والرعد . . الظاهرة الثالثة لجو المطر والبرق والرعد . . هذا الصوت المقرقع المدوي . إنه أثر من آثار الناموس الكوني ، الذي صنعه الله - أيا كانت طبيعته وأسبابه - فهو رجع صنع الله في هذا الكون ، فهو حمد وتسبيح بالقدرة التي صاغت هذا النظام . كما أن كل مصنوع جميل متقن يسبح ويعلن عن حمد الصانع والثناء عليه بما يحمله من آثار صنعته من جمال وإتقان . . وقد يكون المدلول المباشر للفظ يسبح هو المقصود فعلا ، ويكون الرعد( يسبح )فعلا بحمد الله . فهذا الغيب الذي زواه الله عن البشر لا بد أن يتلقاه البشر بالتصديق والتسليم وهم لا يعلمون من أمر هذا الكون ولا من أمر أنفسهم إلا القليل !
وقد اختار التعبير أن ينص على تسبيح الرعد بالحمد اتباعا لمنهج التصوير القرآني في مثل هذا السياق ، وخلع سمات الحياة وحركاتها على مشاهد الكون الصامتة لتشارك في المشهد بحركة من جنس حركة المشهد كله - كما فصلت هذا في كتاب التصوير الفني في القرآن - والمشهد هنا مشهد أحياء في جو طبيعي . وفيه الملائكة تسبح من خيفته ، وفيه دعاء لله ، ودعاء للشركاء . وفيه باسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه . . ففي وسط هذا المشهد الداعي العابد المتحرك اشترك الرعد ككائن حي بصوته في التسبيح والدعاء . .
ثم يكمل جو الرهبة والابتهال والبرق والرعد والسحاب الثقال . . بالصواعق يرسلها فيصيب بها من يشاء . والصواعق ظاهرة طبيعية ناشئة من تركيب الكون على هذا المنوال ؛ والله يصيب بها أحيانا من غيروا ما بأنفسهم واقتضت حكمته ألا يمهلهم ، لعلمه أن لا خير في إمهالهم ، فاستحقوا الهلاك . .
والعجيب أنه في هول البرق والرعد والصواعق ، وفي زحمة تسبيح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وزمجرة العواصف بغضبه . . في هذا الهول ترتفع أصوات بشرية بالجدل في الله صاحب كل هذه القوى وباعث كل هذه الأصوات التي ترتفع على كل جدال وكل محال :
( وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) !
وهكذا تضيع أصواتهم الضعيفة في غمرة هذا الهول المتجاوب بالدعاء والابتهال والرعد والقرقعة والصواعق ، الناطقة كلها بوجود الله - الذي يجادلون فيه - وبوحدانيته واتجاه التسبيح والحمد إليه وحده من أضخم مجالي الكون الهائل ، ومن الملائكة الذين يسبحون من خيفته [ وللخوف إيقاعه في هذا المجال ] فأين من هذا كله أصوات الضعاف من البشر وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ? !
ومعنى قوله : وَيُسَبّحُ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ ويعظم الله الرعدُ ويمجده ، فيثنى عليه بصفاته ، وينزّهه مما أضاف إليه أهل الشرك به ومما وصفوه به من اتخاذ الصاحبة والولد ، تعالى ربنا وتقدّس .
وقوله : مِنْ خِيفَتِهِ يقول : وتسبح الملائكة من خيفة الله ورهبته .
وأما قوله : وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ فقد بيّنا معنى الصاعقة فيما مضى بما أغنى عن إعادته بما فيه الكفاية من الشواهد ، وذكرنا ما فيها من الرواية .
وقد اختلف فيمن أنزلت هذه الآية ، فقال بعضهم : نزلت في كافر من الكفار ذَكَرَ الله تعالى وتقدس بغير ما ينبغي ذكره ، فأرسل عليه صاعقة أهلكته . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عفانُ ، قال : حدثنا أبانُ بن يزيد ، قال : حدثنا أبو عمران الجونيّ ، عن عبد الرحمن بن صحُار العبديّ ، أنه بلغه أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى جبّار يدعوه ، فقال : «أرأيتم ربكم ، أذهبٌ هو أم فضة هو أم لؤلؤ هو ؟ »قال : فبينما هو يجادلهم ، إذ بعث الله سحابة فرعدت ، فأرسل الله عليه صاعقة فذهبت بقَحْف رأسه فأنزل الله هذه الآية : وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي بكر بن عياش ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : جاء يهودي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : أخبرني عن ربك من أيّ شيء هو ، من لؤلؤ أو من ياقوت ؟ فجاءت صاعقة فأخذته ، فأنزل الله : وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحمّاني ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن هاشم ، قال : حدثنا سيف ، عن أبي رَوق ، عن أبي أيوب ، عن عليّ ، قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد حدثني مَنْ هذا الذي تدعو إليه ، أياقوت هو ، أذهب هو ، أم ما هو ؟ قال : فنزلت على السائل الصاعقة فأحرقته ، فأنزل الله : وَيُرسِلُ الصّوَاعِقَ . . . الآية .
حدثنا محمد بن مرزوق ، قال : حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب ، قال : ثني عليّ بن أبي سارة الشيبانيّ ، قال : حدثنا ثابت البُنَاني ، عن أنس بن مالك ، قال : بَعَث النبيّ صلى الله عليه وسلم مرّة رجلاً إلى رجل من فراعنة العرب ، أن ادعه لي ، فقال : يا رسول الله ، إنه أعتى من ذلك ، قال : «اذْهَبْ إليه فادْعُهُ » قال : فأتاه ، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك ، فقال : من رسول الله ، وما الله ؟ أمن ذهب هو ، أم من فضة ، أم من نحاس ؟ قال : فأتى الرجل النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : «ارْجِعْ إلَيْهِ فادْعُهُ » قال : فأتاه فأعاد عليه وردّ عليه مثل الجواب الأوّل ، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : «ارْجِعْ إلَيْهِ فادْعُهُ » قال : فرجع إليه . فبينما هما يتراجعان الكلام بينهما ، إذ بعث الله سحابة بحِيال رأسه فرعدت ، فوقعت منها صاعقة فذهبت بقحْف رأسه ، فأنزل الله : وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ .
وقال آخرون : نزلت في رجل من الكفار أنكر القرآن وكذّب النبيّ صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذُكر لنا أن رجلاً أنكر القرآن وكذّب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأرسل الله عليه صاعقة فأهلكته ، فأنزل الله عزّ وجلّ فيه : وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللّهِ ، وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ .
وقال آخرون : نزلت في أربَدَ أخي لَبيد بن ربيعة ، وكان همّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وعامر بن الطفيل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : نزلت ، يعني قوله : وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بها مَنْ يَشاءُ في أربدَ أخي لبيد بن ربيعة ، لأنه قَدم أربد وعامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال عامر : يا محمد أأُسِلم وأكون الخليفة من بعدك ؟ قال : «لا » قال : فأكون على أهل الوبَر وأنت على أهل المدر ؟ قال : «لا » ، قال : فما ذاك ؟ قال : «أُعْطِيكَ أعِنّةَ الخَيْلِ تُقَاتِلُ عَلَيْها ، فإنّكَ رَجُلٌ فَارِسٌ » قال : أو ليست أعنة الخَيلِ بيدي ؟ أما والله لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً من بني عامر وقال لأربد : إما أن تكفينيه وأضربه بالسيف ، وإما أن أكفيكه وتضربه بالسيف . قال أربد : أكَفيكه واضربه فقال عامر بن الطفيل : يا محمد إن لي إليك حاجة ، قال : «ادْنُ » ، فلم يزل يدنو ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم ، «ادْنُ » حتى وضع يديه على ركبتيه وحنى عليه ، واستلّ أربد السيف ، فاستلّ منه قليلاً فلما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم بريقه ، تعوّذ بآية كان يتعوّذ بها ، فيبست يد أربد على السيف ، فبعث الله عليه صاعقة فأحرقته ، فذلك قول أخيه :
أخْشَى على أرْبَدَ الحُتُوفَ ولا *** أرْهَبُ نَوْءَ السّماك والأسَدِ
فَجّعَنِي البَرْقُ والصّوَاعقُ بالْ *** فارِسِ يَوْمَ الكَرِيهَةِ النّجُدِ
وقد ذكرت قبلُ خبر عبد الرحمن بن زيد بنحو هذه القصة . وقوله : وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللّهِ يقول : وهؤلاء الذين أصابهم الله بالصواعق أصابهم في حال خصومتهم في الله عزّ وجلّ لرسوله صلى الله عليه وسلم . وقوله : وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ يقول تعالى ذكره والله شديدة مما حلته في عقوبة من طغى عليه وعَتَا وتمادى في كفره . والمِحال : مصدر من قول القائل : ما حَلتُ فلانا فأنا أما حله مما حلة ومحالاً ، وفَعَلْتُ منه : مَحَلت أَمْحَل مَحْلاً : إذا عَرّض رجل رجلاً لما يهلكه ومنه قوله : «وما حِلٌ مُصَدّق » ومنه قول أعشى بني ثعلبة : فَرْعُ نَبْعٍ يَهْتَزّ فِي غُصُنِ المَجْدِ غزيرُ النّدَى شَدِيدُ المِحالِ
هكذا كان يُنشده معمر بن المثنى فيما حُدثت عن عليّ بن المغيرة عنه . وأما الرواة بعدُ فإنهم ينشدونه :
فَرْعُ فَرْعٍ يَهْتَزّ فِي غُصُنِ المَ *** جْدِ كثيرُ النّدَى عَظِيمُ المِحالِ
وفسّر ذلك معمر بن المثنى ، وزعم أنه عنى به العقوبة والمكر والنكال ومنه قول الاَخر :
وَلَبّسَ بينَ أقْوَامٍ فُكُلّ *** أعدّ له الشّغازِبَ والمِحالا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن هاشم ، قال : حدثنا سيف ، عن أبي رَوْق ، عن أبي أيوب ، عن عليّ رضي الله عنه : وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ قال : شديد الأخذ .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد : وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ قال : شديد القوّة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ أي القوّة والحيلة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : شَدِيدُ المِحالِ يعني : الهلاك ، قال : إذا محل فهو شديد . وقال قتادة : شديد الحِيلة .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا رجل ، عن عكرمة : وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ قال : المحال : جدال أربَدَ ، وهو شَدِيدُ المِحَالِ قال : ما أصاب أربدَ من الصاعقة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : وَهُوَ شَدِيدُ المِحال قال : قال ابن عباس : شديد الحَوْل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ قال : شديد القوّة . المحال : القوّة .
والقول الذي ذكرناه عن قتادة في تأويل المحال أنه الحيلة ، والقول الذي ذكره ابن جريج عن ابن عباس يدلان على أنهما كانا يقرآن : «وَهُوَ شَدِيدُ المَحَال » بفتح الميم ، لأن الحيلة لا يأتي مصدرها مِحَالاً بكسر الميم ، ولكن قد يأتي على تقدير المَفْعلة منها ، فيكون مَحَالة ، ومن ذلك قولهم : «المرء يعجز لا مَحالة » ، والمحالة في هذا الموضع : المفعلة من الحيلة . فأما بكسر الميم ، فلا تكون إلا مصدرا ، من ما حلت فلانا أما حلهِ محالاً ، والمماحلة بعيدة المعنى من الحيلة ، ولا أعلم أحدا قرأه بفتح الميم . فإذا كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بتأويل ذلك ما قلنا من القول .