السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَإِن كَادُواْ لَيَفۡتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ لِتَفۡتَرِيَ عَلَيۡنَا غَيۡرَهُۥۖ وَإِذٗا لَّٱتَّخَذُوكَ خَلِيلٗا} (73)

ولما عدّد تعالى في الآيات المتقدّمة أقسام نعمه على خلقه وأتبعها بذكر درجات الخلق في الآخرة وشرح أحوال السعداء أردفه بما يجري مجرى تحذير السعداء عن الاغترار بوسواس أرباب الضلال والانخداع بكلماتهم المشتملة على المكر والتلبيس فقال تعالى : { وإن كادوا } أي : قاربوا في هذه الحياة الدنيا لعماهم في أنفسهم عن عصمة الله تعالى لك . ولما كانت إن هذه هي المخففة من الثقيلة أتى باللام الفارقة بينها وبين النافية بقوله تعالى : { ليفتنونك } أي : ليخالطونك مخالطة تميلك إلى جهة قصدهم لكثرة خداعهم .

واختلف في سبب نزول هذه الآية فروى عطاء عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في وفد ثقيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال قال : وما هنّ قالوا أن لا نجبي في الصلاة بفتح الجيم والباء الموحدة المشدّدة ، أي : لا ننحني فيها ولا نكسر أصنامنا إلا بأيدينا ، وأن لا تمنعنا من اللات والعزى سنة من غير أن نعبدها فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود » . وأمّا أن تكسروا أصنامكم بأيديكم فذلك لكم وأمّا الطاغية يعني اللات والعزى فإني غير ممتعكم بها ، وفي رواية وحرّم وادينا كما حرّمت مكة شجرها وطيرها ووحشها فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجبهم فقالوا : يا رسول الله إنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا فإن خشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك فسكت النبيّ صلى الله عليه وسلم فطمع القوم في سكوته أن يعطيهم ذلك فصاح عليهم عمر وقال : أما ترون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمسك عن الكلام كراهة لما تذكرونه فأنزل الله تعالى هذه الآية " .

وقال سعيد بن جبير : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود فمنعه قريش وقالوا : لا ندعك حتى تلمّ بآلهتنا وتمسها فحدّث صلى الله عليه وسلم نفسه ما عليّ أن أفعل ذلك والله يعلم أني لها لكاره بعد أن يدعوني حتى استلم الحجر فأنزل الله تعالى هذه الآية . وروي أنّ قريشاً قالوا له : اجعل آية رحمة آية عذاب وآية عذاب آية رحمة حتى نؤمن بك فنزلت : { وإن كادوا ليفتنونك } . { عن الذي أوحينا إليك } من أوامرنا ونواهينا ووعدنا ووعيدنا { لتفتري } أي : لتقول { علينا غيره } أي : ما لم نقله { وإذاً } أي : لو ملت إلى ما دعوك إليه { لاتخذوك } أي : بغاية الرغبة { خليلاً } أي : لوالوك وصافوك وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كفرهم وراض بشركهم ومن يكن خليل الكفار لم يكن خليل الله تعالى ، ولكنك أبصرت رشدك فلزمت أمر الله واستمروا على عماهم إتماماً لتفضيلنا لك على كل مخلوق .