( وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة ، وكان تحته كنز لهما ، وكان أبوهما صالحا ، فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما ، رحمة من ربك وما فعلته عن أمري . . ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ) . .
فهذا الجدار الذي أتعب الرجل نفسه في إقامته ، ولم يطلب عليه أجرا من أهل القرية - وهما جائعان وأهل القرية لا يضيفونهما - كان يخبى ء تحته كنزا ، ويغيب وراءه مالا لغلامين يتيمين ضعيفين في المدينة . ولو ترك الجدار ينقض لظهر من تحته الكنز فلم يستطع الصغيران أن يدفعا عنه . . ولما كان أبوهما صالحا فقد نفعهما الله بصلاحه في طفولتهما وضعفهما ، فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما ، ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته .
ثم ينفض الرجل يده من الأمر . فهي رحمة الله التي اقتضت هذا التصرف . وهو أمر الله لا أمره . فقد أطلعه على الغيب في هذه المسألة وفيما قبلها ، ووجهه إلى التصرف فيها وفق ما أطلعه عليه من غيبه ( رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ) . .
فالآن ينكشف الستر عن حكمة ذلك التصرف ، كما انكشف عن غيب الله الذي لا يطلع عليه أحدا إلا من ارتضى .
وفي دهشة السر المكشوف والستر المرفوع يختفي الرجل من السياق كما بدا . لقد مضى في المجهول كما خرج من المجهول . فالقصة تمثل الحكمة الكبرى . وهذه الحكمة لا تكشف عن نفسها إلا بمقدار . ثم تبقى مغيبة في علم الله وراء الأستار .
وهكذا ترتبط - في سياق السورة - قصة موسى والعبد الصالح ، بقصة أصحاب الكهف في ترك الغيب لله ، الذي يدبر الأمر بحكمته ، وفق علمه الشامل الذي يقصر عنه البشر ، الواقفون وراء الأستار ، لا يكشف لهم عما وراءها من الأسرار إلا بمقدار . . .
انتهى الجزء الخامس عشر ويليه الجزء السادس عشر
مبدواً بقوله تعالى : ( أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر . . . )
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَمّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مّن رّبّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عّلَيْهِ صَبْراً } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قول صاحب موسى : وأما الحائط الذي أقمته ، فإنه كان لغلامين يتيمين في المدينة ، وكان تحته كنزلهما .
اختلف أهل التأويل في ذكل الكنز ، فقال بعضهم : كان صُحُفا فيها علِم مدفونة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : كان تحته كنْزُ علم .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن سعيد بن جبير : وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : كان كنز علم .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : علم .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : علم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : صحف لغلامين فيها علم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : صحف علم .
حدثني أحمد بن حازم الغفاريّ ، قال : حدثنا هنادة ابنة مالك الشيبانية ، قالت : سمعت صاحبي حماد بن الوليد الثقفي يقول : سمعت جعفر بن محمد يقول في قول الله عزّ وجلّ : وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : سطران ونصف ، لم يتمّ الثالث : «عجبت للموقن بالرزق كيف يتعب ، وعجبت للموقن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت للموقن بالموت كيف يفرح » وقد قال : وَإنْ كانَ مِثْقالَ حَبّةٍ مِنْ خَرْدَلِ أتيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ قالت : وذكر أنهما حُفِظا بصلاح أبيهما ، ولم يذكر منهما صلاح ، وكان بينهما وبين الأب الذي حُفظا به سبعة آباء ، كان نساجا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا الحسن بن ندبة ، قال : حدثنا سلمة بن محمد ، عن نعيم العنبريّ ، وكان من جُلساء الحسن ، قال : سمعت الحسن يقول في قوله : وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : لوح من ذهب مكتوب فيه : «بسم الله الرحمَن الرحيم : عجبت لمن يؤمن كيف يحزن وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها ، كيف يطمئنّ إليها لا إله إلا الله ، محمد رسول الله » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه كان يقول : ما كان الكنز إلا علْما .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن حميد ، عن مجاهد ، في قوله وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : صُحُف من علم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وعب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، عن عمر مولى غُفْرة ، قال : إن الكنز الذي قال الله في السورة التي يذكر فيها الكهف وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : كان لوحا من ذهب مصمت ، مكتوبا فيه : بسم الله الرحمَن الرحيم . عَجَبٌ ممن عرف الموت ثم ضحك ، عَجَبٌ ممن أيقن بالقدر ثم نَصِب ، عَجَبٌ ممن أيقن بالموت ثم أمن ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله .
وقال آخرون : بل كان مالاً مكنوزا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشام ، قال : أخبرنا حصين ، عن عكرمة وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : كنز مال .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن عكرمة ، مثله .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، عن شعبة ، قال : أخبرني أبو حُصَين ، عن عكرمة ، مثله ، قال شعبة : ولم نسمعه منه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : مال لهما ، قال قتادة : أُحِلّ الكنز لمن كان قبلنا ، وحُرّم علينا ، فإن الله يُحلّ من أمره ما يشاء ، ويحرّم ، وهي السنن والفرائض ، ويحلّ لأمة ، ويحرّم على أخرى ، لكنّ الله لا يقبل من أحد مضى إلا الإخلاص والتوحيد له .
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب : القول الذي قاله عِكْرمة ، لأن المعروف من كلام العرب أن الكنز اسم لما يكنز من من مال ، وأن كلّ ما كنز فقد وقع عليه اسم كنز ، فإن التأويل مصروف إلى الأغلب من استعمال المخاطبين بالتنزيل ، ما لم يأت دليل يجب من أجله صرفه إلى غير ذلك ، لعلل قد بيّناها في غير موضع .
وقوله : وكان أبُوهُما صَالِحا فأرَادَ رَبّكَ أنْ يَبْلُغا أشُدّهُما يقول : فأراد ربك أن يدركا ويبلغا قوتهما وشدّتهما ، ويستخرجا حينئذ كنزهما المكنوز تحت الجدار الذي أقمته ، رحمة من ربك بهما ، يقول : فعلت فعل هذا بالجدار ، رحمة من ربك لليتيمين . وكان ابن عباس يقول في ذلك ما :
حدثني موسى بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن مسعر ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال ابن عباس ، في قوله وَكانَ أبُوهُما صالِحا قال : حُفِظا بصلاح أبيهما ، وما ذكر منهما صلاح .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا سفيان ، عن مسعر ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله .
وقوله : وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي يقول : وما فعلت يا موسى جميع الذي رأيتني فعلته عن رأيي ، ومن تلقاء نفسي ، وإنما فعلته عن أمر الله إياي به ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي : كان عبدا مأمورا ، فمضى لأمر الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي ما رأيت أجمع ما فعلته عن نفسي .
وقوله : ذَلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرا يقول : هذا الذي ذكرت لك من الأسباب التي من أجلها فعلت الأفعال التي استنكرتها مني ، تأويل . يقول : ما تؤول إليه وترجع الأفعال التي لم تسطع على ترك مسألتك إياي عنها ، وإنكارك لها صبرا .
وهذه القصص التي أخبر الله عزّ وجلّ نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه ، تأديب منه له ، وتقدمٌ إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذّبوه واستهزؤوا به وبكتابه ، وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه ، فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها ، كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف الصحة في الظاهر عند موسى ، إذ لم يكن عالما بعواقبها ، وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآئلة إلى الصواب في العاقبة ، ينبىء عن صحة ذلك قوله : وَرَبّكَ الْغَفُورُ ذُو الرّحْمَةِ لَوْ يُوءَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجّلَ لَهُمْ العَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا . ثم عقب ذلك بقصة موسى وصاحبه ، يعلم نبيه أن تركه جلّ جلاله تعجيل العذاب لهؤلاء المشركين ، بغير نظر منه لهم ، وإن ذلك فيما يَحْسِب من لا علم له بما الله مدبر فيهم ، نظرا منه لهم ، لأن تأويل ذلك صائر إلى هلاكهم وبوارهم بالسيف في الدنيا واستحقاقهم من الله في الاَخرة الخَزْيَ الدائم .
{ وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة } قيل اسمهما أصرم وصريم ، واسم المقتول جيسور . { وكان تحته كنز لهما } من ذهب وفضة ، روي ذلك مرفوعا والذم على كنزهما في قوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة } لمن لا يؤدي زكاتهما وما تعلق بهما من الحقوق . وقيل من كتب العلم . وقيل كان لوح من ذهب مكتوب فيه : عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب ، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا الله محمد رسول الله . { وكان أبوهما صالحا } تنبيه على أن سعيه ذلك كان لصلاحه . قيل كان بينهما وبين الأب الذي حفظا فيه سبعة آباء وكان سياحا واسمه كاشح . { فأراد ربك أن يبلُغا أشدّهما } أي الحلم وكمال الرأي . { ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك } مرحومين من ربك ، ويجوز أن يكون علة أو مصدرا لأراد فإن إرادة الخير رحمة . وقيل متعلق بمحذوف تقديره فعلت ما فعلت رحمة من ربك ، ولعل إسناد الإرادة أولا إلى نفسه لأنه المباشر للتعييب وثانيا إلى الله وإلى نفسه لأن التبديل بإهلاك الغلام وإيجاد الله بدله ، وثالثا إلى الله وحده لأنه لا مدخل له في بلوغ الغلامين . أو لأن الأول في نفسه شر ، والثالث خير ، والثاني ممتزج . أو لاختلاف حال العارف في الإلتفات إلى الوسائط . { وما فعلتُه } وما فعلت ما رأيته . { عن أمري } عن رأي وإنما فعلته بأمر الله عز وجل ، ومبنى ذلك على أنه إذا تعارض ضرران يجب تحمل أهونهما لدفع أعظمهما ، وهو أصل ممهد غير أن الشرائع في تفاصيله مختلفة . { ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا } أي ما لم تستطع فحذف التاء تخفيفا .
ومن فوائد هذه القصة أن لا يعجب المرء بعلمه ولا يبادر إلى إنكار ما لم يستحسنه ، فلعل فيه سرا لا يعرفه ، وأن يداوم على التعلم ويتذلل للمعلم ، ويراعي الأدب في المقابل وأن ينبه المجرم على جرمه ويعفو عنه حتى يتحقق إصراره ثم يهاجر عنه .