر واحتقار الكفار ويجري عليه من خواطر تشجيعه ويقوي هذا التأويل مطابقة قوله تعالى : { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } وإن كان إلقاء الرعب يطابق التثبيت على أي صورة كان التثبيت ولكنه أشبه بهذا إذ هي من جنس واحد .
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا التأويل يجيء قوله { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } مخاطبة للملائكة ، ثم يجيء قوله تعالى : { فاضربوا فوق الأعناق } لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر عن صورة الحال كما تقول إذا وصفت حرباً لمن تخاطبه لقينا القوم وهزمناهم فاضرب بسيفك حيث شئت واقتل وخذ أسيرك ، أي هذه كانت صفة الحال .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون { سألقي } إلى آخر الآية خبراً يخاطب به المؤمنين عما يفعله في الكفار في المستقبل كما فعله في الماضي ، ثم أمرهم بضرب الرقاب والبنان تشجيعاً لهم وحضاً على نصرة الدين ، وقرأ الأعرج «الرعُب » بضم العين والناس على تسكينها ، واختلف الناس في قوله { فوق الأعناق } ، فقال الأخفش { فوق } زيادة ، وحكاه الطبري عن عطية أن المعنى فاضربوا الأعناق{[5248]} وقال غيره بمعنى على ، وقال عكرمة مولى ابن عباس : هي على بابها وأراد الرؤوس إذ هي فوق الأعناق ، وقال المبرد : وفي هذا إباحة ضرب الكافر في الوجه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل أنبلها ، ويحتمل عندي أن يريد بقوله { فوق الأعناق } وصف أبلغ ضربات العنق وأحكمها ، هي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ودون عظم الرأس في المفصل ، وينظر إلى هذا المعنى قول دريد بن الصمة{[5249]} السلمي حين قال له خذ سيفي وارفع به عن العظم واخفض عن الدماغ فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال ، ومثله قول الشاعر : [ الوافر ] .
جعلت السيف بين الجيد منه*** وبين أسيل خديه عذارا{[5250]}
فيجيء على هذا { فوق الأعناق } متمكناً ، وقال ابن قتيبة { فوق } في هذه الآية بمعنى دون ، وهذا خطأ بين ، وإنما دخل عليه اللبس من قوله تعالى : { ما بعوضة فما فوقها }{[5251]} أي فما دونها .
قال القاضي أبو محمد : وليست { فوق } هنا بمعنى دون وإنما المراد فما فوقها في القلة والصغر فأشبه المعنى دون وال { بنان } قالت فرقة : هي المفاصل حيث كان من الأعضاء ، فالمعنى على هذا : واضربوا منهم في كل موضع ، وقالت فرقة : البنان الأصابع ، وهذا هو القول الصحيح{[5252]} ، فعلى هذا التأويل وإن كان الضرب في كل موضع مباحاً فإنما قصد أبلغ المواضع لأن المقاتل إذا قطع بنانه استأسر{[5253]} ولم ينتفع بشيء من أعضائه في مكافحة وقتال .