( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره . وإذا لاتخذوك خليلا . ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا . إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ، ثم لا تجد لك علينا نصيرا . وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ، وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا . سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ) . .
يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسول [ ص ] وأولها محاولة فتنته عما أوحى الله إليه ، ليفتري عليه غيره ، وهو الصادق الأمين .
لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى . . منها مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم . ومنها مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراما كالبيت العتيق الذي حرمه الله . ومنها طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلسا غير مجلس الفقراء . .
والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصلها ، ليذكر فضل الله على الرسول في تثبيته على الحق ، وعصمته من الفتنة ، ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلا . وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين ، وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات ، دون أن يجد له نصيرا منهم يعصمه من الله .
هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله ، هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائما . محاولة إغرائهم لينحرفوا - ولو قليلا - عن استقامة الدعوة وصلابتها . ويرضوا بالحلول الوسط التي يغزونهم بها في مقابل مغانم كثيرة . ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هينا ، فأصحاب السلطان لا يطلبون إليه أن يترك دعوته كلية ، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق . وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة ، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها !
ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق . وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسير ، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل ، لا يملك أن يقف عند ما سلم به أول مرة . لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء !
والمسألة مسألة إيمان بالدعوة كلها . فالذي ينزل عن جزء منها مهما صغر ، والذي يسكت عن طرف منها مهما ضؤل ، لا يمكن أن يكون مؤمنا بدعوته حق الإيمان . فكل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر . وليس فيها فاضل ومفضول . وليس فيها ضروري ونافلة . وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنه ، وهي كل متكامل يفقد خصائصه كلها حين يفقد أحد أجزائه . كالمركب يفقد خواصه كلها إذا فقد أحد عناصره !
وأصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات . فإذا سلموا في الجزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم ، وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة ، وارتفاع السعر ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها !
والتسليم في جانب ولو ضئيل من جوانب الدعوة لكسب أصحاب السلطان إلى صفها ؛ هو هزيمة روحية بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصرة الدعوة . والله وحده هو الذي يعتمد عليه المؤمنون بدعوتهم . ومتى دبت الهزيمة في أعماق السريرة ، فلن تنقلب الهزيمة نصرا !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاّتّخَذُوكَ خَلِيلاً } .
اختلف أهل التأويل في الفتنة التي كاد المشركون أن يفتنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بها عن الذي أوحى الله إليه إلى غيره فقال بعضهم : ذلك الإلمام بالاَلهة ، لأن المشركين دعوه إلى ذلك ، فهمّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القُمّي ، من جعفر ، عن سعيد ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود ، فمنعته قريش ، وقالوا : لا نَدَعُه حتى يلم بآلهتنا ، فحدّث نفسه ، وقال : «ما عَلَيّ أنْ أُلمّ بِها بَعْدَ أنْ يَدَعُونِي أسْتَلِمُ الحَجَرَ ، وَاللّهُ يَعْلَمُ أنّي لَهَا كارِهٌ » ، فَأَبَى الله ، فَأنْزَلَ اللّهُ : وإنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الّذِي أَوْحَيْنا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غيرَهُ الاَية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلَوْلا أنْ ثَبّتْناكَ لَقَدْ كدْتَ تَرْكَن إلَيْهِمْ شَيْئا قَلِيلاً ذكر لنا أن قريشا خلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخمونه ويسودونه ويقاربونه ، وكان في قولهم أن قالوا : إنك تأتي بشيء لا يأتي به أحد من الناس ، وأنت سيدنا وابن سيدنا ، فما زالوا يكلّمونه حتى كاد أن يقارفهم ثم منعه الله وعصمه من ذلك ، فقال : وَلَوْلا أنْ ثَبّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئا قَلِيلاً .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غيرَهُ قال : أطافوا به ليلة ، فقالوا : أنت سيدنا وابن سيدنا ، فأرادوه على بعض ما يريدون فهمّ أن يقارفَهُمْ في بعض ما يريدون ، ثم عصمه الله ، فذلك قوله : لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئا قَلِيلاً الذي أرادوا فهمّ أن يقارفهم فيه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : قالوا له : ائت آلهتنا فامْسَسْها ، فذلك قوله : شَيْئا قليلاً .
وقال آخرون : إنما كان ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم همّ أن يُنِظر قوما بإسلامهم إلى مدة سألوه الإنظار إليها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَإنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَن الّذي أوْحَيْنا إلَيْكَ لِتَفْتَري عَلَيْنا غيرَهُ وإذا لاتّخَذوكَ خَلِيلاً وذلك أن ثقيفا كانوا قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : يا رسول لله أَجّلنا سنة حتى يُهْدَى لاَلهتنا ، فإذا قبضنا الذي يُهْدى لاَلهتنا أخذناه ، ثم أسلمنا وكسرنا الاَلهة ، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ، وأن يؤجّلهم ، فقال الله : وَلَوْلا أنْ ثَبّتْناكَ لَقَدْ كَدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئا قَلِيلاً .
القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، أن المشركين كادوا أن يفتنوه عما أوحاه الله إليه ليعمل بغيره ، وذلك هو الافتراء على الله وجائز أن يكون ذلك كان ما ذكر عنهم من ذكر أنهم دعوه أن يمسّ آلهتهم ، ويلمّ بها ، وجائز أن يكون كان ذلك ما ذُكر عن ابن عباس من أمر ثقيف ، ومسألتهم إياه ما سألواه مما ذكرنا وجائز أن يكون غير ذلك ، ولا بيان في الكتاب ولا في خبر يقطع العذر أيّ ذلك كان ، والاختلاف فيه موجود على ما ذكرنا ، فلا شيء فيه أصوب من الإيمان بظاهره ، حتى يأتي خبر يجب التسليم له ببيان ما عُنِي بذلك منه .
وقوله : وَإذا لاتّخَذُوكَ خَلِيلاً يقول تعالى ذكره : ولو فعلت ما دَعَوْك إليه من الفتنة عن الذي أوحينا إليك لاتخذوك إذا لأنفسهم خليلاً ، وكنت لهم وكانوا لك أولياء .
{ وإن كادوا ليفتنُونك } نزلت في ثقيف قالوا لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب لا نعشر ولا نحشر ولا نجبى في صلاتنا ، وكل رباً لنا فهو لنا وكل رباً علينا فهو موضوع عنا ، وأن تمتعنا باللات سنة وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة ، فإن قالت العرب لم فعلت ذلك فقل إن الله أمرني . وقيل في قريش قالوا لا نمكنك من استلام الحجر حتى تلم بآلهتنا وتمسها بيدك . وإن هي المخففة واللام هي الفارقة والمعنى : أن الشأن قاربوا بمبالغتهم أن يوقعوك في الفتنة بالاستنزال . { عن الذي أوحينا إليك } من الأحكام { لتفتري علينا غيره } غير ما أوحينا إليك . { وإذا لاتخذوك خليلا } ولو اتبعت مرادهم لاتخذوك بافتتانك وليا لهم بريئا من ولايتي .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.