بعد ذلك يستعرض السياق ضلال تصورهم لحقيقة الألوهية ، وانحرافهم عن التوحيد الذي هو قاعدة دين الله ، وأساس التصور الصحيح في كل رسالة . ويقرن تصورهم المنحرف إلى تصورات الجاهلية عن ذات الله - سبحانه - وصفاته . ويقرر التشابه بين قلوب المشركين من العرب وقلوب المشركين من أهل الكتاب ، ويصحح للجميع انحرافهم إلى الشرك ، ويوضح لهم قاعدة التصور الإيماني الصحيح :
( وقالوا : اتخذ الله ولدا . سبحانه ! بل له ما في السماوات والأرض ، كل له قانتون . بديع السماوات والأرض ، وإذا قضى أمرا فإنما يقول له : كن . فيكون . وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية . كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم . تشابهت قلوبهم . قد بينا الآيات لقوم يوقنون ) . .
وهذه المقولة الفاسدة : ( اتخذ الله ولدا ) . . ليست مقولة النصارى وحدهم في المسيح ، فهي كذلك مقولة اليهود في العزير . كما كانت مقولة المشركين في الملائكة . ولم تفصل الآية هنا هذه المقولات ، لأن السياق سياق إجمال للفرق الثلاث التي كانت تناهض الإسلام يومئذ في الجزيرة - ومن عجب أنها لا تزال هي التي تناهضه اليوم تماما ، ممثلة في الصهيونية العالمية والصليبية العالمية ، والشيوعية العالمية ، وهي أشد كفرا من المشركين في ذلك الحين ! - ومن هذا الإدماج تسقط دعوى اليهود والنصارى في أنهم وحدهم المهتدون ؛ وها هم أولاء يستوون مع المشركين !
وقبل أن يمضي إلى الجوانب الفاسدة الأخرى من تصورهم لشأن الله - سبحانه - يبادر بتنزيه الله عن هذا التصور ، وبيان حقيقة الصلة بينه وبين خلقه جميعا :
( سبحانه ! بل له ما في السماوات والأرض ، كل له قانتون . بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن . فيكون ) . .
هنا نصل إلى فكرة الإسلام التجريدية الكاملة عن الله سبحانه ، وعن نوع العلاقة بين الخالق وخلقه ، وعن طريقة صدور الخلق عن الخالق ، وهي أرفع وأوضح تصور عن هذه الحقائق جميعا . . لقد صدر الكون عن خالقه ، عن طريق توجه الإرادة المطلقة القادرة : ( كن ، فيكون ) . . فتوجه الإرادة إلى خلق كائن ما كفيل وحده بوجود هذا الكائن ، على الصورة المقدرة له ، بدون وسيط من قوة أو مادة . . أما كيف تتصل هذه الإرادة التي لا نعرف كنهها ، بذلك الكائن المراد صدوره عنها ، فذلك هو السر الذي لم يكشف للإدراك البشري عنه ، لأن الطاقة البشرية غير مهيأة لإدراكه . وهي غير مهيأة لإدراكه لأنه لا يلزمها في وظيفتها التي خلقت لها وهي خلافة الأرض وعمارتها . . وبقدر ما وهب الله للإنسان من القدرة على كشف قوانين الكون التي تفيده في مهمته ، وسخر له الانتفاع بها ، بقدر ما زوى عنه الأسرار الأخرى التي لا علاقة لها بخلافته الكبرى . . ولقد ضربت الفلسفات في تيه لا منارة فيه ، وهي تحاول كشف هذه الأسرار ؛ وتفترض فروضا تنبع من الإدراك البشري الذي لم يهيأ لهذا المجال ، ولم يزود أصلا بأدوات المعرفة فيه والارتياد . فتجيء هذه الفروض مضحكة في أرفع مستوياتها . مضحكة إلى حد يحير الإنسان : كيف يصدر هذا عن " فيلسوف " ! وما ذلك إلا لأن أصحاب هذه الفلسفات حاولوا أن يخرجوا بالإدراك البشري عن طبيعة خلقته ، وأن يتجاوزوا به نطاقه المقدور له ! فلم ينتهوا إلى شيء يطمأن إليه ؛ بل لم يصلوا إلى شيء يمكن أن يحترمه من يرى التصور الإسلامي ويعيش في ظله . وعصم الإسلام أهله المؤمنين بحقيقته أن يضربوا في هذا التيه بلا دليل ، وأن يحاولوا هذه المحاولة الفاشلة ، الخاطئة المنهج ابتداء . فلما أن أراد بعض متفلسفتهم متأثرين بأصداء الفلسفة الإغريقية - على وجه خاص - أن يتطاولوا إلى ذلك المرتقى ، باءوا بالتعقيد والتخليط ، كما باء أساتذتهم الإغريق ! ودسوا في التفكير الإسلامي ما ليس من طبيعته ، وفي التصور الإسلامي ما ليس من حقيقته . . وذلك هو المصير المحتوم لكل محاولة العقل البشري وراء مجاله ، وفوق طبيعة خلقته وتكوينه . .
والنظرية الإسلامية : أن الخلق غير الخالق . وأن الخالق ليس كمثله شيء . . ومن هنا تنتفي من التصور الإسلامي فكرة : " وحدة الوجود " على ما يفهمه غير المسلم من هذا الاصطلاح - أي بمعنى أن الوجود وخالقه وحدة واحدة - أو أن الوجود إشعاع ذاتي للخالق ، أو أن الوجود هو الصورة المرئية لموجده . . أو على أي نحو من أنحاء التصور على هذا الأساس . . والوجود وحدة في نظر المسلم على معنى آخر : وحدة صدوره عن الإرادة الواحدة الخالقة ، ووحدة ناموسه الذي يسير به ، ووحدة تكوينه وتناسقه واتجاهه إلى ربه في عبادة وخشوع :
( بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون ) . .
فلا ضرورة لتصور أن له من بين ما في السماوات والأرض ولدا . . فالكل من خلقه بدرجة واحدة ، وبأداة واحدة :
{ وَقَالُواْ اتّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لّهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلّ لّهُ قَانِتُونَ }
يعني بقوله جل ثناؤه : { وَقَالُوا اتّخَذَ اللّهُ وَلَدا } الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، وقالوا معطوف على قوله : وَسَعَى في خَرَابِها .
وتأويل الآية : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها } ، { وقالوا اتخذ الله ولدا } وهم النصارى الذين زعموا أن عيسى ابن الله ؟ فقال الله جل ثناؤه مكذّبا قِيلَهم ما قالوا من ذلك ومنتفيا مما نحلوه وأضافوا إليه بكذبهم وفريتهم . سبحانه يعني بها : تنزيها وتبريئا من أن يكون له ولد ، وعلوّا وارتفاعا عن ذلك . وقد دللنا فيما مضى على معنى قول القائل : «سبحان الله » بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . ثم أخبر جل ثناؤه أن له ما في السموات والأرض مِلْكا وخلقا ، ومعنى ذلك : وكيف يكون المسيح لله ولدا ، وهو لا يخلو إما أن يكون في بعض هذه الأماكن إما في السموات ، وإما في الأرض ، ولله ملك ما فيهما ؟ ولو كان المسيح ابنا كما زعمتم لم يكن كسائر ما في السموات والأرض من خلقه وعبيده في ظهور آيات الصنعة فيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : مطيعون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ } : مطيعون .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ }قال : مطيعون ، قال : طاعة الكافر في سجود ظله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بمثله ، إلا أنه زاد : بسجود ظله وهو كاره .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ } يقول : كل له مطيعون يوم القيامة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثني يحيى بن سعيد ، عمن ذكره ، عن عكرمة : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ }قال : الطاعة .
حدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { قانِتون } : مطيعون .
وقال آخرون : معنى ذلك كلّ له مُقرّون بالعبودية . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ }كل مقّر له بالعبودية . وقال آخرون بما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ }قال : كل له قائم يوم القيامة .
وللقنوت في كلام العرب معان : أحدها الطاعة ، والاَخر القيام ، والثالث الكفّ عن الكلام والإمساك عنه .
وأولى معاني القنوت في قوله : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ }الطاعة والإقرار لله عز وجل بالعبودية بشهادة أجسامهم بما فيها من آثار الصنعة ، والدلالة على وحدانية الله عز وجل ، وأن الله تعالى ذكره بارئها وخالقها . وذلك أن الله جل ثناؤه أكذب الذين زعموا أن لله ولدا بقوله : بل له ما في السموات والأرض ملكا وخلقا . ثم أخبر عن جميع ما في السموات والأرض أنها مقرّة بدلالتها على ربها وخالقها ، وأن الله تعالى بارئها وصانعها . وإنْ جحد ذلك بعضهم فألسنتهم مذعنة له بالطاعة بشهادتها له بآثار الصنعة التي فيها بذلك ، وأن المسيح أحدهم ، فأنى يكون لله ولدا وهذه صفته ؟ وقد زعم بعض من قصرت معرفته عن توجيه الكلام وجهته أن قوله : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ }خاصة لأهل الطاعة وليست بعامة . وغير جائز ادّعاء خصوص في آية عام ظاهرها إلا بحجة يجب التسليم لها لما قد بينا في كتابنا : «كتاب البيان عن أصول الأحكام » .
وهذا خبر من الله جلّ وعزّ عن أن المسيح الذي زعمت النصارى أنه ابن الله مُكَذّبهم هو والسموات والأرض وما فيها ، إما باللسان ، وإما بالدلالة وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن جميعهم بطاعتهم إياه وإقرارهم له بالعبودية عقيب قوله : { وَقَالُوا اتّخَذَ اللّهُ وَلَدا } فدلّ ذلك على صحة ما قلنا .
{ وقالوا اتخذ الله ولدا } نزلت لما قال اليهود : { عزير ابن الله } ، والنصارى : { المسيح ابن الله } ، ومشركوا العرب : الملائكة بنات الله ، وعطفه على قالت اليهود ، أو منع ، أو مفهوم قوله تعالى ومن أظلم . وقرأ ابن عامر بغير واو { سبحانه } تنزيه له عن ذلك ، فإنه يقتضي التشبيه والحاجة وسرعة الفناء ، ألا ترى أن الأجرام الفلكية -مع إمكانها وفنائها- لما كانت باقية ما دام العالم ، لم تتخذ ما يكون لها كالولد اتخاذ الحيوان والنبات ، اختيارا أو طبعا . { بل له ما في السماوات والأرض } رد لما قالوه ، واستدلال على فساده ، والمعنى أنه تعالى خالق ما في السماوات والأرض ، الذي من جملته الملائكة وعزير والمسيح { كل له قانتون } منقادون لا يمتنعون عن مشيئته وتكوينه ، وكل ما كان بهذه الصفة لم يجانس مكونه الواجب لذاته : فلا يكون له ولد ، لأن من حق الولد أن يجانس والده ، وإنما جاء بما الذي لغير أولي العلم ، وقال قانتون على تغليب أولي العلم تحقيرا لشأنهم ، وتنوين كل عوض عن المضاف إليه ، أي كل ما فيهما . ويجوز أن يراد كل من جعلوه ولدا له مطيعا مقرون بالعبودية ، فيكون إلزاما بعد إقامة الحجة ، والآية مشعرة على فساد ما قالوه من ثلاثة أوجه ، واحتج بها الفقهاء على أن من ملك ولده عتق عليه ، لأنه تعالى نفى الولد بإثبات الملك ، وذلك يقتضي تنافيهما .
{ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ }( 116 )
قرأ هذه الآية عامة القراء «وقالوا » بواو تربط الجملة بالجملة ، أو تعطف على { سعى }( {[1165]} ) [ البقرة : 114 ] ، وقرأ ابن عامر وغيره «قالوا » بغير واو ، وقال أبو علي( {[1166]} ) : وكذلك هي في مصاحف أهل الشام ، وحذف منه الواو يتجه من وجهين ، أحدهما أن هذه الجملة مرتبطة في المعنى بالتي قبلها فذلك يغني عن الواو( {[1167]} ) ، والآخر أن تستأنف هذه الجملة ولا يراعى ارتباطها بما تقدم ، واختلف على من يعود الضمير في { قالوا } ، فقيل : على النصارى ، لأنهم قالوا المسيح ابن الله .
قال القاضي أبو محمد : وذكرهم أشبه بسياق الآية ، وقيل : على اليهود ، لأنهم قالوا عزير ابن الله ، وقيل : على كفرة العرب لأنهم قالوا الملائكة بنات الله( {[1168]} ) ، و { سبحانه } مصدر معناه تنزيهاً له وتبرئة مما قالوا( {[1169]} ) ، و { ما } رفع بالابتداء ، والخبر في المجرور ، أو في الاستقرار المقدر ، أي كل ذلك له ملك ، والذي قالوا :إن الله اتخذه ولداً داخل في جملة { ما في السماوات والأرض } ولا يكون الولد إلا من جنس الوالد لا من المخلوقات المملوكات . ( {[1170]} )
والقنوت في اللغة الطاعة ، والقنوت طول القيام في عبادة ، ومنه القنوت في الصلاة ، فمعنى الآية أن المخلوقات كلها تقنت لله أي تخضع وتطيع ، والكفار والجمادات قنوتهم في ظهور الصنعة عليهم وفيهم( {[1171]} ) ، وقيل : الكافر يسجد ظله وهو كاره .