{ 30-31 } { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ * وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ }
يخبر تعالى ، أنه ما أصاب العباد من مصيبة في أبدانهم وأموالهم وأولادهم وفيما يحبون ويكون عزيزا عليهم ، إلا بسبب ما قدمته أيديهم من السيئات ، وأن ما يعفو اللّه عنه أكثر ، فإن اللّه لا يظلم العباد ، ولكن أنفسهم يظلمون { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } وليس إهمالا منه تعالى تأخير العقوبات ولا عجزا .
لما تضمنت المنةُ بإنزال الغيث بعدَ القُنوط أن القوم أصابهم جهد من القحط بلغ بهم مبلغ القنوط من الغيث أعقبت ذلك بتنبيههم إلى أن ما أصابهم من ذلك البؤس هو جزاء على ما اقترفوه من الشرك تنبيهاً يبعثهم ويبعث الأمة على أن يلاحظوا أحوالهم نحو امتثال رضى خالقهم ومحاسبة أنفسهم حتى لا يحسبوا أن الجزاء الذي أُوعدوا به مقصور على الجزاء في الآخرة بل يعلموا أنه قد يصيبهم الله بما هو جزاء لهم في الدنيا ، ولما كان ما أصاب قريشاً من القحط والجوع استجابةً لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم عليهم كما تقدم ، وكانت تلك الدعوة ناشئة على ما لاقوْه به من الأذى ، لا جرم كان ما أصابهم مسبَّباً على ما كسبت أيديهم .
فالجملة عطف على جملة { وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا } [ الشورى : 28 ] ، وأطلق كسب الأيدي على الأفعال والأقواللِ المنكرة على وجه المجاز بعلاقة الإطلاق ، أي بما صدر منكم من أقوال الشرك والأذَى للنبيء صلى الله عليه وسلم وفعللِ المُنكرات الناشئة عن دين الشرك .
والخطاب للمشركين ابتداء لأنهم المقصود من سياق الآيات كلها وهم أوْلى بهذه الموعظة لأنهم كانوا غير مؤمنين بوعيد الآخرة ويشمل المؤمنين بطريق القياس وبما دل على شمول هذا الحكم لهم من الأخبار الصحيحة ومن آيات أخرى .
والباء للسببية ، أي سبب ما أصابكم من مصيبة هو أعمالكم . وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر { بما كسبت أيديكم } على أن ( مَا ) موصولة وهي مبتدأ . و { بما كسبت أيديكم } ظَرف مستقر هو خبر المبتدأ . وكذلك كتبت في مصحف المدينة ومصحف الشام وقرأ الباقون { فبما كسبت أيديكم } بفاء قبل الباء وكذلك كتبت في مصحف البصرة ومصحف الكوفة ، على أن ( مَا ) متضمنة معنى الشرط فاقترن خبرها بالفاء لذلك ، أو هي شرطية والفاء رابطة لجواب الشرط ويكون وقوع فعل الشرط ماضياً للدلالة على التحقق . و { مِن } بيانية على القراءتَيْن لما في الموصول واسم الشرط من الإبهام .
والمصيبة : اسم للحادثة التي تصيب بضُرّ ومكروه ، وقد لزمتها هاء التأنيث للدلالة على الحادثة فلذلك تنوسيت منها الوصفية وصارت اسماً للحادثة المكروهة .
فقراءة الجمهور تُعيِّنُ معنى عموم التسبب لأفعالهم فيما يصيبهم من المصائب لأن ( ما ) في هذه القراءةِ إما شرطية والشرط دال على التسبب وإمّا موصولة مشبَّهة بالشرطية ، فالموصولية تفيد الإيماء إلى علة الخبر ، وتشبيهها بالشرطية يفيد التسبب . وقراءةُ نافع وابن عامر لا تعيِّن التسبب بل تُجوزه لأن الموصول قد يراد به واحد معيَّن بالوصف بالصلة ، فتحمل على العموم بالقرينة وبتأييد القراءة الأخرى لأن الأصل في اختلاف القراءات الصحيحة اتحاد المعاني . وكلتا القراءتين سواء في احتمال أن يكون المقصود بالخطاب فريقا معيناً وأن يكون المقصود به جميع الناس ، وكذلك في أن يكون المراد مصائب معيّنة حصلت في الماضي ، وأن يراد جميع المصائب التي حصلت والتي تحصل .
ومعنى الآية على كلا التقديرين يفيد : أن مما يصيب الناس من مصائب الدنيا ما هو جزاء لهم على أعمالهم التي لا يرضاها الله تعالى كمثل المصيبة أو المصائب التي أصابت المشركين لأجل تكذيبهم وأذاهم للرسول صلى الله عليه وسلم .
ثم إن كانت ( مَا ) شرطية كانت دلالتها على عموم مفهومها المبين بحرف { مِن } البيانية أظهر لأن شرطها الماضي يصح أن يكون بمعنى المستقبل كما هو كثير في الشروط المصوغة بفعل المضيّ والتعليقُ الشرطي يمحّضها للمستقبل ، وإن كانت ( مَا ) موصولة كانت دلالتها محتملة للعموم وللخصوص لأن الموصول يكون للعهد ويكون للجنس .
وأيَّاً مَّا كان فهو دال على أن من المصائب التي تصيب الناس في الدنيا ما سلطه الله عليهم جزاء على سوء أعمالهم وإذا كان ذلك ثابتاً بالنسبة لأناس معيَّنين كان فيه نِذارة وتحذير لغيرهم ممن يفعل من جنس أفعالهم أن تحل بهم مصائب في الدنيا جزاء على أعمالهم زيادة في التنكيل بهم إلا أن هذا الجزاء لا يطّرد فقد يجازي الله قوماً على أعمالهم جزاء في الدنيا مع جزاء الآخرة ، وقد يترك قوماً إلى جزاء الآخرة ، فجزاء الآخِرةِ في الخير الشر هو المطَّرد الموعود به ، والجزاء في الدنيا قد يحصل وقد لا يحصل كما قال تعالى : { ويعفو عن كثير } كما سنبينه .
وهذا المعنى قد تكرر ذكره في آيات وأحاديث كثيرة بوجه الكلية وبوجه الجزئية ، فَمِمّا جاء بطريق الكلية قوله تعالى : { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعَّمه فيقول ربي أكرمَني وأما إذا ما ابتلاه فقَدَر عليه رزقه فيقول ربي أهانني كَلاَّ بل لا تكرمون اليتيم ولا تحضّون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلاً لَمًّا } [ الفجر : 15 19 ] الآية ، فقوله : { بل لا تكرمون اليتيم } مرتب على قوله : { كَلاَّ } المرتب على قوله : { فيقول ربّي أكرمنِ } وقولِه : { فيقول ربي أهانني } ، فدل على أن الكرامة والإهانة إنما تسببا على عدم إكرام اليتيم والحضّ على طعام المسكين ، وقال تعالى : { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } [ الروم : 41 ] .
وفي « سُنن الترمذي » : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تصيب عبداً نَكبة فما فوقها أو دونَها إلا بذنْب وما يعفو الله عنه أكثر " . وهو ينظر إلى تفسير هذه الآية ، وأما ما جاء على وجه الجزئية فمنه قوله تعالى حكاية عن نوح { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفّاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويُمْدِدكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً } [ نوح : 10 12 ] وقوله حكاية عنه { أن اعبُدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى } في سورة نوح ( 3 ، 4 ) .
وقولُه خطاباً لبني إسرائيل { فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا } الآية في سورة البقرة ( 85 ) ، وقوله { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } [ الأعراف : 152 ] وقال حكاية عن موسى { أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا } [ الأعراف : 155 ] { وإذ تأذّن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب } في الأعراف ( 167 ) ، وقال في فرعون { فأخذه الله نكال الآخرة والأولى } [ النازعات : 25 ] ، وقال في المنافقين { أو لا يرون أنهم يُفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذَّكرون } في براءة ( 126 ) .
وفي حديث الترمذي قال النبي نقل الأقدام إلى الجماعات ، وإسباغ الوضوء في المكروهات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، من يحافظ عليهن عاش بخير ومات بخير . وفي باب العقوبات من آخر سنن ابن ماجه عن النبي : وإن الرجل ليُحْرم الرزق بالذنب يصيبه .
وفي « البخاري » قال خبّاب بن الأرتِّ « إنّا آمنا بالله وجاهدنا في سبيله فوجب أجرنا على الله فمِنّا من ذهب لم يأخذ من أجره شيئاً منهم مصعب بن عُمير ، مات وما ترك إلا . . . كنا إذا غطّينا بها رأسه بدَت رجلاه وإذا غطّينا رجليه بدا رأسه فأمرنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي بها رأسه ونضع على رجليه من الإذخر ، ومنهم من عُجّلت له ثمرته فهو يهدبُها » .
وإذا كانت المصيبة في الدنيا تكون جزاء على فعل الشر فكذلك خيرات الدنيا قد تكون جزاء على فعل الخير قال تعالى : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } [ يونس : 62 ، 64 ] ، وقال حكاية عن إخوة يوسف { قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كُنّا لخاطئين } [ يوسف : 91 ] أي مُذنبين ، أي وأنت لم تكن خاطئاً ، وقال : { فآتاهم الله ثوابَ الدنيا وحسنَ ثواب الآخرة } في آل عمران ( 148 ) وقال : { وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يَبْلُغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك } في سورة الكهف ( 82 ) ، وقال : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليسْتَخلِفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم } إلى قوله : { وليبدلَنّهم من بعد خَوفهم أمناً } في سورة النور ( 55 ) .
وهذا كله لا ينقض الجزاء في الآخرة ، فمن أنكروا ذلك وقالوا : إن الجزاء إنما يحصل يوم القيامة لقوله تعالى : { ملك يوم الدين } [ الفاتحة : 4 ] أي يوم الجزاء وإنما الدنيا دار تكليف والآخرة دار الجزاء ، فالجواب عن قولهم هو : أنه ليس كون ما يصيب من الشر والخير في الدنيا جزاء على عمل بمطّرد ، ولا متعيّن له فإن لذلك أسباباً كثيرة وتدفعه أو تدفع بعضاً منه جوابر كثيرة والله يقدّر ذلك استحقاقاً ودفعاً ولكنه مما يزيده الله به الجزاء إن شاء .
وقد تصيب الصالحين نكبات ومصائب وآلام فتكون بلوَى وزيادة في الأجر ولِما لا يعلمه إلا الله ، وقد تصيب المسرفين خيرات ونعم إمهالاً واستدراجاً ولأسباب غير ذلك مما لا يحصيه إلا الله وهو أعلم بخفايا خلقه ونواياهم ومقادير أعمالهم من حسنات وسيئات ، واستعدادِ نفوسهم وعقولهم لمختلف مصادر الخير والشر قال تعالى : { ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولّوا وهم معرضون } [ الأنفال : 23 ] .
ومما اختبط فيه ضعفاء المعرفة وقُصَّار الأنظار أنْ زَعَم أهلُ القول بالتناسخ أن هذه المصائب التي لا نرى لها أسباباً والخيرات التي تظهر في مواطن تحفّ بها مقتضِيات الشرور إنما هي بسبب جزاء الأرواح المودعة في الأجسام التي نشاهدها على ما كانت أصابته من مقتضيات الأحوال التي عرضت لها في مَرْآنا قبل أن توضع في هذه الأجساد التي نراها ، وقد عَمُوا عما يرد على هذا الزعم من سؤال عن سبب إيداع الأرواح الشريرة في الأجساد الميسرة للصالحات والعكس فبئس ما يَفترون .
فقوله : { ويعفو عن كثير } عطف على جملة { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } ، وضمير { يعفو } عائد إلى ما عاد إليه ضمير { ومِن آياته خَلْق السماوات } [ الشورى : 29 ] . وهذا يشير إلى ما يتراءى لنا من تخلف إصابة المصيبة عن بعض الذين كسبت أيديهم جرائم ، ومن ضد ذلك مما تصيب المصائب بعض الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وهو إجمال يبيّنُه على الجملة أن ما يعلمه الله من أحوال عباده وما تغلب من حسناتهم على سيئاتهم ، وما تقتضيه حكمة الله من إمهال بعض عباده أو من ابتلاء بعض المقربين ، وتلك مراتب كثيرة وأحوال مختلفة تتعارض وتتساقط والموفَّق يبحث عن الأسباب فإن أعجَزته فوّض العلم إلى الله .
والمعنى : أنه تعالى يعفو ، أي يصفح فلا يصيب كثيراً من عباده الذين استحقّوا جزاء السوء بعقوبات دنيوية لأنه يعلم أن ذلك أليق بهم . فالمراد هنا : العفو عن المؤاخذة في الدنيا ولا علاقة لها بجزاء الآخرة فإن فيه أدلة أخرى من الكتاب والسنة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما أصابكم من مصيبة} يعني المؤمنين من بلاء الدنيا وعقوبة من اختلاج عرق، أو خدش عود، أو نكبة حجر، أو عثرة قدم، فصاعدا إلا بذنب، فذلك قوله: {وما أصابكم من مصيبة} {فبما كسبت أيديكم} من المعاصي.
{ويعفوا عن كثير}، يعني ويتجاوز عن كثير من الذنوب، فلا يعاقب بها في الدنيا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وما يصيبكم أيها الناس من مصيبة في الدنيا في أنفسكم وأهليكم وأموالكم.
"فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ": فإنما يصيبكم ذلك عقوبة من الله لكم بما اجترمتم من الآثام فيما بينكم وبين ربكم، ويعفو لكم ربكم عن كثير من إجرامكم، فلا يعاقبكم بها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل ما ذكر من المصيبة التي تُصيبهم: المصيبة التي تعمّ الخلق جميعا ممن كان منهم الزّلة، وما ذكر من كسب اليد وممن لم يكن منهم كسب اليد من الزّلة والمعصية، من نحو الجدب والقحط وغلبة الأعداء وغير ذلك من الأشياء التي تعمّ الخلائق ممن كان منهم الجناية وممن لم يكن من الصغار والدوابّ والأبرار والأخيار. ويكون ما أصاب ممن كان ذلك منه، واستوجبه تنبيها لهم وموعظة أو كفارة لما كان منهم من كسب اليد وما أصاب ذلك ممن لم يكن منهم ذلك من الصغار والأخيار، فذلك في الحكمة. وهو يخرّج على وجهين:
أحدهما: يصيب ذلك لهم ابتلاء بشيء سبق منهم؛ ليُعلم أن ما يعطيهم من السلامة والصحة والحسنات والخيرات كان فضلا منه، وهم عبيده وإماؤه ومُلكه، إن شاء أهلكهم، وإن شاء أبقاهم.
والثاني: يفعل بهم ما ذكر، وإن لم يسبق منهم ما ذكر من كسب اليد والزّلة لعِوض، يعوّضهم في الآخرة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا تحقَّق العبدُ بهذه الآية فإنه إذا أصابته شظيةٌ أو حالةٌ مما يسوءُه، وعلِمَ أن ذلك جزاءٌ له، وعقابٌ على ما بَدَرَ منه من سوءِ الأدب لاستحيى بخجلته مِنْ فِعْلِه، ولَشغَلَه ذلك عن رؤية الناس، فلا يحاول أن ينتقمَ منهم أو يكافئَهم أو يدعوَ عليهم وإنما يشغله تلافي ما بَدَرَ منه من سوءِ الفعلِ عن محاولة الانتصاف لنفسه ممن يتسلَّط عليه من الخَلْق.. تاركاً الأمرَ كلَّه لربِّه.
ويقال: إذا كَثُرَت الأسبابُ من البلايا على العبد، وتوالى عليه ذلك.. فَلْيُفَكِرْ في أفعاله المذمومة.. كم يحصل منه حتى يبلغَ جزاء ما يفعله -مع العفو الكثير- هذا المبلغ؟! فعند ذلك يزداد حُزْنُه وتأسُّفُه؛ لِعِلْمِه بكثرة ذنوبه ومعاصيه...
المراد بهذه المصائب الأحوال المكروهة نحو الآلام والأسقام والقحط والغرق والصواعق وأشباهها، واختلفوا في نحو الآلام أنها هل هي عقوبات على ذنوب سلفت أم لا؟ منهم من أنكر ذلك لوجوه:
الأول: قوله تعالى: {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت} بين تعالى أن الجزاء إنما يحصل في يوم القيامة، وقال تعالى في سورة الفاتحة {مالك يوم الدين} أي يوم الجزاء، وأطبقوا على أن المراد منه يوم القيامة.
والثاني: أن مصائب الدنيا يشترك فيها الزنديق والصديق، وما يكون كذلك امتنع جعله من باب العقوبة على الذنوب، بل الاستقراء يدل على أن حصول هذه المصائب للصالحين والمتقين أكثر منه للمذنبين، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «خص البلاء بالأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل».
الثالث: أن الدنيا دار التكليف، فلو جعل الجزاء فيها لكانت الدنيا دار التكليف ودار الجزاء معا وهو محال.
وأما القائلون بأن هذه المصائب قد تكون أجزية على الذنوب المتقدمة، فقد تمسكوا أيضا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: «لا يصيب ابن آدم خدش عود ولا غيره إلا بذنب أو لفظ» هذا معناه وتمسكوا أيضا بهذه الآية، وتمسكوا أيضا بقوله تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات} وتمسكوا أيضا بقوله تعالى بعد هذه الآية {أو يوبقهن بما كسبوا} وذلك تصريح بأن ذلك الإهلاك كان بسبب كسبهم، وأجاب الأولون عن التمسك بهذه الآية، فقالوا إن حصول هذه المصائب يكون من باب الامتحان في التكليف، لا من باب العقوبة كما في حق الأنبياء والأولياء، ويحمل قوله {فبما كسبت أيديكم} على أن الأصلح عند إتيانكم بذلك الكسب إنزال هذه المصائب عليكم، وكذا الجواب عن بقية الدلائل.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وما أصابكم} واجههم بالخطاب زيادة في تقريب الطائع وتبكيت العاصي، وعم بقوله: {من مصيبة} وأخبر عن المبتدأ بقوله: {فبما}... أي كائن بسبب الذي... ولما كانت النفوس مطبوعة على النقائض، فهي لا تنفك عنها إلا بمعونة من الله شديدة، كان عملها كله أو جله عليها، فعبر بالفعل المجرد إشارة إلى ذلك فقال:
ولما كان العمل غالباً باليد قال: {أيديكم} أي من الذنوب، فكل نكد لاحق إنما هو بسبب ذنب سابق أقله التقصير، روى ابن ماجة في سننه وابن حبان في صحيحه -والحاكم واللفظ له- وقال: صحيح الإسناد -عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه" فالآية داعية لكل أحد إلى المبادرة عند وقوع المصيبة إلى محاسبة النفس ليعرف من أين جاء تقصيره، فيبادر إلى التوبة عنه والإقبال على الله لينقذ نفسه من الهلكة...
ولما ذكر عدله، أتبعه فضله فقال: {ويعفو عن كثير} ولولا عفوه وتجاوزه لما ترك على ظهرها من دابة ويدخل في هذا ما يصيب الصالحين لإنالة درجات وفضائل وخصوصيات لا يصلون إليها إلا بها؛ لأن أعمالهم لم تبلغها فهي خير واصل من الله لهم..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما تضمنت المنةُ بإنزال الغيث بعدَ القُنوط أن القوم أصابهم جهد من القحط بلغ بهم مبلغ القنوط من الغيث أعقبت ذلك بتنبيههم إلى أن ما أصابهم من ذلك البؤس هو جزاء على ما اقترفوه من الشرك تنبيهاً يبعثهم ويبعث الأمة على أن يلاحظوا أحوالهم نحو امتثال رضى خالقهم ومحاسبة أنفسهم حتى لا يحسبوا أن الجزاء الذي أُوعدوا به مقصور على الجزاء في الآخرة بل يعلموا أنه قد يصيبهم الله بما هو جزاء لهم في الدنيا، ولما كان ما أصاب قريشاً من القحط والجوع استجابةً لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم عليهم كما تقدم، وكانت تلك الدعوة ناشئة على ما لاقوْه به من الأذى، لا جرم كان ما أصابهم مسبَّباً على ما كسبت أيديهم.
فالجملة عطف على جملة {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا} [الشورى: 28]
وأطلق كسب الأيدي على الأفعال والأقوالِ المنكرة على وجه المجاز بعلاقة الإطلاق، أي بما صدر منكم من أقوال الشرك والأذَى للنبيء صلى الله عليه وسلم وفعلِ المُنكرات الناشئة عن دين الشرك.
والخطاب للمشركين ابتداء لأنهم المقصود من سياق الآيات كلها وهم أوْلى بهذه الموعظة لأنهم كانوا غير مؤمنين بوعيد الآخرة ويشمل المؤمنين بطريق القياس وبما دل على شمول هذا الحكم لهم من الأخبار الصحيحة ومن آيات أخرى...
وأيَّاً مَّا كان فهو دال على أن من المصائب التي تصيب الناس في الدنيا ما سلطه الله عليهم جزاء على سوء أعمالهم وإذا كان ذلك ثابتاً بالنسبة لأناس معيَّنين كان فيه نِذارة وتحذير لغيرهم ممن يفعل من جنس أفعالهم أن تحل بهم مصائب في الدنيا جزاء على أعمالهم زيادة في التنكيل بهم إلا أن هذا الجزاء لا يطّرد فقد يجازي الله قوماً على أعمالهم جزاء في الدنيا مع جزاء الآخرة، وقد يترك قوماً إلى جزاء الآخرة، فجزاء الآخِرةِ في الخير والشر هو المطَّرد الموعود به، والجزاء في الدنيا قد يحصل وقد لا يحصل كما قال تعالى: {ويعفو عن كثير} كما سنبينه. وهذا المعنى قد تكرر ذكره في آيات وأحاديث كثيرة بوجه الكلية وبوجه الجزئية، فَمِمّا جاء بطريق الكلية قوله تعالى: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعَّمه فيقول ربي أكرمَني وأما إذا ما ابتلاه فقَدَر عليه رزقه فيقول ربي أهانني كَلاَّ بل لا تكرمون اليتيم ولا تحضّون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلاً لَمًّا} [الفجر: 15 19] الآية،... وأما ما جاء على وجه الجزئية فمنه قوله تعالى حكاية عن نوح {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفّاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويُمْدِدكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً} [نوح: 10 12] وقوله حكاية عنه {أن اعبُدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى} في سورة نوح (3، 4). والمعنى: أنه تعالى يعفو، أي يصفح فلا يصيب كثيراً من عباده الذين استحقّوا جزاء السوء بعقوبات دنيوية؛ لأنه يعلم أن ذلك أليق بهم. فالمراد هنا: العفو عن المؤاخذة في الدنيا ولا علاقة لها بجزاء الآخرة فإن فيه أدلة أخرى من الكتاب والسنة...