تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (53)

{ 53 - 59 } { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ }

يخبر تعالى عباده المسرفين بسعة كرمه ، ويحثهم على الإنابة قبل أن لا يمكنهم ذلك فقال : { قُلْ } يا أيها الرسول ومن قام مقامه من الدعاة لدين اللّه ، مخبرا للعباد عن ربهم : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } باتباع ما تدعوهم إليه أنفسهم من الذنوب ، والسعي في مساخط علام الغيوب .

{ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } أي : لا تيأسوا منها ، فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، وتقولوا قد كثرت ذنوبنا وتراكمت عيوبنا ، فليس لها طريق يزيلها ولا سبيل يصرفها ، فتبقون بسبب ذلك مصرين على العصيان ، متزودين ما يغضب عليكم الرحمن ، ولكن اعرفوا ربكم بأسمائه الدالة على كرمه وجوده ، واعلموا أنه يغفر الذنوب جميعا من الشرك ، والقتل ، والزنا ، والربا ، والظلم ، وغير ذلك من الذنوب الكبار والصغار . { إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } أي : وصفه المغفرة والرحمة ، وصفان لازمان ذاتيان ، لا تنفك ذاته عنهما ، ولم تزل آثارهما سارية في الوجود ، مالئة للموجود ، . تسح يداه من الخيرات آناء الليل والنهار ، ويوالي النعم على العباد والفواضل في السر والجهار ، والعطاء أحب إليه من المنع ، والرحمة سبقت الغضب وغلبته ، . ولكن لمغفرته ورحمته ونيلهما أسباب إن لم يأت بها العبد ، فقد أغلق على نفسه باب الرحمة والمغفرة ، أعظمها وأجلها ، بل لا سبب لها غيره ، الإنابة إلى اللّه تعالى بالتوبة النصوح ، والدعاء والتضرع والتأله والتعبد ، . فهلم إلى هذا السبب الأجل ، والطريق الأعظم .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{۞قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (53)

قوله تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 53 ) } .

نزلت الآية في أهل مكة ؛ إذ قالوا : يزعم محمد أن من عَبَدَ الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يُغفر له . وكيف نهاجر ونسْلم وقد عبدنا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس التي حرّم الله ؟ فأنزل الله هذه الآية . وقيل : نزلت في قوم من المسلمين أسرفوا على أنفسهم في العبادة وخافوا ألاَّ يتقبَّل منهم لذنوب سبقت لهم في الجاهلية . وقال ابن عباس : نزلت في وحشيّ قاتل حمزة ؛ لأنه ظن أن الله لا يقبل إسلامه{[3987]} لا جرم أن هذه الآية أكثر الآيات في الكتاب الحكيم فرحا ؛ لما فيها من إعلان رباني كريم يفيض بالإحسان والفضل والرحمة ؛ فإن فيها بيانا بأن الله غفار لسائر الذنوب عقب التوبة والندم إذا ما اجتُنب الإشراك بالله وهو قوله : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } وتقنطوا ، من القنوط ، بضم القاف وهو الإياس من رحمة الله{[3988]} . وذلك إعلان من الله داوٍ ينادي فيه عباده من الكافرين وغيرهم ، الذين أسرفوا على أنفسهم بكثرة المعاصي والذنوب أن يبادروا بالتوبة والإنابة إلى الله . وفيه إخبار منه سبحانه بأنه يغفرُ الذنوب جميعا لمن تاب منها وإنْ كانت مثل زبد البحر . فما ينبغي لأحد بعد هذا الكرم الرباني الفياض ، وهذه الرحمة الدافقة الغامرة أن ييأس من رحمة الله فيسْدُرَ في الإياس والعصيان .

وفي عظيم رحمة الله بعباده وبالغ كرمه ولطفه بهم كيلا ييأسوا من رحمة الله روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم الله تعالى لغفر لكم ، والذي نفس محمد بيده لو لم تخطئوا لجاء الله عز وجل بقوم يخطئون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم " وروى الإمام أحمد أيضا عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كفارة الذنب الندامة " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو لم تذنبوا لجاء الله تعالى بقوم يذنبون فيغفر لهم " .

وعن عبد الله بن الإمام أحمد بسنده عن علي بن أبي طالب ( رضي الله تعالى عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى يحب العبد المفتن التواب " .


[3987]:تفسير القرطبي ج 15 ص 268
[3988]:المصباح المنير ج 2 ص 177