{ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } أي : مائدة فيها طعام ، وهذا ليس منهم عن شك في قدرة الله ، واستطاعته على ذلك . وإنما ذلك من باب العرض والأدب منهم .
ولما كان سؤال آيات الاقتراح منافيا للانقياد للحق ، وكان هذا الكلام الصادر من الحواريين ربما أوهم ذلك ، وعظهم عيسى عليه السلام فقال : { اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فإن المؤمن يحمله ما معه من الإيمان على ملازمة التقوى ، وأن ينقاد لأمر الله ، ولا يطلب من آيات الاقتراح التي لا يدري ما يكون بعدها شيئا .
جملة : { إذ قال الحواريّون } يجوز أن تكون من تمام الكلام الذي يكلّم الله به عيسى يومَ يجمع الرسل ، فيكون { إذ } ظرفا متعلّقاً بفعل { قالوا آمنّا } [ المائدة : 111 ] فيكون ممّا يذكر الله به عيسى يوم يجمع الرسل ، فحكي على حسب حصوله في الدنيا وليس ذلك بمقتض أنّ سؤالهم المائدة حصل في أول أوقات إيمانهم بل في وقت آخر { قالوا آمنّا واشهد بأنّنا مسلمون } [ المائدة : 111 ] ؛ فإنّ قولهم { آمنّا } قد يتكرّر منهم بمناسبات ، كما يكون عند سماعهم تكذيب اليهود عيسى ، أو عندما يشاهدون آيات على يد عيسى ، أو يقولونه لإعادة استحضار الإيمان شأن الصدّيقيين الذين يحاسبون أنفسهم ويصقلون إيمانهم فيقولون في كلّ معاودة . آمنّا واشهد بأنّنا مسلمون . وأمّا ما قرّر به « الكشاف » ومتابعوه فلا يحسن تفسير الكلام به .
ويجوز أن يكون جملة : { إذ قال الحواريّون } ابتدائية بتقدير : اذكر ، على أسلوب قوله تعالى { إذْ قال موسى لأهله إنّي آنست ناراً } في سورة النمل ( 7 ) ، فيكون الكلام تخلّصاً إلى ذكر قصّة المائدة لمناسبة حكاية ما دار بين عيسى وبين الحواريّين في قوله تعالى : { وإذ أوحيت إلى الحواريّين أن آمنوا بي وبرسولي } [ المائدة : 111 ] وابتدأوا خطابهم عيسى بندائه باسمه للدلالة على أنّ ما سيقولونه أمر فيه اقتراح وكلفة له ، وكذلك شأن من يخاطب من يتجشّم منه كلفة أن يطيل خطابه طلباً لإقبال سمعه إليه ليكون أوعى للمقصود .
وجرى قوله تعالى : { هل يستطيع ربّك } على طريقة عربية في العرض والدعاء ، يقولون للمستطيع لأمر : هل تستطيع كذا ، على معنى تطلّب العذر له إن لم يجبك إلى مطلوبك وأنّ السائل لا يحبّ أن يكلّف المسؤول ما يشقّ عليه ، وذلك كناية فلم يبق منظوراً فيه إلى صريح المعنى المقتضي أنّه يشكّ في استطاعة المسؤول ، وإنّما يقول ذلك الأدنى للأعلى منه ، وفي شيء يعلم أنه مستطاع للمسؤول ، فقرينة الكناية تحقّقُ المسؤول أنّ السائل يعلم استطاعته . ومنه ما جاء في حديث يحيى المازني « أنّ رجلاً قال لعبد الله بن زيد : أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله يتوضّأ » . فإنّ السائل يعلم أنّ عبد الله بن زيد لا يشقّ عليه ذلك . فليس قول الحواريّين المحكي بهذا اللفظ في القرآن إلاّ لفظاً من لغتهم يدلّ على التلطّف والتأدّب في السؤال ، كما هو مناسب أهل الإيمان الخالص . وليس شكّاً في قدرة الله تعالى ولكنّهم سألوا آية لزيادة اطمئنان قلوبهم بالإيمان بأن ينتقلوا من الدليل العقلي إلى الدليل المحسوس . فإنّ النفوس بالمحسوس آنس ، كما لم يكن سؤال إبراهيم بقوله { ربّ أرني كيف تحيي الموتى } [ البقرة : 260 ] شكّاً في الحال . وعلى هذا المعنى جرى تفسير المحققين مثل ابن عطية ، والواحدي ، والبغوي خلافاً لما في « الكشاف » .
وقرأ الجمهور : { يستطيع } بياء الغيبة ورفع { ربُّك } .
وقرأه الكسائي { هل تَستطيع ربَّك } بتاء المخاطب ونصب الباء الموحّدة من قوله { ربّك } على أنّ { ربّك } مفعول به ، فيكون المعنى هل تسأل لنا ربّك ، فعبّر بالاستطاعة عن طلب الطاعة ، أي إجابة السؤال . وقيل : هي على حذف مضاف تقديره هل تستطيع سؤال ربّك ، فأقيم المضاف إليه مُقام المضاف في إعرابه . وفي رواية الطبري عن عائشة قالت : كان الحواريّون أعلم بالله عزّ وجل من أن يقولوا : هل يستطيع ربّك ، ولكن قالوا : هل تستطيع ربّك . وعن معاذ بن جبل أقرأنا النبي { هل تستطيع ربّك } .
واسم { مائدة } هو الخوان الموضوع عليه طعام ، فهو اسم لمعنى مركّب يدلّ على طعامٍ وما يوضع عليه . والخِوان بكسر الخاء وضمّها تخت من خشب له قوائم مجعول ليوضع عليه الطعام للأكل ، اتّفقوا على أنّه معرّب . قال الجواليقي : هو أعجمي . وفي حديث قتادة عن أنس قال : ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان قطّ ، ولا في سُكُرُّجَة ، قال قتادة : قلت لأنس : فعلاَم كنتم تأكلون قال : على السُّفَر ، وقيل : المائدة اسم الطعام ، وإن لم يكن في وعاء ولا على خِوان . وجزم بذلك بعض المحقّقين من أهل اللغة ، ولعلّه مجاز مرسل بعلاقة المحلّ . وذكر القرطبي أنّه لم تكن للعرب موائد إنّما كانت لهم السفرة . وما ورد في الحديث من قول ابن عباس في الضبّ : لو كان حراماً ما أُكل على مائدة رسول الله ، إنّما يعني به الطعام الموضوع على سفرة . واسم السفرة غلب إطلاقه على وعاء من أديم مستدير له معاليق ليرفع بها إذا أريد السفر به . وسمّيت سفرة لأنّها يتّخذها المسافر . وإنّما سأل الحواريّون كون المائدة منزّلة من السماء لأنّهم رغبوا أن تكون خارقة للعادة فلا تكون ممّا صنع في العالم الأرضي فتعيّن أن تكون من عالم علوي .
وقول عيسى حين أجابهم { اتّقوا الله إن كنتم مؤمنين } أمر بملازمة التقوى وعدم تزلزل الإيمان ، ولذلك جاء بِ { إن } المفيدة للشكّ في الإيمان ليعلم الداعي إلى ذلك السؤال خشية أن يكون نشأ لهم عن شكّ في صدق رسولهم ، فسألوا معجزة يعلمون بها صدقه بعد أن آمنوا به ، وهو قريب من قوله تعالى لإبراهيم المحكي في قوله : { قال أو لم تؤمن } ، أي ألم تكن غنيّاً عن طلب الدليل المحسوس . فالمراد بالتقوى في كلام عيسى ما يشمل الإيمان وفروعه . وقيل : نهاهم عن طلب المعجزات ، أي إن كنتم مؤمنين فقد حصل إيمانكم فما الحاجة إلى المعجزة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك}: هل يقدر على أن يعطيك ربك إن سألته {أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله}، فلا تسألوه البلاء، {إن كنتم مؤمنين}، فإنها إن نزلت ثم كذبتم عوقبتم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
واذكر يا عيسى أيضا نعمتي عليك، إذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي، إذ قالوا لعيسى ابن مريم:"هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السّماءِ" ف «إذ» الثانية من صلة «أوحيت».
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: "يَسْتَطِيعُ رَبّكَ "فقرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين: «هَلْ تَسْتَطِيِعُ» بالتاء «رَبّكَ» بالنصب، بمعنى: هل تستطيع أن تسأل ربك، وهل تستطيع أن تدعو ربك أو هل تستطيع وترى أن تدعوه؟ وقالوا: لم يكن الحواريون شاكّين أن الله تعالى ذكره قادر أن ينزل عليهم ذلك، وإنما قالوا لعيسى: هل تستطيع أنت ذلك؟
وقرأ ذلك عامة قراء المدينة والعراق: "هَلْ يَسْتَطِيعُ" بالياء "رَبّكَ" بمعنى: أن ينزّل علينا ربّك، كما يقول الرجل لصاحبه: أتستطيع أن تنهض معنا في كذا؟ وهو يعلم أنه يستطيع، ولكنه إنما يريد: أتنهض معنا فيه؟ وقد يجوز أن يكون مراد قارئه كذلك: هل يستجيب لك ربك ويطيعك أن تنزّل علينا؟
وأولى القراءتين عندي بالصواب قراءة من قرأ ذلك: هَلْ يَسْتَطِيعُ بالياء رَبّكَ برفع الربّ، بمعنى: هل يستجيب لك إن سألته ذلك ويطيعك فيه؟
وإنما قلنا ذلك أولى القراءتين بالصواب لما بينا قبل من أن قوله: "إذْ قالَ الحَوَارِيّونَ" من صلة «إذ أوحيت»، وأن معنى الكلام: وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي "إذْ قالَ الحَوَارِيّونَ يا عيِسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ"؛ فبين إذ كان ذلك كذلك، أن الله تعالى ذكره قد كره منهم ما قالوا من ذلك واستعظمه، وأمرهم بالتوبة ومراجعة الإيمان من قيلهم ذلك، والإقرار لله بالقدرة على كلّ شيء، وتصديق رسوله فيما أخبرهم عن ربهم من الأخبار. وقد قال عيسى لهم عند قيلهم ذلك له استعظاما منه لما قالوا: "اتّقُوا اللّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" ففي استتابة الله إياهم، ودعائه لهم إلى الإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم عند قيلهم ما قالوا من ذلك، واستعظام نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كلمتهم، الدلالة الكافية من غيرها على صحة القراءة في ذلك بالياء ورفع الربّ إذ كان لا معنى في قولهم لعيسى لو كانوا قالوا له: هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزّل علينا مائدة من السماء؟ أن تستكبر هذا الاستكبار.
فإن ظنّ ظانّ أن قولهم ذلك له إنما هو استعظام منهم، لأن ذلك منهم كان مسألة آية، فإن الآية إنما يسألها الأنبياء من كان بها مكذّبا، ليتقرّر عنده حقيقة ثبوتها وصحة أمرها، كما كانت مسألة قريش نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يحوّل لهم الصفا ذهبا ويفجّر فجاج مكة أنهارا من سأله من مشركي قومه، وكما كانت مسألة صالح الناقة من مكذّبي قومه، ومسألة شعيب أن يسقط كِسْفا من السماء من كفار من أرسل إليهم. وكان الذين سألوا عيسى أن يسأل ربه أن ينزّل عليهم مائدة من السماء، على هذا الوجه كانت مسألتهم، فقد أحلهم الذين قرأوا ذلك بالتاء ونصب الربّ محلاّ أعظم من المحلّ الذي ظنوا أنهم نزّهوا ربهم عنه، أو يكونوا سألوا ذلك عيسى وهم موقنون بأنه لله نبيّ مبعوث ورسول مرسل، وأن الله تعالى على ما سألوا من ذلك قادر. فإن كانوا سألوا ذلك وهم كذلك، وإنما كانت مسألتهم إياه ذلك على نحو ما يسأل أحدهم نبيه، إذا كان فقيرا أن يسأل له ربه أن يغنيه، وإن عرضت به حاجة أن يسأل له ربه أن يقضيها، فأنّى ذلك من مسألة الآية في شيء؟ بل ذلك سؤال ذي حاجة عرضت له إلى ربه، فسأل نبيه مسألة ربه أن يقضيها له. وخبر الله تعالى عن القوم ينبئ بخلاف ذلك، وذلك أنهم قالوا لعيسى، إذ قال لهم: "اتّقُوا اللّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أنْ نَأكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أنْ قَدْ صَدَقْتَنا". فقد أنبأ هذا من قيلهم أنهم لم يكونوا يعلمون أن عيسى قد صدقهم، ولا اطمأنت قلوبهم إلى حقيقة نبوّته، فلا بيان أبين من هذا الكلام في أن القوم كانوا قد خالطوا قلوبهم مرض وشكّ في دينهم وتصديق رسولهم، وأنهم سألوا ما سألوا من ذلك اختبارا.
وأما المائدة فإنها الفاعلة، من ماد فلان القوم يَمِيدُهم مَيْدا: إذا أطعمهم ومارهم، فالمائدة المطعِمة سميت «الخِوانَ» بذلك، لأنها تطعم الآكل مما عليها. والمائد: المدارُ به في البحر، يقال: ماد يَمِيدُ مَيْدا.
" قالَ اتّقُوا اللّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ": قال عيسى للحواريين القائلين له:"هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السّماءِ ": راقبوا الله أيها القوم، وخافوا أن ينزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا، فإن الله لا يعجزه شيء أراده، وفي شككم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماء كفر به، فاتقوا الله أن ينزل بكم نقمته إن كنتم مؤمنين يقول: إن كنتم مصدقيّ على ما أتوعدكم به من عقوبة الله إياكم على قولكم: "هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السّماءِ".
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
طلبوا المائدةَ لتسكن قلوبهم بما يشاهدونه من عظيم الآية وعجيب المعجزة، فعُذِرُوا وأجيبوا إليها؛ إذ كان مرادُهم حصولَ اليقين وزيادةَ البصيرة. ويقال كلٌ يطلب سُؤْله على حسب ضرورته وحالته، فمنهم من كان سكونه في مائدة من الطعام يجدها، ومنهم من يكون سكونه في فائدة من الموارد يَرِدُها، وعزيز منهم من يجد الفناء عن برهان يتأمله، أو بيان دليل يطلبه.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين): نهاهم عن اقتراح الآيات بعد الإيمان، وقيل: أراد به أي: اكتفوا بطعام الأرض عن طعام السماء...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
وقيل: اتقوا الله أن تسألوه شيئاً لم يسأله الأمم قبلكم،...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف قالوا: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} بعد إيمانهم وإخلاصهم؟ قلت: ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص، وإنما حكى ادعاءهم لهما، ثم أتبعه قوله: {إِذَ قَالُواْ} فآذن إنّ دعواهم كانت باطلة، وإنهم كانوا شاكين، وقوله: (هل يستطيع ربك) كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم، وكذلك قول عيسى عليه السلام لهم معناه: اتقوا الله ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته، ولا تقترحوا عليه، ولا تتحكموا ما تشتهون من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة.
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
{إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم} نداؤهم له باسمه: دليل على أنهم لم يكونوا يعظمونه كتعظيم المسلمين لمحمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا لا ينادونه باسمه، وإنما يقولون يا رسول الله يا نبي الله، وقولهم ابن مريم: دليل على أنهم كانوا يعتقدون فيه الاعتقاد الصحيح من نسبته إلى أم دون والد، بخلاف ما اعتقده النصارى.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
هذه قصة المائدة، وإليها تنسب السورة فيقال:"سورة المائدة". وهي مما امتن الله به على عبده ورسوله عيسى، عليه السلام، لما أجاب دعاءه بنزولها، فأنزلها الله آية ودلالة معجزة باهرة وحجة قاطعة...
قال: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي: فأجابهم المسيح، عليه السلام، قائلا لهم: اتقوا الله، ولا تسألوا هذا، فعساه أن يكون فتنة لكم، وتوكلوا على الله في طلب الرزق إن كنتم مؤمنين.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء} قال أبو السعود العمادي في تفسير «إذ قال الحواريون» ما نصه: كلام مستأنف مسوق لبيان بعض ما جرى بينه عليه السلام وبين قومه منقطع عما قبله كما ينبئ عنه الإظهار في موقع الإضمار. و«إذ» منصوب بمضمر خوطب به النبي عليه الصلاة والسلام، بطريق تلوين الخطاب والالتفات، لكن لا لأن الخطاب السابق لعيسى عليه السلام فإنه ليس بخطاب وإنما هو حكاية خطاب، بل لأن الخطاب لمن خوطب بقوله تعالى: {واتقوا الله} – الآية – فتأمل، كأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم عقيب حكاية ما صدر عن الحواريين من المقالة المعدودة من نعم الله تعالى الفائضة على عيسى عليه السلام: اذكر للناس وقت قولهم الخ وقيل هو ظرف لقالوا أريد به التنبيه على أن ادعاءهم الإيمان والإخلاص، لم يكن عن تحقيق وإيقان، ولا يساعده النظم الكريم. اه.
أقول: في متعلق الظرف قولان للمفسرين رجح أبو السعود المشهور منهما وهو الأول ورد الثاني الذي جرى عليه الزمخشري في الكشاف وهو أنه متعلق بقوله تعالى: {قالوا آمنا} أي ادعوا الإيمان وأشهدوا الله على أنفسهم أنهم مسلمون مخلصون في إيمانهم في الوقت الذي قالوا فيه ما ينافي ذلك وهو قولهم: {يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء} ويقول الزمخشري إن الله تعالى ما وصفهم بالإيمان والإسلام وإنما حكى قولهم حكاية ووصله بما يدل على كذبهم فيه وهو سؤالهم هذا وجوابه عليه السلام لهم إذ أمرهم بتقوى الله إن كانوا مؤمنين حقا، وإصرارهم على السؤال بعد ذلك، ووجه رد هذا القول أنه لو كان هو المراد لقيل: «إذ قالوا يا عيسى ابن مريم» ولم يقل: «إذ قال الحواريون» ولما صح أن تكون دعوى الإيمان من الحواريين نعمة من الله على عيسى – وهي كاذبة – ولا أن تكون عن وحي من الله تعالى. ولكن هذا الأخير لا يرد على الزمخشري لأنه فسر الوحي إلى الحواريين بالإيمان بأنه أمر الله إياهم بذلك على ألسنة الرسل، أي أمر إياهم مع غيرهم إذ كلف الناس كافة بأن يؤمنوا بما تجيئهم به الرسل، ولكن يرد قوله أيضا تسميتهم بالحواريين وما في سورتي آل عمران والصف من إجابتهم عيسى إلى نصره. ولعله يرى أن هذا شأنهم في أول الدعوة ثم آمنوا بعد ذلك وصاروا أنصار الله ورسوله عيسى عليه السلام.
وقد حكى أبو السعود بعد ما ذكرناه عنه الخلاف في إيمانهم. ومنشأ هذا الخلاف كلمة «يستطيع» وقد قرأ الكسائي «هل تستطيع ربك» قالوا أي سؤال ربك، وهذه القراءة مروية عن علي وعائشة وابن عباس ومعاذ من علماء الصحابة رضي الله عنهم وقد صحح الحاكم عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه «تستطيع ربك» ومثله في ذلك غيره لأن تلقين القرآن لا يتوقف على تصريح الصحابي برفعه، وقرأ الجمهور «يستطيع ربك» وهذا الذي استشكل بأنه لا يصدر عن مؤمن صحيح الإيمان. وأجاب عنه القائلون بصحة إيمانهم من وجوه.
- أن هذا السؤال لأجل اطمئنان القلب بإيمان العيان لا للشك في قدرة الله تعالى على ذلك، فهو على حد سؤال إبراهيم صلى الله عليه وعلى آله وسلم رؤية كيفية إحياء الموتى ليطمئن قلبه بإيمان الشهادة والمعاينة مع إقراره بإيمانه بذلك بالغيب.
- أنه سؤال عن الفعل دون القدرة عليه فعبر عنه بلازمه.
- أن السؤال عن الاستطاعة بحسب الحكمة الإلهية لا بحسب القدرة، أي هل ينافي حكمة ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء أم لا، فإن ما ينافي الحكمة لا يقع وإن كان مما تتعلق به القدرة، كعقاب المحسن على إحسانه، وإثابة الظالم المسيء على ظلمه.
- أن في الكلام حذفا تقديره: هل تستطيع سؤال ربك. ويدل عليه قراءة: هل تستطيع ربك، والمعنى هل تستطيع أن تسأله من غير صارف يصرفك عن ذلك.
- أن الاستطاعة هنا بمعنى الإطاعة، والمعنى هل يطيعك ويجيبك دعاءك ربك إذا سألته ذلك.
وأقول ربما يظن الأكثرون أن هذا الوجه الأخير تكلف بعيد وليس كذلك. فالاستطاعة استفعال من الطوع وهو ضد الكره. قال تعالى {فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها} [فصلت:11] وفي لسان العرب: الطوع نقيض الكره، والاسم الطواعة والطواعية ثم قال: ويقال طعت له وأنا أطيع طاعة، ولتفعلنه طوعا أو كرها، وطائعا أو كارها، وجاء فلان طائعا غير مكره...
قال ابن سيده: وطاع يطاع وأطاع – لان وانقاد، وأطاعه إطاعة وانطاع له كذلك. وفي التهذيب: وقد طاع له يطوع إذا انقاد له بغير ألف، فإذا مضى لأمره فقد أطاعه. فإذا وافقه فقد طاوعه. اه. فيفهم من هذا أن إطاعة الأمر فعله عن اختيار ورضا ولذلك عبر به عن امتثال أوامر الدين لأنها لا تكون دينا إلا إذا كانت عن إذعان ووازع نفسي. والذي أفهمه أن الاستفعال في هذه المادة كالاستفعال في مادة الإجابة، فإذا كان «استجاب له» بمعنى أجاب دعاءه أو سؤاله – فمعنى استطاعه أطاعه، أي انقاد له وصار في طوعه أو طوعا له. والسين والتاء في المادتين على أشهر معانيهما وهو الطلب، ولكنه طلب دخل على فعل محذوف دل عليه المذكور المترتب على المحذوف. فأصل استطاع الشيء- طلب وحاول أن يكون ذلك الشيء طوعا له فأطاعه وانقاد له، ومعنى استجاب – سئل شيئا وطلب منه أن يجيب إليه فأجاب.
فبهذا الشرح الدقيق تفهم صحة قول من قال من المفسرين أن يستطيع هنا بمعنى يطيع، وأن معنى يطيع يفعل مختارا راضيا غير كاره، فصار حاصل معنى الجملة هل يرضى ربك ويختار أن ينزل علينا مائدة من السماء إذا نحن سألناه أو سألته لنا ذلك؟ والمائدة في اللغة الخوان الذي عليه الطعام، فإذا لم يكن عليه طعام العيد لا يسمى مائدة، وقد يطلق لفظ المائدة على الطعام نفسه حقيقة أو مجازا من إطلاق اسم المحل على الحال، وهو اسم فاعل من ماد بمعنى تحرك أو من ماد أهله بمعنى نعشهم كما في الأساس أي أعاشهم وسد فقرهم، كأنها هي تميد من يجلس إليها ويأكل منها وقيل إنها بمعنى اسم المفعول على حد: عيشة راضية.
{قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين (112)} أي قال عيسى لهم اتقوا الله أن تقترحوا عليه أمثال هذه الاقتراحات التي كان سلفكم يقترحها على موسى لئلا تكون فتنة لكم فإن من شأن المؤمن الصادق الإيمان أن لا يجرب ربه – أو أن يعمل ويكسب ولا يطلب من ربه أن يعيش بخوارق العادات، وعلى غير السنن التي جرت عليها معايش الناس. أو المعنى: اتقوا الله وقوموا بما يوجبه الإيمان من العمل والتوكل عسى أن يعطيكم ذلك، من باب قوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب} [الطلاق:2، 3].
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... وجرى قوله تعالى: {هل يستطيع ربّك} على طريقة عربية في العرض والدعاء، يقولون للمستطيع لأمر: هل تستطيع كذا، على معنى تطلّب العذر له إن لم يجبك إلى مطلوبك وأنّ السائل لا يحبّ أن يكلّف المسؤول ما يشقّ عليه، وذلك كناية فلم يبق منظوراً فيه إلى صريح المعنى المقتضي أنّه يشكّ في استطاعة المسؤول، وإنّما يقول ذلك الأدنى للأعلى منه، وفي شيء يعلم أنه مستطاع للمسؤول، فقرينة الكناية تحقّقُ المسؤول أنّ السائل يعلم استطاعته. ومنه ما جاء في حديث يحيى المازني « أنّ رجلاً قال لعبد الله بن زيد: أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله يتوضّأ». فإنّ السائل يعلم أنّ عبد الله بن زيد لا يشقّ عليه ذلك. فليس قول الحواريّين المحكي بهذا اللفظ في القرآن إلاّ لفظاً من لغتهم يدلّ على التلطّف والتأدّب في السؤال، كما هو مناسب أهل الإيمان الخالص. وليس شكّاً في قدرة الله تعالى ولكنّهم سألوا آية لزيادة اطمئنان قلوبهم بالإيمان بأن ينتقلوا من الدليل العقلي إلى الدليل المحسوس. فإنّ النفوس بالمحسوس آنس، كما لم يكن سؤال إبراهيم بقوله {ربّ أرني كيف تحيي الموتى} [البقرة: 260] شكّاً في الحال..
. واسم {مائدة} هو الخوان الموضوع عليه طعام، فهو اسم لمعنى مركّب يدلّ على طعامٍ وما يوضع عليه. والخِوان بكسر الخاء وضمّها تخت من خشب له قوائم مجعول ليوضع عليه الطعام للأكل، اتّفقوا على أنّه معرّب. قال الجواليقي: هو أعجمي. وفي حديث قتادة عن أنس قال: ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان قطّ، ولا في سُكُرُّجَة، قال قتادة: قلت لأنس: فعلاَم كنتم تأكلون قال: على السُّفَر، وقيل: المائدة اسم الطعام، وإن لم يكن في وعاء ولا على خِوان. وجزم بذلك بعض المحقّقين من أهل اللغة، ولعلّه مجاز مرسل بعلاقة المحلّ. وذكر القرطبي أنّه لم تكن للعرب موائد إنّما كانت لهم السفرة. وما ورد في الحديث من قول ابن عباس في الضبّ: لو كان حراماً ما أُكل على مائدة رسول الله، إنّما يعني به الطعام الموضوع على سفرة. واسم السفرة غلب إطلاقه على وعاء من أديم مستدير له معاليق ليرفع بها إذا أريد السفر به. وسمّيت سفرة لأنّها يتّخذها المسافر. وإنّما سأل الحواريّون كون المائدة منزّلة من السماء لأنّهم رغبوا أن تكون خارقة للعادة فلا تكون ممّا صنع في العالم الأرضي فتعيّن أن تكون من عالم علوي.
وقول عيسى حين أجابهم {اتّقوا الله إن كنتم مؤمنين} أمر بملازمة التقوى وعدم تزلزل الإيمان، ولذلك جاء بِ {إن} المفيدة للشكّ في الإيمان ليعلم الداعي إلى ذلك السؤال خشية أن يكون نشأ لهم عن شكّ في صدق رسولهم، فسألوا معجزة يعلمون بها صدقه بعد أن آمنوا به، وهو قريب من قوله تعالى لإبراهيم المحكي في قوله: {قال أو لم تؤمن}، أي ألم تكن غنيّاً عن طلب الدليل المحسوس. فالمراد بالتقوى في كلام عيسى ما يشمل الإيمان وفروعه. وقيل: نهاهم عن طلب المعجزات، أي إن كنتم مؤمنين فقد حصل إيمانكم فما الحاجة إلى المعجزة.