فأعطاه الله ، ما بلغ به مغرب الشمس ، حتى رأى الشمس في مرأى العين ، كأنها تغرب في عين حمئة ، أي : سوداء ، وهذا هو المعتاد لمن كان بينه وبين أفق الشمس الغربي ماء ، رآها تغرب في نفس الماء وإن كانت في غاية الارتفاع ، ووجد عندها ، أي : عند مغربها قوما . { قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ْ } أي : إما أن تعذبهم بقتل ، أو ضرب ، أو أسر ونحوه ، وإما أن تحسن إليهم ، فخير بين الأمرين ، لأن الظاهر أنهم كفار أو فساق ، أو فيهم شيء من ذلك ، لأنهم لو كانوا مؤمنين غير فساق ، لم يرخص في تعذيبهم ، فكان عند ذي القرنين من السياسة الشرعية ما استحق به المدح والثناء ، لتوفيق الله له لذلك ، فقال : سأجعلهم قسمين .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم «في عين حَمِئة » ، على وزن فَعِلة ، أي ذات حُماة ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ، والباقون في «عين حامية » ، أي حارة ، وقد اختلف في ذلك قراءة معاوية وابن عباس فقال ابن عباس «حمئة » ، وقال معاوية «حامية » ، فبعثا إلى كعب الأحبار ليخبرهم بالأمر كيف هو في التوراة ، فقال لهما أما العربية فأنتما أعلم بها مني ، ولكني أجد في التوراة أنها تغرب في عين ثاط ، والثاط الطين . فلما انفصلا قال رجل لابن عباس : لوددت أني حضرت يا أبا العباس ، فكنت أنجدك بشعر تبع الذي يقول فيه في ذكر ذي القرنين : [ الكامل ]
قد كان ذو القرنين جدي مسلماً . . . ملكاً تدين له الملوك ويحشد
بلغ المشارق والمغارب يبتغي . . . أسباب أمر من حيكم مرشد
فرأى مغار الشمس عند غروبها . . . في عين ذي خلب وثاط حرمد{[7891]}
فالخلب : الطين ، والثاط : الحمأة ، الحرمد : الأسد ، ومن قرأ «حامئة » ، وجهها إلى الحرارة ، وروي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى الشمس وهي تغيب فقال «في نار الله الحامية ، لولا ما يزعها من الله لأحرقت ما على الأرض »{[7892]} ، وروى أبو ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى الشمس عند غروبها فقال :«أتدري أين تغرب يا أبا ذر ؟ » قلت لا ، قال «إنها تغرب في عين حامية »{[7893]} ، فهذا يدل على أن العين هنالك حارة ، و «حامية » هي قراءة طلحة بن عبيد الله ، وعمرو بن العاص وابنه ، وابن عمر ، وذهب الطبري إلى الجمع بين الأمرين : فيقال يحتمل أن تكون العين حارة ، ذات حمأة فكل قراءة وصف بصفة من أحوالها ، وذهب بعض البغداديين إلى أن { في } بمنزلة عند ، كأنها مسامتة من الأرض فيما يرى الرائي ل { عين حمئة } وقال بعضهم : قوله { في عين } إنما المراد أن ذا القرنين كان فيها ، أي هي آخر الأرض .
قال القاضي أبو محمد : وظاهر هذه الأقوال تخيل والله أعلم ، قال أبو حاتم : وقد يمكن أن تكون «حاميئة » مهموزة ، بمعنى ذات حمأة ، فتكون القراءتان بمعنى واحد ، واستدل بعض الناس عل أن ذا القرنين نبي ، بقوله تعالى : { قلنا يا ذا القرنين } ومن قال إنه ليس بنبي ، قال كانت هذه المقالة من الله له بإلهام ، و { إما أن تعذب } بالقتل على الكفر { وإما أن تتخذ فيهم حسناً } أي بالإجمال على الإيمان ، واتباع الهدى ، فكأنه قيل له هذه لا تعطيها إلا إحدى خطتين : إما أن تكفر فتعذبها ، وإما أن تؤمن فتحسن إليها ، وذهب الطبري إلى أن اتخاذ الحسن هو الأسر مع كفرهم ، فالمعنى ، على هذا ، أنهم كفروا ولا بد فخيره الله بين قتلهم أو أسرهم ، ويحتمل أن يكون الاتخاذ ضرب الجزية .
قال القاضي أبو محمد : ولكن تقسيم { ذي القرنين } بعد هذا الأمر إلى كفر أو إيمان ، يريد هذا القول بعض الرد ، فتأمله{[7894]} .
القول في تركيب { حتى إذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ } كالقول في قوله : { حتى إذا ركبا في السفينة خرقها } .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص { في عيننٍ حمئة مهموزاً مشتقاً من الحمأة ، وهو الطين الأسود . والمعنى : عين مختلط ماؤها بالحمأة فهو غير صاف .
وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وأبو جعفر ، وخلف : في عين حامية بألف بعد الحاء وياء بعد الميم ، أي حارة من الحمو وهو الحرارة ، أي أن ماءها سخن .
ويظهر أن هذه العين من عيون النفْط الواقعة على ساحل بحر الخزر حيث مدينة ( باكو ) ، وفيها منابع النفط الآن ولم يكن معروفاً يومئذ . والمؤرخون المسلمون يسمونها البلاد المنتنة .
وتنكير { قَوْماً } يؤذن بأنهم أمّة غير معروفة ولا مألوفة حالة عقائدهم وسيرتهم .
فجملة { قُلْنا ياذا القَرْنَيْنِ } استئناف بياني لما أشعر به تنكير { قَوْماً } من إثارة سؤال عن حالهم وعما لاقاه بهم ذو القرنين .
وقد دل قوله : { إمَّا أن تُعَذّبَ وإمَّا أن تَتَّخِذَ فِيهمْ حُسْناً } على أنهم مستحقون للعذاب ، فدلّ على أن أحوالهم كانت في فساد من كفر وفساد عمل .
وإسناد القول إلى ضمير الجلالة يحتمل أنه قول إلهام ، أي ألقينا في نفسه تردداً بين أن يبادر استيصالهم وأن يمهلهم ويدعوهم إلى الإيمان وحسن العمل ، ويكون قوله { قَالَ أمَّا مَن ظَلَمَ } ، أي قال في نفسه معتمداً على حالة وسط بين صورتي التردد .
وقيل : إن ذا القرنين كان نبيئاً يوحى عليه فيكون القول كلاماً موحىً به إليه يخيّره فيه بين الأمرين ، مثل التخيير الذي في قوله تعالى : { فإما منا بعد وإما فداء } [ محمد : 4 ] ، ويكون قوله : { قَالَ أمَّا مَن ظَلَمَ } جواباً منه إلى ربّه . وقد أراد الله إظهار سداد اجتهاده كقوله : { ففهمناها سليمان } [ الأنبياء : 79 ] .
و { حُسْناً } مصدر . وعدل عن ( أن تحسن إليهم ) إلى { أن تَتَّخِذَ فِيهِم حُسناً } مبالغة في الإحسان إليهم حتى جعل كأنه اتّخذ فيهم نفس الحُسن ، مثل قوله تعالى : { وقولوا للناس حسناً } [ البقرة : 83 ] . وفي هذه المبالغة تلقين لاختيار أحد الأمرين المخير بينهما .
والظلم : الشرك ، بقرينة قسيمه في قوله { وأما من آمن وعمل صالحاً } .
واجتلاب حرف الاستقبال في قوله : { فَسَوْفَ نُعَذّبُهُ } يشير إلى أنه سيدعوه إلى الإيمان فإن أصرّ على الكفر يعذبه . وقد صرح بهذا المفهوم في قوله { وأمَّا مَن ءَامَنَ وعَمِلَ صالحا } أي آمن بعد كفره . ولا يجوز أن يكون المراد من هو مؤمن الآن ، لأن التخيير بين تعذيبهم واتخاذ الإمهال معهم يمنع أن يكون فيهم مؤمنون حين التخيير .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.