في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَا جَعَلۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰٓئِكَةٗۖ وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسۡتَيۡقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَيَزۡدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰنٗا وَلَا يَرۡتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ} (31)

فأما المؤمنون فقد تلقوا كلمات الله بالتسليم اللائق بمن وثق بربه ، وتأدب معه أدب العبد مع الرب فلم يعد يماري في خبره وقوله . وأما المشركون فتلقفوا هذا العدد بقلوب خاوية من الإيمان ، عارية من التوقير لله ، خالية من الجد في تلقي هذا الأمر العظيم . وراحوا يتهكمون عليه ويسخرون منه ، ويتخذونه موضعا للتندر والمزاح . . . قال قائل منهم : أليس يتكفل كل عشرة منكم بواحد من هؤلاء التسعة عشر ! ? وقال قائل : لا بل اكفوني أنتم أمر اثنين منهم وعلي الباقي أنا أكفيكموهم ! وبمثل هذه الروح المطموسة المغلقة الفاضية تلقوا هذا القول العظيم الكريم .

عندئذ نزلت الآيات التالية تكشف عن حكمة الله في الكشف عن هذا الجانب من الغيب ، وذكر هذا العدد ، وترد علم الغيب إلى الله ، وتقرر ما وراء ذكر سقر وحراسها من غاية ينتهي الموقف إليها :

( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة . وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ، ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ، ويزداد الذين آمنوا إيمانا ، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون ، وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون : ماذا أراد الله بهذا مثلا ? كذلك يضل الله من يشاء ، ويهدي من يشاء ، وما يعلم جنود ربك إلا هو ، وما هي إلا ذكرى للبشر ) . . .

تبدأ الآية بتقرير حقيقة أولئك التسعة عشر الذين تمارى فيهم المشركون :

( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ) . .

فهم من ذلك الخلق المغيب الذي لا يعلم طبيعته وقوته إلا الله ؛ وقد قال لنا عنهم : إنهم ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون )فقرر أنهم يطيعون ما يأمرهم به الله ، وأن بهم القدرة على فعل ما يأمرهم . فهم إذن مزودون بالقوة التي يقدرون بها على كل ما يكلفهم الله إياه . فإذا كان قد كلفهم القيام على سقر ، فهم مزودون من قبله سبحانه بالقوة المطلوبة لهذه المهمة ، كما يعلمها الله ، فلا مجال لقهرهم أو مغالبتهم من هؤلاء البشر المضعوفين ! وما كان قولهم عن مغالبتهم إلا وليد الجهل الغليظ بحقيقة خلق الله وتدبيره للأمور .

( وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ) . .

فهم الذين يثير ذكر العدد في قلوبهم رغبة الجدل ؛ ولا يعرفون مواضع التسليم ومواضع الجدل . فهذا الأمر الغيبي كله من شأن الله ، وليس لدى البشر عنه من علم كثير ولا قليل ، فإذا أخبر الله عنه خبرا فهو المصدر الوحيد لهذا الطرف من الحقيقة ، وشأن البشر هو تلقي هذا الخبر بالتسليم ، والاطمئنان إلى أن الخير في ذكر هذا الطرف وحده ، بالقدر الذي ذكره ، وأن لا مجال للجدل فيه ، فالإنسان إنما يجادل فيما لديه عنه علم سابق يناقض الخبر الجديد أو يغايره . أما لماذا كانوا تسعة عشر [ أيا كان مدلول هذا العدد ] فهو أمر يعلمه الله الذي ينسق الوجود كله ، ويخلق كل شيء بقدر . وهذا العدد كغيره من الأعداد . والذي يبغي الجدل يمكنه أن يجادل وأن يعترض على أي عدد آخر وعلى أي أمر آخر بنفس الاعتراض . . لماذا كانت السماوات سبعا ? لماذا كان خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار ? لماذا كان حمل الجنين تسعة أشهر ? لماذا تعيش السلاحف آلاف السنين ? لماذا ? لماذا ? لماذا ? والجواب : لأن صاحب الخلق والأمر يريد ويفعل ما يريد ! هذا هو فصل الخطاب في مثل هذه الأمور . .

( ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ، ويزداد الذين آمنوا إيمانا ، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون ) . .

فهؤلاء وهؤلاء سيجدون في عدد حراس سقر ما يدعو بعضهم إلى اليقين ويدعو البعض إلى ازدياد الإيمان . فأما الذين أوتوا الكتاب فلا بد أن لديهم شيئا عن هذه الحقيقة ، فإذا سمعوها من القرآن استيقنوا أنه مصدق لما بين يديهم عنها . وأما الذين آمنوا فكل قول من ربهم يزيدهم إيمانا . لأن قلوبهم مفتوحة موصولة تتلقى الحقائق تلقيا مباشرا ؛ وكل حقيقة ترد إليها من عند الله تزيدها أنسا بالله . . وستشعر قلوبهم بحكمة الله في هذا العدد ، وتقديره الدقيق في الخلق ، فتزيد قلوبهم إيمانا . وتثبت هذه الحقيقة في قلوب هؤلاء وهؤلاء فلا يرتابون بعدها فيما يأتيهم من عند الله .

( وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون : ماذا أراد الله بهذا مثلا ? ) . .

وهكذا تترك الحقيقة الواحدة أثرين مختلفين في القلوب المختلفة . . فبينما الذين أوتوا الكتاب يستيقنون ، والذين آمنوا يزيدون إيمانا ، إذا بالذين كفروا وضعاف القلوب المنافقون في حيرة يتساءلون : ( ماذا أراد الله بهذا مثلا ? ) . . فهم لا يدركون حكمة هذا الأمر الغريب . ولا يسلمون بحكمة الله المطلقة في تقدير كل خلق . ولا يطمئنون إلى صدق الخبر والخير الكامن في إخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة . .

( كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ) . .

كذلك . بذكر الحقائق وعرض الآيات . فتتلقاها القلوب المختلفة تلقيا مختلفا . ويهتدي بها فريق وفق مشيئة الله ؛ ويضل بها فريق حسب مشيئة الله . فكل أمر مرجعه في النهاية إلى إرادة الله المطلقة التي ينتهي إليها كل شيء . وهؤلاء البشر خرجوا من يد القدرة باستعداد مزدوج للهدى وللضلال ؛ فمن اهتدى ومن ضل كلاهما يتصرف داخل حدود المشيئة التي خلقتهم بهذا الاستعداد المزدوج ، ويسرت لهم التصرف في هذا أو ذاك ، في حدود المشيئة الطليقة ، ووفق حكمة الله المكنونة .

وتصور طلاقة المشيئة وانتهاء كل ما يقع في هذا الوجود إليها تصورا كاملا واسع المدلول ، يعفي العقول من الجدل الضيق حول ما يسمونه الجبر والإرادة . وهو الجدل الذي لا ينتهي إلى تصور صحيح ، بسبب أنه يتناول المسألة من زاوية ضيقة ، ويضعها في أشكال محددة نابعة من منطق الإنسان وتجاربه وتصوراته المحدودة ! بينما هو يعالج قضية من قضايا الألوهية غير المحدودة !

لقد كشف الله لنا عن طريق الهدى وطريق الضلال . وحدد لنا نهجا نسلكه فنهتدي ونسعد ونفوز . وبين لنا نهوجا ننحرف إليها فنضل ونشقى ونخسر . ولم يكلفنا أن نعلم وراء ذلك شيئا ، ولم يهبنا القدرة على علم شيء وراء هذا . وقال لنا : إن إرادتي مطلقة وإن مشيئتي نافذة . . فعلينا أن نعالج - بقدر طاقتنا - تصور حقيقة الإرادة المطلقة والمشيئة النافذة . وأن نلتزم النهج الهادئ ونتجنب النهوج المضللة . ولا ننشغل في جدل عقيم حول ما لم نوهب القدرة على إدراك كنهه من الغيب المكنون . ومن ثم ننظر فنرى كل ما أنفقه المتكلمون في مسألة القدر على النحو الذي تكلموا به جهدا ضائعا لا طائل وراءه لأنه في غير ميدانه . .

إننا لا نعلم مشيئة الله المغيبة بنا ، ولكننا نعلم ماذا يطلب الله منا لنستحق فضله الذي كتبه على نفسه . وعلينا إذن أن ننفق طاقتنا في أداء ما كلفنا ، وأن ندع له هو غيب مشيئته فينا . والذي سيكون هو مشيئته ، وعندما يكون سنعرف أن هذه مشيئته لا قبل كونه ! والذي سيكون وراءه حكمة يعرفها العليم بالكل المطلق . . وهو الله وحده . . وهذا هو طريق المؤمن في التصور ومنهجه في التفكر . .

( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) . .

فهي غيب . حقيقتها . ووظيفتها . وقدرتها . . وهو يكشف عما يريد الكشف عنه من أمرها ، وقوله هو الفصلفي شأنها . وليس لقائل بعده أن يجادل أو يماحك أو يحاول معرفة ما لم يكشف الله عنه ، فليس إلى معرفة هذا من سبيل . .

( وما هي إلا ذكرى للبشر ) . .

( وهي )إما أن تكون هي جنود ربك ، وإما أن تكون هي سقر ومن عليها . وهي من جنود ربك . وذكرها جاء لينبه ويحذر ؛ لا لتكون موضوعا للجدل والمماحكة ! والقلوب المؤمنة هي التي تتعظ بالذكرى ، فأما القلوب الضالة فتتخذها مماحكة وجدلا !

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{وَمَا جَعَلۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰٓئِكَةٗۖ وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسۡتَيۡقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَيَزۡدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰنٗا وَلَا يَرۡتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ} (31)

{ وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } لا رجالا فمن ذا يغلب الملائكة { وما جعلنا عدتهم } عددهم في القلة { إلا فتنة للذين كفروا } لأنهم قالوا ما أعوان محمد إلا تسعة عشر { ليستيقن الذين أوتوا الكتاب } ليعلموا أن ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم موافق لما في كتبهم { ويزداد الذين آمنوا } لأنهم يصدقون بما أتى به الرسول عليه السلام وبعدد خزنة النار { ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون } أي لا يشكون في أن عددهم على ما أخبر به محمد عليه السلام

32 45 { وليقول الذين في قلوبهم مرض } شك { والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا } أي شيء أراد الله بهذا العدد وتخصيصه { كذلك } كما أضلهم الله بتكذيبهم { يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو } هذا جواب لقولهم ما أعوانه إلا تسعة عشر { وما هي } أي النار { إلا ذكرى للبشر } أي إنها تذكرهم في الدنيا النار في الآخرة

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَمَا جَعَلۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰٓئِكَةٗۖ وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسۡتَيۡقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَيَزۡدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰنٗا وَلَا يَرۡتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ} (31)

" وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة " أي لم نجعلهم رجالا فتتعاطون مغالبتهم . وقيل : جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المعذبين من الجن والإنس ، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة ، ولا يستروحون إليهم ، ولأنهم أقوم خلق الله بحق الله وبالغضب له ، فتؤمن هوادتهم ؛ ولأنهم أشد خلق الله بأسا وأقواهم بطشا . " وما جعلنا عدتهم إلا فتنة " أي بلية . وروي عن ابن عباس من غير وجه قال : ضلالة للذين كفروا ، يريد أبا جهل وذويه . وقيل : إلا عذابا ، كما قال تعالى : " يوم هم على النار يفتنون . ذوقوا فتنتكم " [ الذاريات : 14 ] . أي جعلنا ذلك سبب كفرهم وسبب العذاب . وفي " تسعة عشر " سبع قراءات{[15589]} : قراءة العامة " تسعة عشر " . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وطلحة بن سليمان " تسعة عشر " بإسكان العين . وعن ابن عباس " تسعة عشر " بضم الهاء . وعن أنس بن مالك " تسعة وعشر " وعنه أيضا " تسعة وعشر " . وعنه أيضا " تسعة أعشر " ذكرها المهدوي وقال : من قرأ " تسعة عشر " أسكن العين لتوالي الحركات . ومن قرأ " تسعة وعشر " جاء به على الأصل قبل التركيب ، وعطف عشرا على تسعة ، وحذف التنوين لكثرة الاستعمال ، وأسكن الراء من عشر على نية السكوت عليها . ومن قرأ " تسعة عشر " فكأنه من التداخل ؛ كأنه أراد العطف وترك التركيب ، فرفع هاء التأنيث ، ثم راجع البناء وأسكن . وأما " تسعة أعشر " : فغير معروف ، وقد أنكرها أبو حاتم . وكذلك " تسعة وعشر " لأنها محمولة على " تسعة أعشر " والواو بدل من الهمزة ، وليس لذلك وجه عند النحويين . الزمخشري : وقرئ : " تسعة أعشر " جمع عشير ، مثل يمين وأيمن .

قوله تعالى : " ليستيقن الذين أوتوا الكتاب " أي ليوقن الذين أعطوا التوراة والإنجيل أن عدة خزنة جهنم موافقة لما عندهم ، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد وغيرهم . ثم يحتمل أنه يريد الذين آمنوا منهم كعبد الله بن سلام . ويحتمل أنه يريد الكل . ويزداد الذين آمنوا إيمانا " بذلك ؛ لأنهم كلما صدقوا بما في كتاب الله آمنوا ، ثم ازدادوا إيمانا لتصديقهم بعدد خزنة جهنم . " ولا يرتاب " أي ولا يشك " الذين أوتوا الكتاب " أي أعطوا الكتاب " والمؤمنون " أي المصدقون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر . " وليقول الذين في قلوبهم مرض " أي في صدورهم شك ونفاق من منافقي أهل المدينة ، الذين ينجمون في مستقبل الزمان بعد الهجرة ولم يكن بمكة نفاق وإنما نجم بالمدينة . وقيل : المعنى ، أي وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بعد الهجرة . " والكافرون " أي اليهود والنصارى " ماذا أراد الله بهذا مثلا " يعني بعدد خزنة جهنم . وقال الحسين بن الفضل : السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق ، فالمرض في هذه الآية الخلاف و " الكافرون " أي مشركو العرب . وعلى القول الأول أكثر المفسرين . ويجوز أن يراد بالمرض : الشك والارتياب ؛ لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين ، وبعضهم قاطعين بالكذب وقوله تعالى إخبارا عنهم : " ماذا أراد الله " أي ما أراد " بهذا " العدد الذي ذكره حديثا ، أي ما هذا من الحديث . قال الليث : المثل الحديث ، ومنه : " مثل الجنة التي وعد المتقون " أي حديثها والخبر عنها " كذلك " أي كإضلال الله أبا جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم " يضل الله " أي يخزي ويعمي " من يشاء ويهدي " أي ويرشد " من يشاء " كإرشاد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : " كذلك يضل الله " عن الجنة " من يشاء ويهدي " إليها " من يشاء " . " وما يعلم جنود ربك إلا هو " أي وما يدري عدد ملائكة ربك الذين خلقهم لتعذيب أهل النار " إلا هو " أي إلا الله جل ثناؤه وهذا جواب لأبي جهل حين قال : أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر ! وعن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم غنائم حنين ، فأتاه جبريل فجلس عنده ، فأتى ملك فقال : إن ربك يأمرك بكذا وكذا ، فخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون شيطانا ، فقال : ( يا جبريل أتعرفه ) ؟ فقال : هو ملك وما كل ملائكة ربك أعرف . وقال الأوزاعي : قال موسى : " يا رب من في السماء ؟ قال ملائكتي . قال كم عدتهم يا رب ؟ قال : اثني عشر{[15590]} سبطا . قال : كم عدة كل سبط ؟ قال : عدد التراب " ذكرهما الثعلبي . وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أطت{[15591]} السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا ) .

قوله تعالى : " وما هي إلا ذكرى للبشر " يعني الدلائل والحجج والقرآن . وقيل : " وما هي " أي وما هذه النار التي هي سقر " إلا ذكرى " أي عظة " للبشر " أي للخلق . وقيل : نار الدنيا تذكرة لنار الآخرة . قال الزجاج . وقيل : أي ما هذه العدة " إلا ذكري للبشر " أي ليتذكروا ويعلموا كمال قدرة الله تعالى ، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار ، فالكناية على هذا في قوله تعالى : " وما هي " ترجع إلى الجنود ؛ لأنه أقرب مذكور .


[15589]:ورد في الأصول ست قراءات فقط ولعل السابعة قراءة سليمان بن قتة "تسعة أعشر" بضم التاء وهمزة مفتوحة وسكون العين وضم الشين وجر الراء. وتعقب السمين هذه القراءات فقال: "في هذه الكلمة قراءات شاذة وتوجيهات تشاكلها".
[15590]:كذا في الأصول: والصواب: اثنا عشر.
[15591]:الأطيط: صوت الأقتاب (إ كاف البعير). وأطيط الإبل: أصواتها وحنينها. أي أن كثرة ما فيها من الملائكة قد ثقلها حتى أطت. وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة، وإن لم يكن ثم أطيط. (النهاية).
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{وَمَا جَعَلۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰٓئِكَةٗۖ وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسۡتَيۡقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَيَزۡدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰنٗا وَلَا يَرۡتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ} (31)

قوله تعالى : { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدّتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضلّ الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر 31 كلا والقمر 32 والليل إذ أدبر 33 والصبح إذا أسفر 34 إنها لإحدى الكبر 35 نذيرا للبشر 36 لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر } .

روي أنه نزل قوله تعالى : { عليها تسعة عشر } قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم ، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم{[4690]} أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم ؟ فقال أبو الأشدّ بن أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش : أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين . فأنزل الله { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } أي ما جعلناهم رجالا من جنسكم يطاقون ، بل جعلناهم ملائكة فهم خلق آخر ليسوا من جنسكم وهم غلاظ شداد لا تأخذهم فيكم رأفة أو لين .

قوله : { وما جعلنا عدّتهم إلا فتنة للذين كفروا } أي ما ذكرنا عدتهم لكم على أنهم تسعة عشر إلا ابتلاء وامتحانا للكافرين المكذبين { ليستيقن الذين أوتوا الكتاب } أي ليوقن أهل التوراة والإنجيل أن عدة خزنة جهنم موافقة لما عندهم { ويزداد الذين آمنوا إيمانا } أي ويزداد المؤمنون إيمانا إلى إيمانهم بسبب ما شهدوه من صدق ما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم { ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون } أي ولا يشك أهل التوراة والانجيل والمؤمنون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم في أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر { وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا } أي وليقول المرتابون والمنافقون والكافرون من مشركي قريش : ما الذي أراده الله بهذا العدد . أو وأي غرض قصد في جعل الملائكة تسعة عشر . ومرادهم إنكار هذا الكلام من أصله وأنه ليس من عند الله .

قوله : { كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } الكاف في اسم الإشارة صفة لمصدر محذوف ، وتقديره : مثل ذلك الإضلال يضل من يشاء . والمعنى : مثل ذلك الإضلال للكافرين والهداية للمؤمنين يضل الله من يشاء إضلاله ، ويهدي من يشاء هدايته .

قوله : { وما يعلم جنود ربك إلا هو } يعني وما يدري عدد ملائكة ربك الذين أنيط بهم تعذيب الكافرين في النار إلا الله جل وعلا . فهم كثيرون غاية الكثرة . وهي كثرة لا يعلم حقيقتها وعدتها سوى الله . ويدل على ذلك ما رواه الطبراني عن جابر ابن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما في السماوات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كفّ إلا وفيه ملك قائم أو ملك ساجد أو ملك راكع . فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعا : سبحانك ما عبدناك حق عبادتك إلا أنا لم نشرك بك شيئا " .

قوله : { وما هي إلا ذكرى للبشر } يعني وما نار سقر وصفتها التي ذكرت إلا تذكرة للبشر لكي يعتبروا ويتعظوا ويخشوا ربهم .


[4690]:الدهم: يفتح الدال، يعني الخلق الكثير. انظر المعجم الوسيط جـ 1 ص 300.