ولما قرر أنه الإله الحق المعبود ، بين العبادة والدين الذي يتعين أن يعبد به ويدان له ، وهو الإسلام الذي هو الاستسلام لله بتوحيده وطاعته التي دعت إليها رسله ، وحثت عليها كتبه ، وهو الذي لا يقبل من أحد دينا سواه ، وهو متضمن للإخلاص له في الحب والخوف والرجاء والإنابة والدعاء ومتابعة رسوله في ذلك ، وهذا هو دين الرسل كلهم ، وكل من تابعهم فهو على طريقهم ، وإنما اختلف أهل الكتاب بعد ما جاءتهم كتبهم تحثهم على الاجتماع على دين الله ، بغيا بينهم ، وظلما وعدوانا من أنفسهم ، وإلا فقد جاءهم السبب الأكبر الموجب أن يتبعوا الحق ويتركوا الاختلاف ، وهذا من كفرهم ، فلهذا قال تعالى { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب } فيجازي كل عامل بعمله ، وخصوصا من ترك الحق بعد معرفته ، فهذا مستحق للوعيد الشديد والعقاب الأليم .
{ إن الدين عند الله الإسلام } .
قرأ جمهور القرّاء { إنّ الدينَ عِندَ الله الإسلام } بكسر همزة إنّ فهو استئناف ابتدائي لبيان فضيلة هذا الدين بِأجمَع عبارة وأوجزَها .
وهذا شروع في أول غرض أنزلت فيه هذه السورة : غرض محاجّة نصارى نجران ، فهذا الاستئناف من مناسبات افتتاح السورة بذكر تنزيل القرآن والتوراة والإنجيل ، ثم بتخصيص القرآن بالذكر وتفضيله بأنّ هديه يفوق هدي ما قبله من الكتب ، إذ هو الفرقان ، فإنّ ذلك أسّ الدين القويم ، ولما كان الكلام المتقدم مشتملاً على تعريض باليهود والنصارى الذين كذبوا بالقرآن ، وإبطالٍ لقول وفد نجران لما طلب منهم الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام « أسْلَمْنَا قبلَك » فقال لهم : « كَذَبْتُم » روى الواحدي ، ومحمد بن إسحاق : أنّ وفد نجران لما دخلوا المسجد النبوي تكلم السيد والعاقب فقال لهما رسول الله : " أسْلِمَا " قالا : « قد أسلمنا قبلك » قال : " كذبتما ، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما للَّهِ ولدا ، وعبادتُكما الصليب " ، ناسب أن ينوّه بعد ذلك بالإسلام الذي جاء به القرآن ، ولذلك عطف على هذه الجملة قوله : { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءهم العلم .
واعلم أنّ جمل الكلام البليغ لا يخلو انتظامها عن المناسبة ، وإن كان بعضها استئنافاً ، وإنّما لا تطلب المناسبة في المحادثات والاقتضابات .
وتوكيد الكلام { بأنّ } تحقيق لما تضمنَّه من حصر حقيقة الدين عند الله في الإسلام : أي الدين الكامل .
وقرأ الكسائي { أنّ الدين } بفتح همزة أنّ على أنّه بدل من { أنَّه لا إله إلاّ هو } [ آل عمران : 18 ] أي شهد الله بأنّ الدين عند الله الإسلام .
والدين : حقيقته في الأصل الجزاء ، ثم صار حقيقة عرفية يطلق على : مجموع عقائد ، وأعمال يلقّنها رسولٌ من عند الله ويعد العاملين بها بالنعيم والمعرضين عنها بالعقاب . ثم أطلق على ما يشْبِه ذلك مما يضعه بعض زعماء الناس من تلقاء عقله فتَلتزمه طائفة من الناس . وسمّي الدين ديناً لأنّه يترقب منه مُتَّبِعُهُ الجزاءَ عاجلاً أو آجلاً ، فما من أهل دين إلاّ وهم يترقّبون جزاء من رب ذلك الدين ، فالمشركون يطمعون في إعانة الآلهة ووساطتهم ورضاهم عنهم ، ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وقال أبو سفيان يوم أحُد : أعْلُ هُبَلْ . وقال يوم فتح مكة لما قال له العباس : أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله : « لقد علمتُ أنْ لو كان معه إله غَيرُه لقد أغنى عَنّي شيئاً » . وأهل الأديان الإلهيَّة يترقّبون الجزاء الأوْفَى في الدنيا والآخرة ، فأول دين إلهي كان حقاً وبه كان اهتداء الإنسان ، ثم طرأت الأديان المكذوبة ، وتشبّهت بالأديان الصحيحة ، قال الله تعالى تعليماً لرسوله { لكم دينكم ولي ديني } [ الكافرون : 6 ] وقال : { ما كان ليأخذ أخاه فِي دِين الملك } [ يوسف : 76 ] .
وقد عرّف العلماء الدين الصحيح بأنّه « وضعٌ إلهيٌّ سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخيْر باطناً وظاهراً » .
والإسلام علم بالغلبة على مجموع الدِّين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كما أُطلق على ذلك الإيمان أيضاً ، ولذلك لقب أَتباع هذا الدين بالمسلمين وبالمؤمنين ، وهو الإطلاق المراد هنا ، وهو تسمية بمصدر أَسْلَم إذا أذْعَن ولم يعاند إذعاناً عن اعتراف بحق لا عن عجز ، وهذا اللقب أولى بالإطلاق على هذا الدين من لقب الإيمان ؛ لأنّ الإسلام هو المظهر البين لمتابعة الرسول فيما جاء به من الحق ، واطّراح كل حائل يحول دون ذلك ، بخلاف الإيمان فإنّه اعتقاد قلبي ، ولذلك قال الله تعالى : { هو سمَّاكم المسلمين } [ الحج : 78 ] وقال : { فقل أسلمتُ وجهي للَّه ومن اتّبعني } [ آل عمران : 20 ] ولأنّ الإسلام لا يكون إلاّ عن اعتقاد لأنّ الفعل أثر الإدراك ، بخلاف العكس فقد يكون الاعتقاد مع المكابرة .
وربما أطلق الإسلام على خصوص الأعمال ؛ والإيمان على الاعتقاد ، وهو إطلاق مناسب لحالتي التفكيك بين الأمرين في الواقع ، كما في قوله تعالى ، خطاباً لقوم أسلموا متردّدين { قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم } [ الحجرات : 14 ] ، أو التفكيك في تصوير الماهية عند التعليم لحقائق المعاني الشرعية أو اللغوية كما وقع في حديث جبريل : من ذكر معنى الإيمان ، والإسلام ، والإحسان .
والتعريف في الدين تعريف الجنس ؛ إذ لا يستقيم معنى العهد الخارجي هنا وتعريف الإسلام تعريف العلم بالغلبة : لأنّ الإسلام صار علماً بالغَلَبة على الدين المحمّدي .
فقوله : { إن الدين عند الله الإسلام } صيغة حصر ، وهي تقتضي في اللسان حصر المسند إليه ، وهو الدين ، في المسند ، وهو الإسلام ، على قاعدة الحصر بتعريف جزئي الجملة ، أي لا دين إلا الإسلام ، وقد أكّد هذا الانحصار بحرف التوكيد .
وقولُه : { عند الإسلام } وصف للدين ، والعندية عندية الاعتبار والاعتناءِ وليست عندية علم : فأفاد ، أنّ الدين الصحيح هو الإسلام ، فيكون قصراً للمسند ، إليه باعتبار قيد فيه ، لا في جميع اعتباراته : نظير قول الخنساء :
إذا قَبُحَ البُكاءُ على قتيل *** رأيتُ بكاءَكَ الحَسَن الجَميلا
فحصرت الحَسَن في بكائه بقاعدة أنّ المقصور هو الحسن لأنّه هو المعرف باللاّم ، وهذا الحصر باعتبار التقييد بوقتِ قُبْح البكاء على القتلى وهو قصر حُسْن بكائها على ذلك الوقت ، ليكون لبكائها على صخر مزية زائدة على بكاء القتلى المتعارف وإن أبى اعتبار القصر في البيت أصلاً صَاحب المطوّل .
وإذ قد جاءت أديان صحيحة أمر الله بها فالحصر مؤول : إمّا باعتبار أنّ الدين الصحيح عند الله ، حينَ الإخبار ، وهو الإسلام ، لأنّ الخبر ينظر فيه إلى وقت الإخبار ؛ إذ الأخبار كلّها حقائق في الحال ، ولا شك أنّ وقت الإخبار ليس فيه دين صحيح غير الإسلام ؛ إذ قد عرض لبقية الأديان الإلهية ، من خلط الفاسد بالصحيح ، ما أختل لأجله مجموع الدين ، وإما باعتبار الكمال عند الله فيكون القصر باعتبار سائر الأزمان والعصور ؛ إذ لا أكمل من هذا الدين ، وما تقدّمه من الأديان لم يكن بالغاً غاية المراد من البشر في صلاح شؤونهم ، بل كان كل دين مضى مقتصراً على مقدار الحاجة من أمة معيّنة في زمن معيّن ، وهذا المعنى أولي محملي الآية ، لأنّ مُفاده أعم ، وتعبيره عن حاصل صفة دين الإسلام تُجاه بقية الأديان الإلهية أتم .
ذلك أنّ مراد الله تعالى من توجيه الشرائع وإرسال الرسل ، ليس مجرّد قرع الأسماع بعبارات التشريع أو التذوّق لدَقائق تراكيبه ، بل مراد الله تعالى ممّا شرع للناس هو عملهم بتعاليم رسله وكتبه ، ولما كان المراد من ذلك هو العمل ، جعل الله الشرائع مناسبة لقابليات المخاطبين بها ، وجارية على قدر قبول عقولهم ومقدرتهم ، ليتمكّنوا من العمل بها بدوامٍ وانتظام ، فلذلك كان المقصود من التدّين أن يكون ذلك التعليم الديني دأباً وعادة لمنتحليه ، وحيثُ النفوسُ لا تستطيع الانصياع إلى ما لا يتّفق مع مدركاتها ، لا جرم تعيّن مراعاة حال المخاطبين في سائر الأديان . ليمكن للأمم العمل بتعاليم شرائعها بانتظام ومواظبة .
وقد كانت أحوال الجماعات البشرية ، في أول عهود الحضارة ، حالاتِ عكوف على عوائد وتقاليد بسيطة ، ائتلفت رُويدَا رويدَا على حسب دواعي الحاجات ، وما تلك الدواعي ، التي تسبّبت في ائتلاف تلك العوائد ، إلاّ دواع غير منتشرة ؛ لأنّها تنحصر فيما يعود على الفرد بحفظ حياته ، ودفع الآلام عنه ، ثم بحفظ حياة من يرى له مزيد اتّصال به ، وتحسينِ حاله ، فبذلك ائتلف نظام الفرد ، ثم نظام العائلة ، ثم نظام العشيرة ، وهاته النُظُم المتقابسة هي نُظم متساوية الأشكال ؛ إذ كلّها لا يعدو حفظ الحياة ، بالغذاء والدفاعِ عن النفس ، ودفعَ الآلام بالكساء والمسكن والزواج ، والانتصار للعائلة وللقبيلة ؛ لأنّ بها الاعتزاز ، ثم ما نشأ عن ذلك من تعاون الآحاد على ذلك ، بإعداد المعدّات : وهو التعاوض والتعامل ، فلم تكن فكرة الناس تعدو هذه الحالة ، وبذلك لم يكن لإحدى الجماعات شعور بما يجري لدى جماعة أخرى ، فضلاً عن التفكير في اقتباس إحداها مما يجري لدى غيرها ، وتلك حالة قناعة العيش ، وقصور الهمة ، وانعدام الدواعي فإذا حصلت الأسباب الآنفة عدّ الناس أنفسهم في منتهى السعادة .
وكان التباعد بين الجماعات في المواطن مع مشقة التواصُل ، وما يعرض في ذلك من الأخطار والمتاعب ، حائلاً عن أن يصادفهم ما يوجب اقتباس الأمم بعضها عن بعض وشعور بعضها بأخلاق بعض ، فصار الصارف عن التعاون في الحضارة الفكرية مجموع حائلين : عدم الداعي ، وانسداد وسائل الصدفة ، اللهم إلاّ ما يعرض من وفادة وافد ، أو اختلاط في نجعة أو موسم ، على أنّ ذلك إن حصل فسرعان ما يطرأ عليه النسيان ، فيصبح في خبر كان .
فكيف يرجى من أقوام ، هذه حالهم ، أن يدعوهم الداعي إلى صلاح في أوسع من دوائر مدركاتهم ، ومتقارب تصوّر عقولهم ، أليسوا إذا جاءهم مصلح كذلك لبسوا له جلد النمر ، فأحسّ من سوء الطاعة حرق الجمر ، لذلك لم تتعلّق حكمة الله تعالى ، في قديم العصور ، بتشريع شريعة جامعة صالحة لجميع البشر ، بل كانت الشرائع تأتي إلى أقوام معيّنين ؛ وفي حديث مسلم ، في صفة عرض الأمم للحساب أنّ رسول الله قال : « فيجيء النبي ومعه الرهط ، والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد » وفي رواية البخاري : « فجعل النبي والنّبيئان يمرّون معهم الرهط » الحديث . وبقي الحق في خلال ذلك مشاعاً بين الأمم ، ففي كلّ أمة تجد سداداً وأفناً ، وبعض الحق لم يزل مخبوءاً لم يسفر عنه البيان .
ثم أخذ البشر يتعارفون بسبب الفتوح والهجرة ، وتقاتلت الأمم المتقاربة المنازل ، فحصل للأمم حظ من الحضارة ، وتقاربت العوائد ، وتوسّعت معلوماتهم ، وحضارتهم ، فكانت من الشرائع الإلهية : شريعة إبراهيم عليه السلام ، ومن غيرها شريعة ( حمورابي ) في العراق ، وشريعة البراهمة ، وشريعة المصريين التي ذكرها الله تعالى في قوله : { ما كان ليأخذ أخاه في دِين الملك } [ يوسف : 76 ] .
ثم أعقبتها شريعة إلهية كبرى وهي شريعة موسى عليه السلام التي اختلط أهلها بأمم كثيرة في مسيرهم في التيه وما بعده ، وجاورتها أو أعقبتها شرائع مثل شريعة ( زرادشت ) في الفرس ، وشريعة ( كنفشيوس ) في الصين ، وشريعة ( سولون ) في اليونان .
وفي هذه العصور كلّها لم تكن إحدى الشرائع عامة الدعوة ، وهذه أكبر الشرائع وهي الموسوية لم تدْعُ غير بين إسرائيل ولم تدع الأممَ الأخرى التي مرّت عليها ، وامتزجت بها ، وصاهرتها ، وكذلك جاءت المسيحية مقصورة على دعوة بني إسرائيل حتى دعا الناسَ إليها القدّيس بُولس بعد المسيح بنحو ثلاثين سنة .
إلى أن كان في القرن الرابع بعد المسيح حصول تقابس وتمازج بين أصناف البشر في الأخلاق والعوائد ، بسببين : اضطراري ، واختياري . أمّا الاضطراري فذلك أنّه قد ترامت الأمم بعضها على بعض ، واتّجه أهل الشرق إلى الغرب ، وأهل الغرب إلى الشرق ، بالفتوح العظيمة الواقعة بين الفرس والروم ، وهما يومئذ قطبا العالم ، بما يتبع كل واحدة من أمم تنتمي إلى سلطانها ، فكانت الحرب سجالاً بين الفريقين ، وتوالت أزماناً طويلة .
وأمّا الاختياري فهو ما أبْقاه ذلك التمازج من مشاهدة أخلاق وعوائد ، حسنت في أعين رائيها ، فاقتبسوها ، وأشياء قبحت في أعينهم ، فحذِروها ، وفي كلتا الحالتين نشأت يقظة جديدة ، وتأسّست مدنيات متفنّنة ، وتهيّأت الأفكار إلى قبول التغييرات القوية ، فتهيّأت جميع الأمم إلى قبول التعاليم الغريبة عن عوائدها وأحوالها ، وتساوت الأمم وتقاربت في هذا المقدار ، وإن تفاوتت في الحضارة والعلوم تفاوتاً ربما كان منه ما زاد بعضَها تهيّئوا لقبول التعاليم الصحيحة ، وقهقر بعضاً عن ذلك بما داخلها من الإعجاب بمبلغ علمها ، أو العكوف والإلف على حضارتها .
فبلغ الأجل المراد والمعيّن لمجيء الشريعة الحق الخاتمة العامة .
فأظهر الله دين الإسلام في وقت مناسب لظهوره ، واختار أن يكون ظهوره بين ظهراني أمة لم تسبِق لها سابقةُ سلطان ، ولا كانت ذات سيادة يومئذ على شيء من جهات الأرض ، ولكنّها أمة سلّمها الله من معظم رعونات الجماعات البشرية ، لتكون أقرب إلى قبول الحق ، وأظهر هذا الدينَ بواسطة رجل منها ، لم يكن من أهل العلم . ولا من أهل الدولة ، ولا من ذرية ملوك ، ولا اكتسب خبرة سابقة بهجرة أو مخالطة ، ليكون ظهور هذا تحت الصريح ، والعلم الصحيح ، مِن مثله آيةً على أنّ ذلك وحي من الله نفحَ به عباده .
ثم جعل أسس هذا الدين متباعدة عن ذميم العوائد في الأمم ، حتى الأمة التي ظهر بينها ، وموافقة للحق ولو كان قد سبق إليه أعداؤها ، وكانت أصوله مَبنية على الفطرة بمعنى ألاّ تكون ناظرة إلاّ إلى ما فيه الصلاح في حكم العقل السليم ، غير ماسور للعوائد ولا للمذاهب ، قال تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لِخلق الله ذلك الدين القيّم ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون } [ الروم : 30 ] ، قال الشيخ أبو علي ابن سينا : « الفطرة أن يتوهّم الإنسان نفسه حصل في الدنيا دفعة وهو عاقل ، لم يسمع رأياً ، ولم يعتقد مذهباً ، ولم يعاشر أمة ، لكنّه شاهد المحسوسات ، ثم يعرِض على ذهنه الأشياء شيئاً فشيئاً فإن أمكنه الشك في شيء فالفطرة لا تشهد به ، وإن لم يمكنه الشك فيه فالفطرة توجبه ، وليس كلّ ما توجبه الفطرة بصادق ، بل الصادق منه ما تشهد به فطرة القوة التي تسمّى عقلاً ، قبل أن يعترضه الوهْم » .
ويدخل في الفطرة الآداب العتيقة التي اصطلح عليها كافة عقلاء البشر ، وارتاضت نفوسهم بها ، إذا كانت تفيدهم كمالاً ، ولا تفضي إلى فساد ، وذلك أصول قواعد حفظ النسب والعرض خاصة . فبهذا الأصل : أصلِ الفطرة كان الإسلام ديناً صالحاً لجميع الأمم في جميع الأعصر .
ثم ظهر هذا الأصل في تسعة مظاهر خادمةٍ له ومهيّئةٍ جميع الناس لقبوله .
المظهر الأول : إصلاح العقيدة بحمل الذهن على اعتقادٍ لا يشوبه تردّد ولا تمويه ولا أوهام ولا خرافات ، ثم بِكون عقيدته مبنية على الخضوع لواحد عظيم ، وعلى الاعتراف باتّصاف هذا الواحد بصفات الكمال التامة التي تجعل الخضوع إليه اختيارياً ، ثم لتصيرَ تلك الكمالات مطمح أنظار المعتقد في التخلّق بها ثم بحمل جميع الناس على تطْهير عقائدهم حتى يتّحد مبدأ التخلّق فيهم { قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سَواءٍ بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا اللَّه ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللَّه } [ آل عمران : 64 ] .
وكان إصلاح الاعتقاد أهمّ ما ابتدأ به الإسلام ، وأكثرَ ما تعرّض له ؛ وذلك لأنّ إصلاح الفكرة هو مبدأ كلّ إصلاح ؛ ولأنّه لا يرجى صح لقوم تلطَّخت عقولهم بالعقائد الضالّة ، وخسئت نفوسهم بآثار تلك العقائد المثيرة : خوفاً من لا شَيء ، وطمعاً في غير شيء ، وإذا صلح الاعتقاد أمكن صلاح الباقي ؛ لأنّ المرء إنسان بروحه لا بجسمه .
ثم نشأ عن هذا الاعتقاد الإسلامي : عزّة النفس ، وأصلة الرأي ، وحرية العقل ، ومساواة الناس فيما عدا الفضائل .
وقد أكثر الإسلام شرح العقائد إكثاراً لا يشبهه فيه دين آخر ؛ بل إنّك تنظر إلى كثير من الأديان الصحيحة ، فلا ترى فيها من شرح صفات الخالق إلاّ قليلاً .
المظهر الثاني : جمعه بين إصلاح النفوس ، بالتزكية ، وبين إصلاح نظام الحياة ، بالتشريع ، في حين كان معظم الأديان لا يتطرّق إلى نظام الحياة بشيء ، وبعضها وإن تطرّق إليه إلاّ أنّه لم يوفه حقه ، بل كان معظم اهتمامها منصرفاً إلى المواعظ والعبادات ، وقد قرن القرآن المصلحتين في غير ما آية قال تعالى : { من عَمِل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينَّه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 97 ] .
المظهر الثالث : اختصاصه بإقامة الحجة ، ومجادلة المخاطبين بصنوف المجادلات وتعليل أحكامه ، بالترغيب وبالترهيب ، وذلك رعي لمراتب نفوس المخاطبين ، فمنهم العالم الحكيم الذي لا يقتنع إلاّ بالحجة والدليل ، ومنهم المكابر الذي لا يرعوي إلاّ بالجدل والخطابة ، ومنهم المترهّب الذي اعتاد الرغبة فيما عند الله ، ومنهم المكابر المعاند ، الذي لا يقلعه عن شغبه إلاّ القوارع والزواجر .
المظهر الرابع : أنّه جاء بعموم الدعوة لسائر البشر ، وهذا شيء لم يسبق في دين قبله قط ، وفي القرآن : { قل يأيها الناس إنّي رسول الله إليكم جميعاً } [ الأعراف : 158 ] ، وفي الحديث الصحيح : « أعْطِيتُ خمساً لم يُعْطَهُنّ أحَدٌ قبلي فذكر وكانَ الرسول يُبعث إلى قومه خاصة وبُعِثْتُ إلى الناس عامة » وقد ذكر الله تعالى الرسل كلّهم فذكر أنّه أرسلهم إلى أقوامهم .
والاختلاف في كون نوح رسولاً إلى جميع أهل الارض ، إنّما هو مبْني : على أنّه بعد الطوفان انحصر أهل الارض في أتباع نوح ، عند القائلين بعموم الطوفان سائر الارض ، ألاَ ترى قوله تعالى : { ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } [ الأعراف : 59 ] وأيَّاماً كان احتمال كون سكّان الارض في عصر نوح هم من ضمّهم وطن نوح ، فإن عموم دعوتة حاصل غير مقصود .
المظهر الرابع : الدوام ولم يَدّعِ رسول من الرسل أنّ شريعته دائمة ، بل ما من رسول ، ولا كتاب ، إلاّ تجد فيه بشارة برسول يأتي من بعده .
المظهر الخامس : الإقلال من التفريع في الأحكام بل تأتي بأصولها ويُترك التفريع لاستنباط المجتهدين وقد بيّن ذلك أبو إسحاق الشاطبي في تفسير قوله تعالى : { ما فرّطنا في الكتاب من شيء } [ الأنعام : 38 ] لتكون الأحكام صالحة لكلّ زمان .
المظهر السادس : أنّ المقصود من وصايا الأديان إمكان العمل بها ، وفي أصول الأخلاق أنّ التربية الصحيحة هي التي تأتي إلى النفوس بالحيلولة بينها وبين خواطر الشرور ؛ لأنّ الشرور ، إذا تَسرَّبت إلى النفوس ، تعذّر أو عسر اقتلاعها منها ، وكانت الشرائع تحمل الناس على متابعة وصاياها بالمباشرة ، فجاء الإسلام يحمل الناس على الخير بطريقتين : طريقة مباشرة ، وطريقة سدّ الذرائع الموصلة إلى الفساد ، وغالب أحكام الإسلام من هذا القبيل وأحسبها أنّها من جملة ما أريد بالمشتبهات في حديث : « إن الحلال بيّن وإنّ الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس » .
المظهر السابع : الرأفة بالناس حتى في حملهم على مصالحهم بالاقتصار في التشريع على موضع المصلحة ، مع تطلب إبراز ذلك التشريع في صورة ليّنة ، وفي القرآن { يريد اللَّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] وفي الحديث : « بُعثت بالحنيفية السَّمْحَة ولن يشادّ هذا الدين أحد إلاّ غلبه » وكانت الشرائع السابقة تحمل على المتابعة بالشدّة ، فلذلك لم تكن صالحة للبقاء ؛ لأنّها روعي فيها حال قساوة أمم في عصور خاصة ، ولم تكن بالتي يُناسبها ما قُدِّر مصيرُ البشر إليه من رقّة الطباع وارتقاء الأفهام .
المظهر الثامن : امتزاج الشريعة بالسلطان في الإسلام ، وذلك من خصائصه ؛ إذ لا معنى للتشريع إلاّ تأسيس قانون للأمة ، وما قيمة قانون لا تحميه القوة والحكومة . وبامتزاج الحكومة مع الشريعة أمكن تعميم الشريعة ، واتّحاد الأمة في العمل والنظام .
المظهر التاسع : صراحة أصول الدين ، بحيث يتكرّر في القرآن ما تُستَقْرَى منه قواطعُ الشريعة ، حتى تكونَ الشريعة معصومة من التأويلات الباطلة ، والتحريفات التي طرأت على أهل الكتب السابقة ، ويزداد هذا بياناً عند تفسير قوله تعالى : { فقل أسلمت وجهي للَّه ومن اتّبعني } [ آل عمران : 20 ] .
{ وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بآيات الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } .
عُطِفَ { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } على قوله : { إن الذين عند الله الإسلام } للإخبار عن حال أهل الكتاب من سوء تلقّيهم لدين الإسلام ، ومن سوء فهمهم في دينهم .
وجيء في هذا الإخبار بطريقة مؤذنة بورود سؤال ؛ إذ قد جيء بصيغة الحصر : لبيان سبب اختلافهم ، وكأنّ اختلافَهم أمر معلوم للسامع . وهذا أسلوب عجيب في الإخبار عن حالهم إخباراً يتضمّن بيان سببه ، وإبطال ما يَتراءى من الأسباب غير ذلك ، مع إظهار المقابلة بين حال الدِّينِ الذي هم عليه يومئذ من الاختلاف ، وبين سلامة الإسلام من ذلك .
وذلك أنّ قوله : { إن الدين عند الله الإسلام } قد آذَن بأنّ غيره من الأدين لم يبلغ مرتبة الكمال والصلاحية للعموم ، والدوام ، قبل التغيير ، بلَه ما طرأ عليها من التغيير ، وسوء التأويل ، إلى يومَ مجيء الإسلام ، ليعلم السامعون أنّ ما عليه أهل الكتاب لم يصل إلى أكمل مراد الله من الخلق على أنّه وقع فيه التغيير والاختلاف ، وأن سبب ذلك الاختلاف هو البغي بعدما جاءهم العلم ، مع التنبيه على أنّ سبب بطلان ما هم عليه يومئذ هو اختلافهم وتغييرهم ، ومن جملة ما بدّلوه الآيات الدالة على بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وفيه تنبيه على أنّ الإسلام بعيد عن مثل ما وقعوا فيه من التحريف ، كما تقدّم في المظهر التاسع ، ومن ثم ذمّ علماؤنا التأويلات البعيدة ، والتي لم يَدْعُ إليها داعٍ صريح .
وقد جاءت الآية على نظم عجيب يشتمل على معانٍ : منها التحذير من الاختلاف في الدين ، أي في أصوله ، ووجوب تطلّب المعاني التي لا تناقض مقصد الدين ، عبرة بما طرأ على أهل الكتاب من الاختلاف .
ومنها التنبيه على أنّ اختلاف أهل الكتاب حصل مع قيام أسباب العلم بالحق ، فهو تعريض بأنّهم أساءوا فهم الدين .
ومنها الإشارة إلى أنّ الاختلاف الحاصل في أهل الكتاب نوعان : أحدهما اختلاف كل أمة مع الأخرى في صحة دينها كما قال تعالى : { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب } [ البقرة : 113 ] ، وثانيهما اختلاف كل أمة منهما فيما بينها وافتراقها فرقاً متباينةَ المنازع . كما جاء في الحديث : " اختلفت اليهود على اثنتين وسبعين فرقة " يُحَذِّر المسلمين ممّا صنعوا .
ومنها أنّ اختلافهم ناشيء عن بغي بعضهم على بعض .
ومنها أنّهم أجمعوا على مخالفة الإسلام والإعراضِ عنه بغياً منهم وحسداً ، مع ظهور أحقّيته عند علمائهم وأحبارهم كما قال تعالى : { الذين ءاتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكوننّ من الممترين } [ البقرة : 146 ، 147 ] ، وقال تعالى : { ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق } [ البقرة : 109 ] أي أعرضوا عن الإسلام ، وصمّموا على البقاء على دينهم ، وودّوا لو يردّونكم إلى الشرك أو إلى متابعة دينهم حسداً على ما جاءكم من الهُدى بعد أن تبيّن لهم أنّه الحق .
ولأجل أن يسمح نظم الآية بهذه المعاني ، حُذِف متعلِّق الاختلاف في قوله : { اختلف الذين أوتوا الكتاب } ليشمل كلّ اختلاف منهم : من مخالفة بعضهم بعضاً في الدين الواحد ، ومخالفة أهل كلّ دين لأهل الدين الآخر ، ومخالفة جميعهم للمسلمين في صحّة الدين .
وحُذف متعلّق العلم في قوله : { من بعد ما جاءهم العلم } لذلك .
وجُعل « بغيا » عقب قوله : « من بعد ما جاءهم العلم » ليتنازعه كلُّ من فعل ( اختلف ) ومن لفظ ( العِلم ) .
وأُخِّر بينَهم عن جميع ما يصلح للتعليق به : ليتنازعه كلّ من فعل ( اختلف ) وفِعل ( جاءَهم ) ولفظِ ( العِلم ) ولفظ ( بَغيا ) .
وبذلك تعلم أنّ معنى هذه الآية أوسع معانيَ من معاني قوله تعالى : { وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم للبينات بغيا بينهم } في سورة ا [ لبقرة : 213 ] وقوله : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءتهم البيّنة } في سورة [ البيّنة : 4 ] كما ذكرناه في ذينك الموضعين لاختلاف المقامين .
فاختلاف الذين أوتوا الكتاب يشمل اختلافهم فيما بينهم : أي اختلاف أهل كل ملّة في أمور دينها ، وهذا هو الذي تشعر بها صيغة اختلف كاختلاف اليهود بعد موسى غيرَ مرة ، واختلافِهم بعد سليمانَ إلى مملكتين : مملكة إسرائيل ، ومملكة يَهُوذا ، وكيف صار لكلّ مملكة من المملكتين تديُّنٌ يخالف تديُّنَ الأخرى ، وكذلك اختلاف النصارى في شأن المسيح ، وفي رسوم الدين ، ويكون قوله : بينهم حالاً لبغيا : أي بغيا متفشيّا بينهم ، بأن بغَى كلّ فريق على الآخر .
ويشمل أيضاً الاختلاف بيْنهم في أمر الإسلام ؛ إذ قال قائل منهم : هو حق ، وقال فريق : هو مرسل إلى الأميّين ، وكفر فريق ، ونافق فريق . وهذا الوجه أوفى مناسبة بقوله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } ، ويكون قوله : { بينهم } على هذا وصفا لبغيا : أي بغياً واقعاً بينهم .
ومجيء العلم هو الوحي الذي جاءت به رسلهم وأنبياؤُهم ، لأنّ كلمة جاء مؤذنه بعلم متلقّى من الله تعالى ، يعني أنّ العلم الذي جاءهم كان من شأنه أن يصدّهم عن الاختلاف في المراد ، إلاّ أنّهم أساءوا فكانوا على خلاف مراد الله من إرسال الهدى .
وانتصب { بغيا } على أنّه مفعول لأجله ، وعامل المفعول لأجله : هو الفعل الذي تفرّغ للعمل فيما بعدَ حرف الاستثناء ، فالاستثناء كان من أزمان وعلل محذوفة والتقديرُ : ما اختلفوا إلاّ في زمن بعدما جاءهم العلم وما كان إلاّ بغياً بينهم . ولك أن تجعل بغياً منصوباً على الحال من الذين أوتوا الكتاب ، وهو وإن كان العامل فيه فعلاً منفياً في اللفظ إلاّ أن الاستثناء المفرّغ جعله في قوه المثبت ، فجاء الحال منه عقب ذلك ، أي حال كون المختلفين باغين ، فالمصدر مؤوّل بالمشتق . ويجوز أن تجعله مفعولاً لأجله من ( اختلف ) باعتبار كونه صار مثبتاً كما قرّرنا .
وقد لمّحت الآية إلى أنّ هذا الاختلاف ، والبغي كُفْر ، لأنّه أفضى بهم إلى نقض قواعد أديانهم ، وإلى نكران دين الإسلام ، ولذلك ذيّله بقوله : { ومن يكفر بآيات الله } إلخ .
وقولُه : { فإن الله سريع الحساب } تعريض بالتهديد ، لأنّ سريع الحساب إنّما يبتدىء بحساب من يكفر بآياته ، والحساب هنا كناية عن الجزاء كقوله : { إنْ حسابهم إلاّ على ربي } [ الشعراء : 113 ] .
وفي ذكر هذه الأحوال الذميمة من أحوال أهل الكتاب تحذير للمسلمين أن يقعوا في مثل ما وقع فيه أولئك ، والمسلمون وإن اختلفوا في أشياء كثيرة لم يكن اختلافهم إلاّ اختلافاً علمياً فرعياً ، ولم يختلفوا اختلافاً ينقض أصول دينهم بل غاية الكلّ الوصول إلى الحق من الدين ، وخدمة مقاصد الشريعة ، فبَنُو إسرائيل عبدوا العجل والرسولُ بين ظهرانيْهم ، وعبدوا آلهة الأمم غيرَ مرة ، والنصارى عبدوا مريم والمسيح ، ونقضوا أصول التوحيد ، وادّعوا حلول الخالق في المخلوق . فأما المسلمون لما قال أحدُ أهل التصوّف منهم كلامَاً يوهم الحُلول حكم علماؤهم بقتله .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ومعنى الدِّين في هذا الموضع: الطاعة والذلة... وكذلك الإسلام: وهو الانقياد بالتذلل والخشوع والفعل منه أسلم، بمعنى: دخل في السلم... وهو الانقياد بالخضوع وترك الممانعة. فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل قوله: {إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسْلامُ}: إن الطاعة التي هي الطاعة عنده الطاعة له، وإقرار الألسن والقلوب له بالعبودية والذلة، وانقيادها له بالطاعة فيما أمر ونهى، وتذللها له بذلك من غير استكبار عليه ولا انحراف عنه دون إشراك غيره من خلقه معه في العبودية والألوهية... والإسلام: شهادة أن لا إلَه إلا الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله، ودل عليه أولياءه، لا يقبل غيره ولا يجزى إلا به... الإسلام: الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر الفرائض لهذا تبع.
{وَما اخْتَلَفَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيا بَيْنَهُمْ}: وما اختلف الذين أوتوا الإنجيل، وهو الكتاب الذي ذكره الله في هذه الآية في أمر عيسى، وافترائهم على الله فيما قالوه فيه من الأقوال التي كثر بها اختلافهم بينهم وتشتت بها كلمتهم، وباين بها بعضهم بعضا، حتى استحلّ بها بعضهم دماء بعض، {إلاّ مِنْ بَعْدِ ما جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيا بَينهم}: إلا من بعد ما علموا الحقّ فيما اختلفوا فيه من أمره وأيقنوا أنهم فيما يقولون فيه من عظيم الفرية مبطلون. فأخبر الله عباده أنهم أتوا ما أتوا من الباطل وقالوا ما قالوا من القول الذي هو كفر بالله على علم منهم بخطأ ما قالوه، وأنهم لم يقولوا ذلك جهلاً منهم بخطئه، ولكنهم قالوه واختلفوا فيه الاختلاف الذي هم عليه، تعدّيا من بعضهم على بعض، وطلب الرياسات والملك والسلطان.
{وَمَنْ يَكْفُرْ بآياتِ اللّهِ فإنّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسابِ}: ومن يجحد حجج الله وأعلامه التي نصبها ذكرى لمن عقل، وأدلة لمن اعتبر وتذكر، فإن الله محص عليه أعماله التي كان يعملها في الدنيا، فمجازيه بها في الاَخرة، فإنه جلّ ثناؤه "سريع الحساب": سريع الإحصاء. وإنما معنى ذلك: أنه حافظٌ على كل عامل عمله، لا حاجة به إلى عقد، كما يعقده خلقه بأكفهم، أو يعونه بقلوبهم، ولكنه يحفظ ذلك عليهم بغير كلفة ولا مؤونة، ولا معاناة لما يعانيه غيره من الحساب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن الدين عند الله الإسلام} قال قائلون: إن الدين الذي هو حق من بين الأديان، وهو الإسلام، لأن كل أحد منهم مما دان يدعي أنه دين الله الذي أمر به، وقال قوم: إن الدين الذي أمر به من عند الله لأنهم كانوا مع اختلافهم مقرين بالإيمان، لكن بعضهم لا يقرون بالإسلام، فأخبر جل وعلا أن الدين الذي أمر به، وفيه التوحيد، هو الإسلام، لا غيره...
{وما اختلف الذين أوتوا الكتاب} يحتمل وجهين: يحتمل الاختلاف التفرق؛ أي تفرقوا في الكفر كقوله: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا} الآية [آل عمران: 67]، ويحتمل الاختلاف نفس الاختلاف في الدين كقوله: {ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر} [البقرة: 253]؛ أخبر أنهم لم يختلفوا عن جهل ولكن عن علم وبيان كقوله: {إلا من بعد ما جاءهم العلم} ثم يحتمل قوله: {إلا من بعد ما جاءهم العلم} وجهين: أي لم يختلفوا إلا من بعد ما علموا، وعرفوا، ويحتمل لم يختلفوا إلا من بعد ما أوتوا أسباب ما لو تفكروا، وتدبروا، ولرفع العلم لهم بذلك والبيان، لكنهم تعنتوا، وكابروا، فاختلفوا...
وقوله تعالى: {بغيا بينهم} قيل: حسدا بينهم، لأنهم طمعوا أن يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل على ما بعث سائر الرسل بعد إسرائيل منهم، فلما بعث من غير إسرائيل حسدوه، وخالفوا دينه الإسلام، ويحتمل {بغيا} من البغي، وهو الجور...
وقوله تعالى: {ومن يكفر بآيات الله} أي من المختلفين {فإن الله سريع الحساب} كأنه على الإضمار: أن قل يا محمد {ومن يكفر بآيات الله} من بعد ما جاءهم العلم والبيان {فإن الله سريع الحساب}، وله ثلاثة أوجه: لأن ظاهر الجواب على غير إضمار أن يكون {ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب} أي العذاب، والله أعلم، سمي به لأن بعد الحساب عذابا لقوله صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب} [مسلم 2876]، فجعل الحساب عذابا. ثم أخبر جل وعلا أنه {سريع الحساب} لا كالحساب الذي بين الخلق يشغلهم أسباب، ويمنعهم أشياء، ويحتاجون إلى التفكير والتدبر، والله تعالى عن أن يشغله شيء، ويمنعه معنى، جل الله عن ذلك.
وقيل: حسابه سريع، كأن قد جاء لقربه، والله أعلم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{إنَّ الدّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ}؛ الدِّينُ الذي يرتضيه، والذي حكم لصاحبه بأنه يجازيه ويعليه، وبالفضل يُلَقِّيه -هو الإِسلام. والإسلام هو الإخلاص والاستسلام، وما سواه فمردود، وطريق النجاة على صاحبه مسدود.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما فائدة هذا التوكيد؟ قلت: فائدة أن قوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ}: توحيد، وقوله: {قَائِمَاً بالقسط}: تعديل، فإذا أردفه قوله: {إِنَّ الدين عِندَ الله الإسلام} فقد آذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد، وهو الدين عند الله، وما عداه فليس عنده في شيء من الدين...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {الدين} في هذه الآية الطاعة والملة، والمعنى، أن الدين المقبول أو النافع أو المقرر،... و {الإسلام} هو الذي سأل عنه جبريل النبي عليه السلام حين جاء يعلم الناس دينهم الحديث وجواب النبي له في الإيمان والإسلام يفسر ذلك، وكذلك تفسيره قوله عليه السلام: بني الإسلام على خمس، الحديث، وكل مؤمن بنبيه ملتزم لطاعات شرعه فهو داخل تحت هذه الصفة... وسرعة الحساب يحتمل أن يراد بها سرعة مجيء القيامة والحساب إذ هي متيقنة الوقوع، فكل آت قريب...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
وقد دل قوله: {إن الدين عند الله الإسلام} على أنه دين أنبيائه ورسله وأتباعهم من أولهم إلى آخرهم، وأنه لم يكن لله قط ولا يكون له دين سواه. قال أول الرسل نوح: {فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين} [يونس: 72] وقال إبراهيم وإسماعيل: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} [البقرة: 128]، {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [البقرة: 132] وقال يعقوب لبنيه عند الموت: {ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك -إلى قوله- ونحن له مسلمون} [البقرة: 133]، وقال موسى لقومه: {إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين} [يونس: 84] وقال تعالى: {فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون} [آل عمران: 52]... فالإسلام دين أهل السموات ودين أهل التوحيد من أهل الأرض، لا يقبل الله من أحد دينا سواه. فأديان أهل الأرض ستة: واحد للرحمن وخمسة للشيطان. فدين الرحمن هو الإسلام، والتي للشيطان اليهودية والنصرانية والمجوسية والصابئة ودين المشركين...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{إن الدين عند الله الإسلام} قرأ الجمهور "إن "بالكسر على أن الجملة مستأنفة وقرأها الكسائي بالفتح على أنها تعليل للشهادة بالتوحيد، أي شهد الله أنه لا إله إلا هو، لأن الدين عند الله هو الإسلام له وحده،... أقول: الدين في اللغة الجزاء، والطاعة والخضوع أي سبب الجزاء. ويطلق على مجموع التكاليف التي يدين بها العباد لله فيكون بمعنى الملة والشرع. وقالوا إن ما يكلف الله به العباد يسمى شرعا باعتبار وضعه وبيانه ويسمى دينا باعتبار الخضوع وطاعة الشارع به. ويسمى ملة باعتبار جملة التكاليف...
وتسمية دين الحق إسلاما يناسب كل معنى من معاني الكلمة في اللغة وأظهرها آخرها في الذكر لاسيما في هذا المقام، ويؤيده الآية وقوله تعالى: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا} [النساء: 125]... "إن الدين عند الله الإسلام" يتناول جميع الملل التي جاء بها الأنبياء لأنه هو روحها الكلي الذي اتفقت فيه على اختلاف بعض التكاليف وصور الأعمال فيها وبه كانوا يوصون...
المسلم الحقيقي في حكم القرآن من كان خالصا من شوائب الشرك بالرحمن، مخلصا في أعماله مع الإيمان، من أي ملة كان، وفي أي زمان وجد ومكان، وهذا هو المراد بقوله عز وجل: {ومن يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه}... ذلك أن الله تعالى شرع الدين لأمرين أصليين: أحدهما: تصفية الأرواح وتخليص العقول من شوائب الاعتقاد بالسلطة الغيبية للمخلوقات، وقدرتها على التصرف في الكائنات، لتسلم من الخضوع والعبودية لمن هم من أمثالها، أو لما هو دونها في استعدادها وكمالها. وثانيهما: إصلاح القلوب بحسن القصد في جميع الأعمال، وإخلاص النية لله وللناس... وهذان الأمران هما روح المراد من كلمة الإسلام. وأما أعمال العبادات فإنما شرعت لتربية هذا الروح الأمري في الروح الخلقي. ولذلك شرط فيها النية والإخلاص ومتى تربى سهل على صاحبه القيام بسائر التكاليف الأدبية والمدنية التي يصل بها إلى المدينة الفاضلة وتحقيق أمنية الحكماء...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
لما قرر أنه الإله الحق المعبود، بين العبادة والدين الذي يتعين أن يعبد به ويدان له، وهو الإسلام الذي هو الاستسلام لله بتوحيده وطاعته التي دعت إليها رسله، وحثت عليها كتبه، وهو الذي لا يقبل من أحد دينا سواه، وهو متضمن للإخلاص له في الحب والخوف والرجاء والإنابة والدعاء ومتابعة رسوله في ذلك، وهذا هو دين الرسل كلهم، وكل من تابعهم فهو على طريقهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويرتب على هذه الحقيقة التي عاد لتوكيدها مرتين في الآية الواحدة، نتيجتها الطبيعية.. الوهية واحدة. فلا عبودية إلا لهذه الألوهية الواحدة: (إن الدين عند الله الإسلام...
ألوهية واحدة.. وإذن فدينونة واحدة.. واستسلام لهذه الألوهية لا يبقى معه شيء في نفوس العباد ولا في حياتهم خارجا عن سلطان الله...
وإذن فجهة واحدة هي صاحبة الحق في تعبيد الناس لها؛ وفي تطويعهم لأمرها؛ وفي إنفاذ شريعتها فيهم وحكمها؛ وفي وضع القيم والموازين لهم وأمرهم باتباعها؛ وفي إقامة حياتهم كلها وفق التعليمات التي ترضاها.. ألوهية واحدة.. وإذن فعقيدة واحدة هي التي يرضاها الله من عباده. عقيدة التوحيد الخالص الناصع.. ومقتضيات التوحيد هذه التي أسلفنا:... (إن الدين عند الله الإسلام).. الإسلام الذي هو ليس مجرد دعوى، وليس مجرد راية، وليس مجرد كلمة تقال باللسان؛ ولا حتى تصورا يشتمل عليه القلب في سكون؛ ولا شعائر فردية يؤديها الأفراد في الصلاة والحج والصيام.. لا. فهذا ليس بالإسلام الذي لا يرضى الله من الناس دينا سواه. إنما الإسلام الاستسلام. الإسلام الطاعة والاتباع. الإسلام تحكيم كتاب الله في أمور العباد...
يبين الله لأهل الكتاب وللجماعة المسلمة علة هذا الاختلاف: (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم. بغيا بينهم). إنه ليس اختلافا عن جهل بحقيقة الأمر. فقد جاءهم العلم القاطع بوحدانية الله، وتفرد الألوهية. وبطبيعة البشرية، وحقيقة العبودية.. ولكنهم إنما اختلفوا (بغيا بينهم) واعتداء وظلما؛ حينما تخلوا عن قسط الله وعدله الذي تتضمنه عقيدته وشريعته وكتبه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا شروع في أول غرض أنزلت فيه هذه السورة: غرض محاجّة نصارى نجران، فهذا الاستئناف من مناسبات افتتاح السورة بذكر تنزيل القرآن والتوراة والإنجيل، ثم بتخصيص القرآن بالذكر وتفضيله بأنّ هديه يفوق هدي ما قبله من الكتب، إذ هو الفرقان، فإنّ ذلك أسّ الدين القويم... والدين: حقيقته في الأصل الجزاء، ثم صار حقيقة عرفية يطلق على: مجموع عقائد، وأعمال يلقّنها رسولٌ من عند الله ويعد العاملين بها بالنعيم والمعرضين عنها بالعقاب. ثم أطلق على ما يشْبِه ذلك مما يضعه بعض زعماء الناس من تلقاء عقله فتَلتزمه طائفة من الناس. وسمّي الدين ديناً لأنّه يترقب منه مُتَّبِعُهُ الجزاءَ عاجلاً أو آجلاً، فما من أهل دين إلاّ وهم يترقّبون جزاء من رب ذلك الدين، فالمشركون يطمعون في إعانة الآلهة ووساطتهم ورضاهم عنهم، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله... وقد عرّف العلماء الدين الصحيح بأنّه « وضعٌ إلهيٌّ سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخيْر باطناً وظاهراً». والإسلام علم بالغلبة على مجموع الدِّين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كما أُطلق على ذلك الإيمان أيضاً، ولذلك لقب أَتباع هذا الدين بالمسلمين وبالمؤمنين، وهو الإطلاق المراد هنا، وهو تسمية بمصدر أَسْلَم إذا أذْعَن ولم يعاند إذعاناً عن اعتراف بحق لا عن عجز، وهذا اللقب أولى بالإطلاق على هذا الدين من لقب الإيمان؛ لأنّ الإسلام هو المظهر البين لمتابعة الرسول فيما جاء به من الحق، واطّراح كل حائل يحول دون ذلك، بخلاف الإيمان فإنّه اعتقاد قلبي، ولذلك قال الله تعالى: {هو سمَّاكم المسلمين} [الحج: 78] وقال: {فقل أسلمتُ وجهي للَّه ومن اتّبعني} [آل عمران: 20] ولأنّ الإسلام لا يكون إلاّ عن اعتقاد لأنّ الفعل أثر الإدراك، بخلاف العكس فقد يكون الاعتقاد مع المكابرة...
وإذ قد جاءت أديان صحيحة أمر الله بها فالحصر مؤول: إمّا باعتبار أنّ الدين الصحيح عند الله، حينَ الإخبار، وهو الإسلام، لأنّ الخبر ينظر فيه إلى وقت الإخبار؛ إذ الأخبار كلّها حقائق في الحال، ولا شك أنّ وقت الإخبار ليس فيه دين صحيح غير الإسلام؛ إذ قد عرض لبقية الأديان الإلهية، من خلط الفاسد بالصحيح، ما أختل لأجله مجموع الدين، وإما باعتبار الكمال عند الله فيكون القصر باعتبار سائر الأزمان والعصور؛ إذ لا أكمل من هذا الدين، وما تقدّمه من الأديان لم يكن بالغاً غاية المراد من البشر في صلاح شؤونهم، بل كان كل دين مضى مقتصراً على مقدار الحاجة من أمة معيّنة في زمن معيّن، وهذا المعنى أولي محملي الآية، لأنّ مُفاده أعم، وتعبيره عن حاصل صفة دين الإسلام تُجاه بقية الأديان الإلهية أتم...
ذلك أنّ مراد الله تعالى من توجيه الشرائع وإرسال الرسل، ليس مجرّد قرع الأسماع بعبارات التشريع أو التذوّق لدَقائق تراكيبه، بل مراد الله تعالى ممّا شرع للناس هو عملهم بتعاليم رسله وكتبه، ولما كان المراد من ذلك هو العمل، جعل الله الشرائع مناسبة لقابليات المخاطبين بها، وجارية على قدر قبول عقولهم ومقدرتهم، ليتمكّنوا من العمل بها بدوامٍ وانتظام، فلذلك كان المقصود من التدّين أن يكون ذلك التعليم الديني دأباً وعادة لمنتحليه، وحيثُ النفوسُ لا تستطيع الانصياع إلى ما لا يتّفق مع مدركاتها، لا جرم تعيّن مراعاة حال المخاطبين في سائر الأديان. ليمكن للأمم العمل بتعاليم شرائعها بانتظام ومواظبة... وقد كانت أحوال الجماعات البشرية، في أول عهود الحضارة، حالاتِ عكوف على عوائد وتقاليد بسيطة، ائتلفت رُويدَا رويدَا على حسب دواعي الحاجات، وما تلك الدواعي، التي تسبّبت في ائتلاف تلك العوائد، إلاّ دواع غير منتشرة؛ لأنّها تنحصر فيما يعود على الفرد بحفظ حياته، ودفع الآلام عنه، ثم بحفظ حياة من يرى له مزيد اتّصال به، وتحسينِ حاله، فبذلك ائتلف نظام الفرد، ثم نظام العائلة، ثم نظام العشيرة، وهاته النُظُم المتقابسة هي نُظم متساوية الأشكال؛ إذ كلّها لا يعدو حفظ الحياة، بالغذاء والدفاعِ عن النفس، ودفعَ الآلام بالكساء والمسكن والزواج، والانتصار للعائلة وللقبيلة؛ لأنّ بها الاعتزاز، ثم ما نشأ عن ذلك من تعاون الآحاد على ذلك، بإعداد المعدّات: وهو التعاوض والتعامل، فلم تكن فكرة الناس تعدو هذه الحالة، وبذلك لم يكن لإحدى الجماعات شعور بما يجري لدى جماعة أخرى، فضلاً عن التفكير في اقتباس إحداها مما يجري لدى غيرها، وتلك حالة قناعة العيش، وقصور الهمة، وانعدام الدواعي فإذا حصلت الأسباب الآنفة عدّ الناس أنفسهم في منتهى السعادة...
وكان التباعد بين الجماعات في المواطن مع مشقة التواصُل، وما يعرض في ذلك من الأخطار والمتاعب، حائلاً عن أن يصادفهم ما يوجب اقتباس الأمم بعضها عن بعض وشعور بعضها بأخلاق بعض، فصار الصارف عن التعاون في الحضارة الفكرية مجموع حائلين: عدم الداعي، وانسداد وسائل الصدفة، اللهم إلاّ ما يعرض من وفادة وافد، أو اختلاط في نجعة أو موسم، على أنّ ذلك إن حصل فسرعان ما يطرأ عليه النسيان، فيصبح في خبر كان. فكيف يرجى من أقوام، هذه حالهم، أن يدعوهم الداعي إلى صلاح في أوسع من دوائر مدركاتهم، ومتقارب تصوّر عقولهم، أليسوا إذا جاءهم مصلح كذلك لبسوا له جلد النمر، فأحسّ من سوء الطاعة حرق الجمر، لذلك لم تتعلّق حكمة الله تعالى، في قديم العصور، بتشريع شريعة جامعة صالحة لجميع البشر، بل كانت الشرائع تأتي إلى أقوام معيّنين؛ وفي حديث مسلم، في صفة عرض الأمم للحساب أنّ رسول الله قال: « فيجيء النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد» وفي رواية البخاري: « فجعل النبي والنّبيئان يمرّون معهم الرهط» الحديث. وبقي الحق في خلال ذلك مشاعاً بين الأمم، ففي كلّ أمة تجد سداداً وأفناً، وبعض الحق لم يزل مخبوءاً لم يسفر عنه البيان...
فأظهر الله دين الإسلام في وقت مناسب لظهوره، واختار أن يكون ظهوره بين ظهراني أمة لم تسبِق لها سابقةُ سلطان، ولا كانت ذات سيادة يومئذ على شيء من جهات الأرض، ولكنّها أمة سلّمها الله من معظم رعونات الجماعات البشرية، لتكون أقرب إلى قبول الحق، وأظهر هذا الدينَ بواسطة رجل منها، لم يكن من أهل العلم. ولا من أهل الدولة، ولا من ذرية ملوك، ولا اكتسب خبرة سابقة بهجرة أو مخالطة، ليكون ظهور هذا تحت الصريح، والعلم الصحيح، مِن مثله آيةً على أنّ ذلك وحي من الله نفحَ به عباده. ثم جعل أسس هذا الدين متباعدة عن ذميم العوائد في الأمم، حتى الأمة التي ظهر بينها، وموافقة للحق ولو كان قد سبق إليه أعداؤها، وكانت أصوله مَبنية على الفطرة بمعنى ألاّ تكون ناظرة إلاّ إلى ما فيه الصلاح في حكم العقل السليم، غير مأسور للعوائد ولا للمذاهب، قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لِخلق الله ذلك الدين القيّم ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون} [الروم: 30]، قال الشيخ أبو علي ابن سينا: « الفطرة أن يتوهّم الإنسان نفسه حصل في الدنيا دفعة وهو عاقل، لم يسمع رأياً، ولم يعتقد مذهباً، ولم يعاشر أمة، لكنّه شاهد المحسوسات، ثم يعرِض على ذهنه الأشياء شيئاً فشيئاً فإن أمكنه الشك في شيء فالفطرة لا تشهد به، وإن لم يمكنه الشك فيه فالفطرة توجبه، وليس كلّ ما توجبه الفطرة بصادق، بل الصادق منه ما تشهد به فطرة القوة التي تسمّى عقلاً، قبل أن يعترضه الوهْم». ويدخل في الفطرة الآداب العتيقة التي اصطلح عليها كافة عقلاء البشر، وارتاضت نفوسهم بها، إذا كانت تفيدهم كمالاً، ولا تفضي إلى فساد، وذلك أصول قواعد حفظ النسب والعرض خاصة. فبهذا الأصل: أصلِ الفطرة كان الإسلام ديناً صالحاً لجميع الأمم في جميع الأعصر...
ثم ظهر هذا الأصل في تسعة مظاهر خادمةٍ له ومهيّئةٍ جميع الناس لقبوله.
المظهر الأول: إصلاح العقيدة بحمل الذهن على اعتقادٍ لا يشوبه تردّد ولا تمويه ولا أوهام ولا خرافات، ثم بِكون عقيدته مبنية على الخضوع لواحد عظيم، وعلى الاعتراف باتّصاف هذا الواحد بصفات الكمال التامة التي تجعل الخضوع إليه اختيارياً، ثم لتصيرَ تلك الكمالات مطمح أنظار المعتقد في التخلّق بها ثم بحمل جميع الناس على تطْهير عقائدهم حتى يتّحد مبدأ التخلّق فيهم {قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سَواءٍ بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا اللَّه ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللَّه} [آل عمران: 64]. وكان إصلاح الاعتقاد أهمّ ما ابتدأ به الإسلام، وأكثرَ ما تعرّض له؛ وذلك لأنّ إصلاح الفكرة هو مبدأ كلّ إصلاح؛ ولأنّه لا يرجى صح لقوم تلطَّخت عقولهم بالعقائد الضالّة، وخسئت نفوسهم بآثار تلك العقائد المثيرة: خوفاً من لا شَيء، وطمعاً في غير شيء، وإذا صلح الاعتقاد أمكن صلاح الباقي؛ لأنّ المرء إنسان بروحه لا بجسمه. ثم نشأ عن هذا الاعتقاد الإسلامي: عزّة النفس، وأصلة الرأي، وحرية العقل، ومساواة الناس فيما عدا الفضائل. وقد أكثر الإسلام شرح العقائد إكثاراً لا يشبهه فيه دين آخر؛ بل إنّك تنظر إلى كثير من الأديان الصحيحة، فلا ترى فيها من شرح صفات الخالق إلاّ قليلاً.
المظهر الثاني: جمعه بين إصلاح النفوس، بالتزكية، وبين إصلاح نظام الحياة، بالتشريع، في حين كان معظم الأديان لا يتطرّق إلى نظام الحياة بشيء، وبعضها وإن تطرّق إليه إلاّ أنّه لم يوفه حقه، بل كان معظم اهتمامها منصرفاً إلى المواعظ والعبادات، وقد قرن القرآن المصلحتين في غير ما آية قال تعالى: {من عَمِل صالحا من ذكر أ؟؟ أنثى وهو مؤمن فلنحيينَّه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97].
المظهر الثالث: اختصاصه بإقامة الحجة، ومجادلة المخاطبين بصنوف المجادلات وتعليل أحكامه، بالترغيب وبالترهيب، وذلك رعي لمراتب نفوس المخاطبين، فمنهم العالم الحكيم الذي لا يقتنع إلاّ بالحجة والدليل، ومنهم المكابر الذي لا يرعوي إلاّ بالجدل والخطابة، ومنهم المترهّب الذي اعتاد الرغبة فيما عند الله، ومنهم المكابر المعاند، الذي لا يقلعه عن شغبه إلاّ القوارع والزواجر. المظهر الرابع: أنّه جاء بعموم الدعوة لسائر البشر، وهذا شيء لم يسبق في دين قبله قط، وفي القرآن: {قل يأيها الناس إنّي رسول الله إليكم جميعاً} [الأعراف: 158]، وفي الحديث الصحيح: « أعْطِيتُ خمساً لم يُعْطَهُنّ أحَدٌ قبلي فذكر وكانَ الرسول يُبعث إلى قومه خاصة وبُعِثْتُ إلى الناس عامة» وقد ذكر الله تعالى الرسل كلّهم فذكر أنّه أرسلهم إلى أقوامهم. والاختلاف في كون نوح رسولاً إلى جميع أهل الارض، إنّما هو مبْني: على أنّه بعد الطوفان انحصر أهل الارض في أتباع نوح، عند القائلين بعموم الطوفان سائر الارض، ألاَ ترى قوله تعالى: {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه} [الأعراف: 59] وأيَّاماً كان احتمال كون سكّان الارض في عصر نوح هم من ضمّهم وطن نوح، فإن عموم دعوته حاصل غير مقصود.
المظهر الرابع: الدوام ولم يَدّعِ رسول من الرسل أنّ شريعته دائمة، بل ما من رسول، ولا كتاب، إلاّ تجد فيه بشارة برسول يأتي من بعده.
المظهر الخامس: الإقلال من التفريع في الأحكام بل تأتي بأصولها ويُترك التفريع لاستنباط المجتهدين وقد بيّن ذلك أبو إسحاق الشاطبي في تفسير قوله تعالى: {ما فرّطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 38] لتكون الأحكام صالحة لكلّ زمان.
المظهر السادس: أنّ المقصود من وصايا الأديان إمكان العمل بها، وفي أصول الأخلاق أنّ التربية الصحيحة هي التي تأتي إلى النفوس بالحيلولة بينها وبين خواطر الشرور؛ لأنّ الشرور، إذا تَسرَّبت إلى النفوس، تعذّر أو عسر اقتلاعها منها، وكانت الشرائع تحمل الناس على متابعة وصاياها بالمباشرة، فجاء الإسلام يحمل الناس على الخير بطريقتين: طريقة مباشرة، وطريقة سدّ الذرائع الموصلة إلى الفساد، وغالب أحكام الإسلام من هذا القبيل وأحسبها أنّها من جملة ما أريد بالمشتبهات في حديث: « إن الحلال بيّن وإنّ الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس». المظهر السابع: الرأفة بالناس حتى في حملهم على مصالحهم بالاقتصار في التشريع على موضع المصلحة، مع تطلب إبراز ذلك التشريع في صورة ليّنة، وفي القرآن {يريد اللَّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185] وفي الحديث: « بُعثت بالحنيفية السَّمْحَة ولن يشادّ هذا الدين أحد إلاّ غلبه» وكانت الشرائع السابقة تحمل على المتابعة بالشدّة، فلذلك لم تكن صالحة للبقاء؛ لأنّها روعي فيها حال قساوة أمم في عصور خاصة، ولم تكن بالتي يُناسبها ما قُدِّر مصيرُ البشر إليه من رقّة الطباع وارتقاء الأفهام. المظهر الثامن: امتزاج الشريعة بالسلطان في الإسلام، وذلك من خصائصه؛ إذ لا معنى للتشريع إلاّ تأسيس قانون للأمة، وما قيمة قانون لا تحميه القوة والحكومة. وبامتزاج الحكومة مع الشريعة أمكن تعميم الشريعة، واتّحاد الأمة في العمل والنظام. المظهر التاسع: صراحة أصول الدين، بحيث يتكرّر في القرآن ما تُستَقْرَى منه قواطعُ الشريعة، حتى تكونَ الشريعة معصومة من التأويلات الباطلة، والتحريفات التي طرأت على أهل الكتب السابقة، ويزداد هذا بياناً عند تفسير قوله تعالى: {فقل أسلمت وجهي للَّه ومن اتّبعني} [آل عمران: 20]. {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بآيات الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب}. عُطِفَ {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب} على قوله: {إن الذين عند الله الإسلام} للإخبار عن حال أهل الكتاب من سوء تلقّيهم لدين الإسلام، ومن سوء فهمهم في دينهم. وجيء في هذا الإخبار بطريقة مؤذنة بورود سؤال؛ إذ قد جيء بصيغة الحصر: لبيان سبب اختلافهم، وكأنّ اختلافَهم أمر معلوم للسامع. وهذا أسلوب عجيب في الإخبار عن حالهم إخباراً يتضمّن بيان سببه، وإبطال ما يَتراءى من الأسباب غير ذلك، مع إظهار المقابلة بين حال الدِّينِ الذي هم عليه يومئذ من الاختلاف، وبين سلامة الإسلام من ذلك. وذلك أنّ قوله: {إن الدين عند الله الإسلام} قد آذَن بأنّ غيره من الأدين لم يبلغ مرتبة الكمال والصلاحية للعموم، والدوام، قبل التغيير، بلَه ما طرأ عليها من التغيير، وسوء التأويل، إلى يومَ مجيء الإسلام، ليعلم السامعون أنّ ما عليه أهل الكتاب لم يصل إلى أكمل مراد الله من الخلق على أنّه وقع فيه التغيير والاختلاف، وأن سبب ذلك الاختلاف هو البغي بعدما جاءهم العلم، مع التنبيه على أنّ سبب بطلان ما هم عليه يومئذ هو اختلافهم وتغييرهم، ومن جملة ما بدّلوه الآيات الدالة على بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وفيه تنبيه على أنّ الإسلام بعيد عن مثل ما وقعوا فيه من التحريف، كما تقدّم في المظهر التاسع، ومن ثم ذمّ علماؤنا التأويلات البعيدة، والتي لم يَدْعُ إليها داعٍ صريح. وقد جاءت الآية على نظم عجيب يشتمل على معانٍ: منها التحذير من الاختلاف في الدين، أي في أصوله، ووجوب تطلّب المعاني التي لا تناقض مقصد الدين، عبرة بما طرأ على أهل الكتاب من الاختلاف. ومنها التنبيه على أنّ اختلاف أهل الكتاب حصل مع قيام أسباب العلم بالحق، فهو تعريض بأنّهم أساءوا فهم الدين. ومنها الإشارة إلى أنّ الاختلاف الحاصل في أهل الكتاب نوعان: أحدهما اختلاف كل أمة مع الأخرى في صحة دينها كما قال تعالى: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب} [البقرة: 113]، وثانيهما اختلاف كل أمة منهما فيما بينها وافتراقها فرقاً متباينةَ المنازع. كما جاء في الحديث:"اختلفت اليهود على اثنتين وسبعين فرقة" يُحَذِّر المسلمين ممّا صنعوا. ومنها أنّ اختلافهم ناشيء عن بغي بعضهم على بعض. ومنها أنّهم أجمعوا على مخالفة الإسلام والإعراضِ عنه بغياً منهم وحسداً، مع ظهور أحقّيته عند علمائهم وأحبارهم كما قال تعالى: {الذين ءاتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكوننّ من الممترين} [البقرة: 146، 147]، وقال تعالى: {ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق} [البقرة: 109] أي أعرضوا عن الإسلام، وصمّموا على البقاء على دينهم، وودّوا لو يردّونكم إلى الشرك أو إلى متابعة دينهم حسداً على ما جاءكم من الهُدى بعد أن تبيّن لهم أنّه الحق. ولأجل أن يسمح نظم الآية بهذه المعاني، حُذِف متعلِّق الاختلاف في قوله: {اختلف الذين أوتوا الكتاب} ليشمل كلّ اختلاف منهم: من مخالفة بعضهم بعضاً في الدين الواحد، ومخالفة أهل كلّ دين لأهل الدين الآخر، ومخالفة جميعهم للمسلمين في صحّة الدين. وحُذف متعلّق العلم في قوله: {من بعد ما جاءهم العلم} لذلك. وجُعل « بغيا» عقب قوله: « من بعد ما جاءهم العلم» ليتنازعه كلُّ من فعل (اختلف) ومن لفظ (العِلم). وأُخِّر بينَهم عن جميع ما يصلح للتعليق به: ليتنازعه كلّ من فعل (اختلف) وفِعل (جاءَهم) ولفظِ (العِلم) ولفظ (بَغيا). وبذلك تعلم أنّ معنى هذه الآية أوسع معانيَ من معاني قوله تعالى: {وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم للبينات بغيا بينهم} في سورة ا [لبقرة: 213] وقوله: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءتهم البيّنة} في سورة [البيّنة: 4] كما ذكرناه في ذينك الموضعين لاختلاف المقامين. فاختلاف الذين أوتوا الكتاب يشمل اختلافهم فيما بينهم: أي اختلاف أهل كل ملّة في أمور دينها، وهذا هو الذي تشعر بها صيغة اختلف كاختلاف اليهود بعد موسى غيرَ مرة، واختلافِهم بعد سليمانَ إلى مملكتين: مملكة إسرائيل، ومملكة يَهُوذا، وكيف صار لكلّ مملكة من المملكتين تديُّنٌ يخالف تديُّنَ الأخرى، وكذلك اختلاف النصارى في شأن المسيح، وفي رسوم الدين، ويكون قوله: بينهم حالاً لبغيا: أي بغيا متفشيّا بينهم، بأن بغَى كلّ فريق على الآخر. ويشمل أيضاً الاختلاف بيْنهم في أمر الإسلام؛ إذ قال قائل منهم: هو حق، وقال فريق: هو مرسل إلى الأميّين، وكفر فريق، ونافق فريق. وهذا الوجه أوفى مناسبة بقوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام}، ويكون قوله: {بينهم} على هذا وصفا لبغيا: أي بغياً واقعاً بينهم. ومجيء العلم هو الوحي الذي جاءت به رسلهم وأنبياؤُهم، لأنّ كلمة جاء مؤذنه بعلم متلقّى من الله تعالى، يعني أنّ العلم الذي جاءهم كان من شأنه أن يصدّهم عن الاختلاف في المراد، إلاّ أنّهم أساءوا فكانوا على خلاف مراد الله من إرسال الهدى. وانتصب {بغيا} على أنّه مفعول لأجله، وعامل المفعول لأجله: هو الفعل الذي تفرّغ للعمل فيما بعدَ حرف الاستثناء، فالاستثناء كان من أزمان وعلل محذوفة والتقديرُ: ما اختلفوا إلاّ في زمن بعدما جاءهم العلم وما كان إلاّ بغياً بينهم. ولك أن تجعل بغياً منصوباً على الحال من الذين أوتوا الكتاب، وهو وإن كان العامل فيه فعلاً منفياً في اللفظ إلاّ أن الاستثناء المفرّغ جعله في قوه المثبت، فجاء الحال منه عقب ذلك، أي حال كون المختلفين باغين، فالمصدر مؤوّل بالمشتق. ويجوز أن تجعله مفعولاً لأجله من (اختلف) باعتبار كونه صار مثبتاً كما قرّرنا. وقد لمّحت الآية إلى أنّ هذا الاختلاف، والبغي كُفْر، لأنّه أفضى بهم إلى نقض قواعد أديانهم، وإلى نكران دين الإسلام، ولذلك ذيّله بقوله: {ومن يكفر بآيات الله} إلخ. وقولُه: {فإن الله سريع الحساب} تعريض بالتهديد، لأنّ سريع الحساب إنّما يبتدىء بحساب من يكفر بآياته، والحساب هنا كناية عن الجزاء كقوله: {إنْ حسابهم إلاّ على ربي} [الشعراء: 113]. وفي ذكر هذه الأحوال الذميمة من أحوال أهل الكتاب تحذير للمسلمين أن يقعوا في مثل ما وقع فيه أولئك، والمسلمون وإن اختلفوا في أشياء كثيرة لم يكن اختلافهم إلاّ اختلافاً علمياً فرعياً، ولم يختلفوا اختلافاً ينقض أصول دينهم بل غاية الكلّ الوصول إلى الحق من الدين، وخدمة مقاصد الشريعة، فبَنُو إسرائيل عبدوا العجل والرسولُ بين ظهرانيْهم، وعبدوا آلهة الأمم غيرَ مرة، والنصارى عبدوا مريم والمسيح، ونقضوا أصول التوحيد، وادّعوا حلول الخالق في المخلوق. فأما المسلمون لما قال أحدُ أهل التصوّف منهم كلامَاً يوهم الحُلول حكم علماؤهم بقتله...
الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أن الكتاب لم يأت إليهم من بشر مثلهم، إنما من إله واحد قادر، وفي هذا تنبيه لأتباع الديانات السابقة. أي إنكم أيها الأتباع لا تتبعون إلا منهج الله، وحين تتبعون منهج الله الذي جاء به الرسل فأنتم لا تتبعون أحدا من الخلق، لأن أي رسول أرسل إليكم إنما جاء ليبلغكم بمنهج قادم من ربكم، ولم يقل لكم أحد من الرسل إن المنهج قادم من عنده والرسول يحمل نفسه على الطاعة والخضوع للمنهج المنزل عليه قبلكم، وهذه عزة لكم، ولينتبه جميع الخلق أن المنهج الحق دائما قد أخذه الرسل من الله...
ولذلك فنحن نجد أن تعب الناس يتأتى من الجهلاء، لا من الأميين؛ لأن الجاهل هو الذي يجزم بقضية مخالفة للواقع ومناقضة له، أما الأميّ فهو لا يعرف، ويحتاج إلى أن يعرف. وماذا يكون الأمر حين تكون القضية غير مجزوم بها، وتكون نسبة عدم الجزم، مساوية للجزم؟ هنا نقول: إن هذا الأمر هو الشك، وإن رجح أمر الجزم على عدم الجزم فهذا هو الظن، وإن رجح عدم الجزم يكون ذلك هو الوهم...
إن كلمة {بَغْياً بَيْنَهُمْ} يدخل في نطاقها كل موجات الخروج عن منهج الله، والتي نراها في الكون، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطانا المناعة ضد الأمراض النفسية الناشئة عن البغي، مثلما يعطي المعاصرون المصل ضد أمراض البدن التي تفتك بالإنسان، وحتى لا تفاجئنا أمراض البغي، نجد الرسول يعطينا المناعة... فيقول لنا صلى الله عليه وسلم:"البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس" ويحذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك كما في الحديث التالي: فيقول صلى الله عليه وسلم: "البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون". إن الرسول صلى الله عليه وسلم يحذرنا ليوضح لنا أن أهل البغي لهم لجاج في أن يقولوا ويصدروا الفتاوى، وما معنى الإفتاء الذي يحذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل هو مجرد رأي؟ أم هو رأي يأتي من إنسان معروف عنه أنه مشتغل بعلم الله وبالأحكام؟ إن الرسول صلى الله عليه وسلم ينبهنا إلى ذلك مناعة لنا. فقد يصبح أصحاب الحق قلة، وليس لهم نصيب في إيصال رأيهم للناس، أو أن الذين يملكون الكلمة الإعلامية ليسوا مع أصحاب الحق بل في جانب رجل يساير الباطل أو الركب...
وهنا نرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطانا المناعة حتى لا ييأس المتمسكون بالحق، فأمر الدين لن يمر رخاء، أو بسلام دائم، بل سنجد قوما يفسرون أحكام الدين بغيا بينهم، ويلوون الأشياء؛ لذلك أوضح لنا أن المؤمن حَكَمٌ في نفسه، ويحذرنا من الذين يفتون بالبغي، إن الإفتاء يحتاجه الناس من الذي يعلم، ولذلك جاءت كلمة "يستفتونك "أكثر من مرة في القرآن الكريم، لأن الذين يطلبون الفتوى هم الذين يحتاجون إلى توضيح لأمر ما؛ لأنهم مشغولون بقضية الإيمان، ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يحذرنا من الذين يحاولون إلقاء الفتاوى، ويحذر كل مؤمن من أن يستمع لكل فتوى. ويقول الحق: {وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ}. إذن فمن هو الذي يكفر بآيات الله؟ وفي أي مجال؟ إن الكفر بآيات الله هنا محدد في الاختلاف، وفي البغي بينهم، أي طلب الاستعلاء بغير حق، وسمى الحق كل ذلك" كفرا "والمراد منه هنا التنبيه لنا ألا نستر أحكام الله بالاختلاف أو البغي، وجاء التحذير في تذييل الآية بقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}. فإياك أن تستطيل أمر الجزاء وتقول: سأستمتع بنتيجة البغي والاختلاف لخدمة من يهمهم أمر الاختلاف، ويهمهم أمر البغي، لأنك تريد أن تتعجل أشياء تظن أنها نافعة لك، لكن ها هو ذا الحق سبحانه يحذرك أن تستبطئ حسابه، لماذا؟ لأنه من الجائز أن يأتي لك الحساب من الله في الدنيا، وهب أن الله لم يبتل مثل هذا الإنسان ببلاء كبير في الدنيا فإن هذا الإنسان سيكون له الحساب العسير في الآخرة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسلامُ} ويتمثل في الإسلام لله في كل شيء، بحيث يفتح الإنسان قلبه لله، ليواجه الأشياء من هذا المنطلق، الذي يدعوه إلى أن يجعل حياته كلها لله في ما يأمره به أو ينهاه عنه أو يقوده إليه من أهداف كبيرة في الحياة، وبذلك لا بد له من أن ينفتح على كل الرسالات ويصدِّق كل رسالة، فلا يخضع لعصبية عمياء تحجب عنه إشراقة الحق فتؤدي به إلى العناد والاستكبار والبعد عن الطريق المستقيم، فينكر الحقائق الواضحة التي لا سبيل إلى إنكارها، ويتنكر للبيّنات التي لا مجال للشك فيها. وهذا هو الذي يشمل كل ما جاء به الرسل، فإن كل رسالة تمثل الخط الذي يريد الله للناس أن يسيروا عليه في مرحلتها، الأمر الذي يجعل الإسلام متمثلاً فيها، لأن السير عليها هو مصداق للاستسلام والخضوع لإرادة الله سبحانه، أمّا إذا انتهت المرحلة لتبدأ مرحلة جديدة من خلال رسالةٍ جديدةٍ، فإن الإسلام يتمثل في السير على خط هذه المرحلة الجديدة، ويكون البقاء في الخط الأول منافياً للإسلام في مدلوله الروحي والعملي. فالإسلام هو صفة كل الأديان، ولكن في نطاق المرحلة التي يتسع لها كل دين في ما حدد الله له من مراحل زمنية محدودة...
اختلف أهل الكتاب فضلّوا {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} فقد ابتعدوا عن روحية الإسلام واستسلموا للعوامل الذاتية التي تتحكم في تعاملهم مع خط العقيدة والعمل، فانطلقوا بروحية البغي والعدوان يثيرون الخلافات التي تفرق الناس عن الحق، من دون أن يكون لهم أساس من شبهة أو قاعدةٌ من علم، بل القضية على العكس من ذلك، فهم يعرفون الحق على أساس العلم الذي يملكونه في ما يعرفونه من كتاب الله الذي أنزله الله على موسى وعيسى (ع). وذلك هو أساس التفرق في ما يتفرق به أهل الأديان وأهل المذاهب في الدين الواحد، فهم لا يسلمون فكرهم وعقلهم لله عندما يتناقشون، ليجدوا الانفتاح الذي لا مجال معه للانغلاق على روح العصبية العمياء، ولو أسلموا أنفسهم لله، لانطلقوا إلى الحقيقة في روح التعاون على فهمها وإزالة الغموض عنها، بحيث يتسابقون إلى اللقاء عليها بدلاً من التسابق إلى الوقوف عند الحدود التي كانوا فيها من دون أية رغبة في التقدم إلى موقف الآخر أو إلى منتصف الطريق حيث تنتظرهم الحقيقة هناك. وبذلك، فإن المشكلة في الخلافات الدينية في أغلب الحالات روحية ونفسيّة أكثر منها فكرية وعلميّة. ونحن نعرف أن الوصول إلى القناعات المشتركة يفرض إزالة الحواجز التي تمنع من اللقاء، وتدفع إلى التعصب والعناد، ولن يكون ذلك إلا إذا فتح الإنسان قلبه لله، في روحية المؤمنين الذين يقولون: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]...
{وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ} لأن الكفر لا ينطلق من قاعدةٍ فكريةٍ يعذر فيها الإنسان، بل ينطلق من الجهل والبغي والعناد الذي يدفعه إلى إنكار آيات الله في وحيه الذي أنزله على رسله، وشرائعه التي ألقاها إلى أنبيائه وألهمهم تفاصيلها، وربما كان من هذه الآيات ما ورد في الكتب السماوية السابقة من أوصاف النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعلاماته الدالة على نبوّته، مما بقي في تراث اليهود والنصارى، فقد أنكرها هؤلاء بغياً وحسداً وحفاظاً على أوضاعهم وامتيازاتهم التي حصلوا عليها بفعل التراكمات التاريخية في حركة السلطة والرئاسة في مواقعهم المختلفة. ولذلك، فإن الله سيحاسبه حساباً عسيراً ليعرِّفه فقدانه للحجة في أسرع وقت، وفي ذلك إيحاءٌ بأن على الإنسان أن يركز قناعاته على أساس متين من الحجة والبرهان ليستطيع الدفاع عنها أمام الله عندما يقف للحساب بين يديه {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [النحل: 111]...