في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (53)

ولما صور الله الحال المفزعة التي يكون عليها الظالمون يوم القيامة في قوله : ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة ، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ، وبدا لهم سيئات

ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ) . . عاد يفتح أبواب رحمته على مصاريعها بالتوبة . ويطمع في رحمته ومغفرته أهل المعاصي مهما يكونوا قد أسرفوا في المعصية . ويدعوهم إلى الأوبة إليه غير قانطين ولا يائسين . ومع الدعوة إلى الرحمة والمغفرة صورة ما ينتظرهم لو لم يئوبوا ويتوبوا ، ولو لم ينتهزوا هذه الفرصة المتاحة قبل إفلاتها وفوات الأوان . .

( قل : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر الذنوب جميعاً . إنه هو الغفور الرحيم ) . .

إنها الرحمة الواسعة التي تسع كل معصية . كائنة ما كانت وإنها الدعوة للأوبة . دعوة العصاة المسرفين الشاردين المبعدين في تيه الضلال . دعوتهم إلى الأمل والرجاء والثقة بعفو الله . إن الله رحيم بعباده . وهو يعلم ضعفهم وعجزهم . ويعلم العوامل المسلطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجه . ويعلم أن الشيطان يقعد لهم كل مرصد . ويأخذ عليهم كل طريق . ويجلب عليهم بخيله ورجله . وأنه جاد كل الجد في عمله الخبيث ! ويعلم أن بناء هذا المخلوق الإنساني بناء واه . وأنه مسكين سرعان ما يسقط إذا أفلت من يده الحبل الذي يربطه والعروة التي تشده . وأن ما ركب في كيانه من وظائف ومن ميول ومن شهوات سرعان ما ينحرف عن التوازن فيشط به هنا أو هناك ؛ ويوقعه في المعصية وهو ضعيف عن الاحتفاظ بالتوازن السليم . .

يعلم الله - سبحانه - عن هذا المخلوق كل هذا فيمد له في العون ؛ ويوسع له في الرحمة ؛ ولا يأخذه بمعصيته حتى يهيئ له جميع الوسائل ليصلح خطأه ويقيم خطاه على الصراط . وبعد أن يلج في المعصية ، ويسرف في الذنب ، ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره ، ولم يعد يقبل ولا يستقبل . في هذه اللحظة لحظة اليأس والقنوط ، يسمع نداء الرحمة الندي اللطيف :

قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر الذنوب جميعاً . إنه هو الغفور الرحيم . .

وليس بينه - وقد أسرف في المعصية ، ولج في الذنب ، وأبق عن الحمى ، وشرد عن الطريق - ليس بينه وبين الرحمة الندية الرخية ، وظلالها السمحة المحيية . ليس بينه وبين هذا كله إلا التوبة . التوبة وحدها . الأوبة إلى الباب المفتوح الذي ليس عليه بواب يمنع ، والذي لا يحتاج من يلج فيه إلى استئذان :

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{۞قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (53)

{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } بارتكاب الكبائر والفواحش نزلت في قوم من أهل مكة هموا بالاسلام ثم قالوا إن محمدا يقول إن من عبد الأوثان واتخذ مع الله آلهة وقتل النفس لا يغفر له وقد فعلنا كل هذا فأعلم الله تعالى أن من تاب وآمن غفر الله له كل ذنب فقال { لا تقنطوا من رحمة الله } ا لآية

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{۞قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (53)

قوله تعالى : " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " وإن شئت حذفت الياء ؛ لأن النداء موضع حذف . النحاس : ومن أجل ما روي فيه ما رواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال : لما اجتمعنا على الهجرة ، أتعدت أنا وهشام بن العاصي بن وائل السهمي ، وعياش بن أبي ربيعة بن عتبة ، فقلنا : الموعد أضاة{[13324]} بني غفار ، وقلنا : من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحبه . فأصبحت أنا وعياش بن عتبة وحبس عنا هشام ، وإذا به قد فتن فافتتن ، فكنا نقول بالمدينة : هؤلاء قد عرفوا الله عز وجل وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة ، وكانوا هم أيضا يقولون هذا في أنفسهم ، فأنزل الله عز وجل في كتابه : " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " إلى قوله تعالى : " أليس في جهنم مثوى للمتكبرين " قال عمر : فكتبتها بيدي ثم بعثتها إلى هشام . قال هشام : فلما قدمت علي خرجت بها إلى ذي طوى فقلت : اللهم فهمنيها فعرفت أنها نزلت فينا ، فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان قوم من المشركين قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أو بعثوا إليه : إن ما تدعو إليه لحسن أو تخبرنا أن لنا توبة ؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية : " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " ذكره البخاري بمعناه . وقد مضى في آخر " الفرقان " {[13325]} . وعن ابن عباس أيضا نزلت في أهل مكة قالوا : بزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له ، وكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس التي حرم الله فأنزل الله هذه الآية . وقيل : إنها نزلت في قوم من المسلمين أسرفوا على أنفسهم في العبادة ، وخافوا ألا يتقبل منهم لذنوب سبقت لهم في الجاهلية . وقال ابن عباس أيضا وعطاء نزلت في وحشي قاتل حمزة ؛ لأنه ظن أن الله لا يقبل إسلامه : وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : أتى وحشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد أتيتك مستجيرا فأجرني حتى أسمع كلام الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قد كنت أحب أن أراك على غير جوار ، فأما إذ أتيتني مستجيرا فأنت في جواري حتى تسمع كلام الله ) قال : فإني أشركت بالله وقتلت النفس التي حرم الله وزنيت ، هل يقبل الله منى توبة ؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت : " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون " [ الفرقان : 68 ] إلى آخر الآية فتلاها عليه ، فقال أرى شرطا فلعلي لا أعمل صالحا ، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله . فنزلت : " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " [ النساء : 48 ] فدعا به فتلا عليه ، قال : فلعلي ممن لا يشاء أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله . فنزلت : " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " فقال : نعم الآن لا أرى شرطا . فأسلم . وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن حوشب عن أسماء أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ : " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم " . وفي مصحف ابن مسعود " إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء " . قال أبو جعفر النحاس : وهاتان القراءتان على التفسير ، أي يغفر الله لمن يشاء . وقد عرف الله عز وجل من شاء أن يغفر له ، وهو التائب أو من عمل صغيرة ولم تكن له كبيرة ، ودل على أنه يريد التائب ما بعده " وأنيبوا إلى ربكم " فالتائب مغفور له ذنوبه جميعا يدل على ذلك " وإني لغفار لمن تاب " [ طه : 82 ] فهذا لا إشكال فيه . وقال علي بن أبي طالب : ما في القرآن آية أوسع من هذه الآية : " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " وقد مضى هذا في " سبحان " {[13326]} . وقال عبد الله بن عمر : وهذه أرجى آية في القرآن فرد عليهم ابن عباس وقال أرجى آية في القرآن قوله تعالى : " وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم " [ الرعد : 6 ] وقد مضى في " الرعد " {[13327]} . وقرئ " ولا تقنطوا " بكسر النون وفتحها . وقد مضى في " الحجر " {[13328]} بيانه .


[13324]:الأضاة: غدير.
[13325]:راجع ج 13 ص 76 وما بعدها طبعة أولى، أو ثانية.
[13326]:راجع ج 18 ص 322 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية.
[13327]:راجع ج 9 ص 285 طبعة أولى أو ثانية.
[13328]:راجع ج 10 ص 36 طبعة أولى أو ثانية.