من يردنا إلى الحياة إن كنا رفاتا وعظاما ، أو خلقا آخر أشد إيغالا في الموت والخمود ? ( قل : الذي فطركم أول مرة ) . .
وهو رد يرجع المشكلة إلى تصور بسيط واضح مريح . فالذي أنشاهم إنشاء قادر على أن يردهم أحياء . ولكنهم لا ينتفعون به ولا يقتنعون :
( فسينغضون إليك رؤوسهم ) ينغضونها علوا أو سفلا ، استنكارا و استهزاء :
( ويقولون : متى هو ? ) : استبعادا لهذا الحادث واستنكارا .
( قل : عسى أن يكون قريبا ) . .
فالرسول لا يعلم موعده تحديدا . ولكن لعله أقرب مما يظنون . وما أجدرهم أن يخشوا وقوعه وهم في غفلتهم يكذبون ويستهزئون !
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مّمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الّذِي فَطَرَكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىَ هُوَ قُلْ عَسَىَ أَن يَكُونَ قَرِيباً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد للمكذّبين بالبعث بعد الممات من قومك القائلين أئِذَا كُنّا عِظاما وَرُفاتا أئِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقا جَدِيدا : كونوا إن عجبتم من إنشاء الله إياكم ، وإعادته أجسامكم ، خلقا جديدا بعد بِلاكم في التراب ، ومصيركم رُفاتا ، وأنكرتم ذلك من قُدرته حجارة أو حديدا ، أو خلقا مما يكبر في صدوركم إن قدرتم على ذلك ، فإني أحييكم وأبعثكم خلقا جديدا بعد مصيركم كذلك كما بدأتكم أوّل مرّة .
واختلف أهل التأويل في المعنىّ بقوله أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فقال بعضهم : عُنِي به الموت ، وأريد به : أو كونوا الموت ، فإنكم إن كنتموه أمتّكم ثم بعثتكم بعد ذلك يوم البعث . ذكر من قال ذلك :
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية ، عن ابن عمر أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قال : الموت ، قال : لو كنتم موتى لأحييتكم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ يعني الموت . يقول : إن كنتم الموت أحييتكم .
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا أبو مالك الجنبي ، قال : حدثنا ابن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قال : الموت .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا سليمان أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قال : الموت .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال سعيد بن جبير ، في قوله : أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ كونوا الموت إن استطعتم ، فإن الموت سيموت قال : وليس شيء أكبر في نفس ابن آدم من الموت .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : بلغني ، عن سعيد بن جبير ، قال : هو الموت .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمر ، أنه كان يقول : «يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح حتى يُجعل بين الجنة والنار ، فينادى مناد يُسمِع أهلَ الجنة وأهل النار ، فيقول : هذا الموت قد جئنا به ونحن مهلكوه ، فأيقنوا يا أهل الجنة وأهل النار أن الموت قد هلك » .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ يعني الموت ، يقول : لو كنتم الموت لأمتكم .
وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : إن الله يجيء بالموت يوم القيامة ، وقد صار أهل الجنة وأهل النار إلى منازلهم ، كأنه كبش أملح ، فيقف بين الجنة والنار ، فينادي أهل الجنة وأهل النار هذا الموت ، ونحن ذابحوه ، فأيقنوا بالخلود .
وقال آخرون : عنى بذلك السماء والأرض والجبال . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قال : السماء والأرض والجبال .
وقال آخرون : بل أريد بذلك : كونوا ما شئتم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد كُونُوا حِجارَةً أوْ حَدِيدا أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قال : ما شئتم فكونوا ، فسيعيدكم الله كما كنتم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أوْ حَدِيدا أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قال : من خلق الله ، فإن الله يميتكم ثم يبعثكم يوم القيامة خلقا جديدا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره قال : أوْ خَلْقا ممّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ، وجائز أن يكون عنى به الموت ، لأنه عظيم في صدور بني آدم وجائز أن يكون أراد به السماء والأرض وجائز أن يكون أراد به غير ذلك ، ولا بيان في ذلك أبين مما بين جلّ ثناؤه ، وهو كلّ ما كبر في صدور بني آدم من خلقه ، لأنه لم يخصص منه شيئا دون شيء .
وأما قوله : فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا فإنه يقول : فسيقول لك يا محمد هؤلاء الذين لا يؤمنون بالاَخرة مَنْ يُعِيدُنا خلقا جديدا ، إن كنا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدورنا ، فقل لهم : يعيدكم الّذِي فَطَرَكُمْ أوّلَ مَرّةٍ يقول : يعيدكم كما كنتم قبل أن تصيروا حجارة أو حديدا إنسا أحياء ، الذي خلقكم إنسا من غير شيء أوّل مرّة ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قُلِ الّذِي فَطَرَكُمْ أوّلَ مَرّةٍ أي خلقكم فَسَيُنْغَضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ يقول : فإنك إذا قلت لهم ذلك ، فسيهزّون إليك رءوسهم برفع وخفض وكذلك النّغْض في كلام العرب ، إنما هو حركة بارتفاع ثم انخفاض ، أو انخفاض ثم ارتفاع ، ولذلك سمي الظليم نَغْضا ، لأنه إذا عجل المشي ارتفع وانخفض ، وحرّك رأسه ، كما قال الشاعر :
*** أسكّ نَغْضا لا يَنِي مُسْتَهْدِجا ***
ويقال : نَغَضَت سنه : إذا تحرّكت وارتفعت من أصلها ومنه قول الراجز :
*** نَغَضَتْ مِنْ هَرِمٍ أسْنانُها ***
*** لمّا رأتْنِي أنْغَضَتْ ليَ الرأسا ***
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ أي يحرّكون رءوسهم تكذيبا واستهزاء .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة فَسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوُسَهُمْ قال : يحرّكون رءوسهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله فَسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ يقول : سيحركونها إليك استهزاء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراسانيّ ، عن ابن عباس فسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ قال : يحرّكون رءوسهم يستهزءون ويقولون متى هو .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ يقول : يهزؤون .
وقوله : وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ يقول جلّ ثناؤه : ويقولون متى البعث ، وفي أيّ حال ووقت يعيدنا خلقا جديدا ، كما كنا أوّل مرّة ؟ قال الله عزّ وجلّ لنبيه : قل لهم يا محمد إذ قالوا لك : متى هو ، متى هذا البعث الذي تعدنا ؟ : عسى أن يكون قريبا وإنما معناه : هو قريب ، لأن عسى من الله واجب ، ولذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «بُعِثْتُ أنا والسّاعَةُ كَهاتَيْن ، وأشار بالسّبابة والوُسطَى » ، لأن الله تعالى كان قد أعلمه أنه قريب مجيب .
{ أو خلقا مما يكبر في صدوركم } أي مما يكبر عندكم عن قبول الحياة لكونه أبعد شيء منها ، فإن قدرته تعالى لا تقصر عن إحيائكم لاشتراك الأجسام في قبول الأعراض ، فكيف إذا كنتم عظاما مرفوتة وقد كانت غضة موصوفة بالحياة قبل والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد . { فسيقولون من يُعيدنا قل الذي فطركم أول مرة } وكنتم ترابا وما هو أبعد منه من الحياة . { فسيُنغضون إليك رؤوسهم } فسيحركونها نحوك تعجبا واستهزاء . { ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا } فإن كل ما هو آت قريب ، وانتصابه على الخبر أو الظرف أي يكون في زمان قريب ، و{ أن يكون } اسم { عسى } أو خبره والاسم مضمر .