في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (16)

ثم مشهدهم المصور لهيئتهم الجسدية ومشاعرهم القلبية في لمحة واحدة . في التعبير العجيب الذي يكاد يجسم حركة الأجسام والقلوب :

( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ) . .

إنهم يقومون لصلاة الليل . صلاة العشاء الآخرة . الوتر . ويتهجدون بالصلاة ، ودعاء الله . ولكن التعبير القرآني يعبر عن هذا القيام بطريقة أخرى : ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) . . فيرسم صورة المضاجع في الليل تدعو الجنوب إلى الرقاد والراحة والتذاذ المنام . ولكن هذه الجنوب لا تستجيب . وإن كانت تبذل جهدا في مقاومة دعوة المضاجع المشتهاة . لأن لها شغلا عن المضاجع اللينة والرقاد اللذيذ . شغلا بربها . شغلا بالوقوف في حضرته . وبالتوجه إليه في خشية وفي طمع يتنازعها الخوف والرجاء . الخوف من عذاب الله والرجاء في رحمته . والخوف من غضبه والطمع في رضاه . والخوف من معصيته والطمع في توفيقه . والتعبير يصور هذه المشاعر المرتجفة في الضمير بلمسة واحدة ، حتى لكأنها مجسمة ملموسة : ( يدعون ربهم خوفا وطمعا ) . . وهم إلى جانب هذه الحساسية المرهفة ، والصلاة الخاشعة ، والدعاء الحار يؤدون واجبهم للجماعة المسلمة طاعة لله وزكاة . . ( ومما رزقناهم ينفقون ) . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (16)

القول في تأويل قوله تعالى : { تَتَجَافَىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } .

يقول تعالى ذكره : تتنحّى جُنوب هؤلاء الذين يؤمنون بآيات الله ، الذين وصفت صفتهم ، وترتفع من مضاجعهم التي يضطجعون لمنامهم ، ولا ينامون يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفا وَطَمَعا في عفوه عنهم ، وتفضّله عليهم برحمته ومغفرته ومِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في سبيل الله ، ويؤدّون منه حقوق الله التي أوجبها عليهم فيه . وتتجافى : تتفاعل من الجفاء والجفاء : النبو ، كما قال الراجز :

وَصَاحِبي ذَاتُ هِباب دَمْشَقُ *** وَابنُ مِلاطٍ مُتجاف أرْفَقُ

يعني : أن كرمها سجية عن ابن ملاط . وإنما وصفهم تعالى ذكره بتجافي جنوبهم عن المضاجع لتركهم الاضطجاع للنوم شغلاً بالصلاة .

واختلف أهل التأويل في الصلاة التي وصفهم جلّ ثناؤه ، أن جنوبهم تتجافى لها عن المضطجع ، فقال بعضهم : هي الصلاة بين المغرب والعشاء ، وقال : نزلت هذه الاَية في قوم كانوا يصلون في ذلك الوقت . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن أبي عروبة ، قال : قال قتادة ، قال أنس ، في قوله كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللّيْل مَا يَهْجَعُونَ قال : كانوا يتنفّلون فيما بين المغرب والعشاء ، وكذلك تتجافى جنوبهم .

قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، في قوله تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ قال : يصلون ما بين هاتين الصلاتين .

حدثني عليّ بن سعيد الكنديّ ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ قال : ما بين المغرب والعشاء .

حدثني محمد بن خلف ، قال : حدثنا يزيد بن حيان ، قال : حدثنا الحارث بن وجيه الراسبي ، قال : حدثنا مالك بن دينار ، عن أنس بن مالك ، أن هذه الاَية نزلت في رجال من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضَاجِعِ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس : تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَن المَضَاجِعِ قال : كانوا يتطوّعون فيما بين المغرب والعشاء .

قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن أنس تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَن المَضَاجِعِ قال : ما بين المغرب والعشاء .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ قال : كانوا يتنفّلون ما بين صلاة المغرب وصلاة العشاء .

وقال آخرون : عنى بها صلاة المغرب . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن طلحة ، عن عطاء تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَن المَضَاجِعِ قال : عن العتمة .

وذُكر عن حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال يحيى بن صَيفي ، عن أبي سلمة ، قال : العتمة .

وقال آخرون : لانتظار صلاة العتمة . ذكر من قال ذلك :

حدثني عبد الله بن أبي زياد ، قال : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأَويسي ، عن سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد ، عن أنس بن مالك ، أن هذه الاَية تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة .

وقال آخرون : عنى بها قيام الليل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَن المَضَاجِعِ قال : قيام الليل .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ قال : هؤلاء المتهجدون لصلاة الليل .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يقومون يصلون من الليل .

وقال آخرون : إنما هذه صفة قوم لا تخلو ألسنتهم من ذكر الله . ذكر من قال ذلك :

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِع ، يَدْعُونَ رَبّهُم خَوْفا وَطَمَعا وهم قوم لا يزالون يذكرون الله ، إما في صلاة ، وإما قياما ، وإما قعودا ، وإما إذا استيقظوا من منامهم ، هم قوم لا يزالون يذكرون الله .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ . . . إلى آخر الاَية ، يقول : تتجافى لذكر الله ، كلما استيقظوا ذكروا الله ، إما في الصلاة ، وإما في قيام ، أو في قعود ، أو على جنوبهم فهم لا يزالون يذكرون الله .

والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله وصف هؤلاء القوم بأن جنوبهم تنبو عن مضاجعهم ، شغلاً منهم بدعاء ربهم وعبادته خوفا وطمعا ، وذلك نبوّ جنوبهم عن المضاجع ليلاً ، لأن المعروف من وصف الواصف رجلاً بأن جنبه نبا عن مضجعه ، إنما هو وصف منه له بأنه جفا عن النوم في وقت منام الناس المعروف ، وذلك الليل دون النهار ، وكذلك تصف العرب الرجل إذا وصفته بذلك ، يدلّ على ذلك قول عبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه في صفة نبيّ الله صلى الله عليه وسلم :

يَبِيتُ يُجافِي جَنْبَهُ عَنْ فِراشِهِ *** إذا اسْتَثْقَلَت بالمُشْرِكِينَ المَضَاجِعُ

فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله تعالى ذكره لم يخصص في وصفه هؤلاء القوم بالذي وصفهم به من جفاء جنوبهم عن مضاجعهم من أحوال الليل وأوقاته حالاً ووقتا دون حال ووقت ، كان واجبا أن يكون ذلك على كلّ آناء الليل وأوقاته . وإذا كان كذلك كان من صلى ما بين المغرب والعشاء ، أو انتظر العشاء الاَخرة ، أو قام الليل أو بعضه ، أو ذكر الله في ساعات الليل ، أو صلى العتمة ممن دخل في ظاهر قوله : تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ لأن جنبه قد جفا عن مضجعه في الحال التي قام فيها للصلاة قائما صلى أو ذكر الله ، أو قاعدا بعد أن لا يكون مضطجعا ، وهو على القيام أو القعود قادر . غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فإن توجيه الكلام إلى أنه معنيّ به قيام الليل أعجب إليّ ، لأن ذلك أظهر معانيه ، والأغلب على ظاهر الكلام ، وبه جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذلك ما :

حدثنا به ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، قال : سمعت عروة بن الزبير يحدّث عن معاذ بن جبل ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : «ألا أدلّكَ عَلى أبْوَاب الخَيْرِ : الصّوْمُ جُنّةٌ ، والصّدَقَةُ تُكَفّرُ الخَطِيئَةَ ، وَقِيامُ العَبْدِ فِي جَوْفِ اللّيْلِ . وتلا هذه الاَية : تَتَجافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِع ، يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفا وَطَمَعا ، ومِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ » .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن حماد ، قال : حدثنا أبو أُسامة ، عن سليمان ، عن حبيب بن أبي ثابت والحكم ، عن ميمون بن أبي شبيب ، عن معاذ بن جبل ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .

حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا منصور بن المعتمر ، عن الحكم بن عُتيبة ، عن ميمون بن أبي شبيب ، عن معاذ بن جبل ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنْ شِئْتَ أنبأْتُكَ بأبْوَابِ الخَيْرِ : الصّوْمُ جُنّةٌ ، والصّدَقَةُ تُكَفّرُ الخَطِيئَةَ ، وَقِيامُ الرّجُلِ في جَوْفِ اللّيْلِ » ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يزيد بن حيان ، عن حماد بن سلمة ، قال : حدثنا عاصم بن أبي النجود ، عن شهر بن حوشب ، عن معاذ بن جبل ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في قوله تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ قال : «قِيامُ العَبْدِ مِنَ اللّيْل » .

حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع قال : ثني أبي ، قال : ثني زياد بن خيثمة ، عن أبي يحيى بائع القتّ ، عن مجاهد ، قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل ، ففاضت عيناه حتى تحادرت دموعه ، فقال : تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَن المَضَاجِعِ .

وأما قوله : يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفا وَطَمَعا . . . الاَية ، فإن بنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفا وَطَمَعا ومِمّا رَزَقْناهُم يُنْفِقُونَ قال : خوفا من عذاب الله ، وطمعا في رحمة الله ، ومما رزقناهم ينفقون في طاعة الله ، وفي سبيله .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (16)

{ تتجافى جنوبهم } ترتفع وتتنحى . { عن المضاجع } الفرش ومواضع النوم . { يدعون ربهم } داعين إياه . { خوفا } من سخطه . { وطمعا } في رحمته . وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيرها " قيام العبد من الليل " . وعنه عليه الصلاة والسلام " إذا جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلهم : سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ، ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانت تتجافي جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل ، ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء فيقومون وهم قليل ، فيسرحون جميعا إلى الجنة ثم يحاسب سائر الناس } وقيل كان أناس من الصحابة يصلون من المغرب إلى العشاء فنزلت فيهم . { ومما رزقناهم ينفقون } في وجوه الخير .