{ 59 - 63 } { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا * جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا }
لما ذكر تعالى هؤلاء الأنبياء المخلصون{[511]} المتبعون لمراضي ربهم ، المنيبون إليه ، ذكر من أتى بعدهم ، وبدلوا ما أمروا به ، وأنه خلف من بعدهم خلف ، رجعوا إلى الخلف والوراء ، فأضاعوا الصلاة التي أمروا بالمحافظة عليها وإقامتها ، فتهاونوا بها وضيعوها ، وإذا ضيعوا الصلاة التي هي عماد الدين ، وميزان الإيمان والإخلاص لرب العالمين ، التي هي آكد الأعمال ، وأفضل الخصال ، كانوا لما سواها من دينهم أضيع ، وله أرفض ، والسبب الداعي لذلك ، أنهم اتبعوا شهوات أنفسهم وإراداتها فصارت هممهم منصرفة إليها ، مقدمة لها على حقوق الله ، . فنشأ من ذلك التضييع لحقوقه ، والإقبال على شهوات أنفسهم ، مهما لاحت لهم ، حصلوها ، وعلى أي : وجه اتفقت تناولوها . { فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } أي : عذابا مضاعفا شديدا .
«الخَلف » بفتح اللام القرن يأتي بعد آخر يمضي ، والابن بعد الأب ، وقد يستعمل في سائر الأمور . «والخلْف » بسكون اللام مستعمل إذا كان الآتي مذموماً هذا مشهور كلام العرب وقد ذكر عن بعضهم أن الخلَف والخلْف بمعنى واحد وحجة ذلك قول الشاعر :
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا . . . لأولنا في طاعة الله تابع{[7985]}
وقرأ الجمهور «الصلاة » بالإفراد ، وقرأ الحسن «أضاعوا الصلوات » بالجمع ، وكذلك في مصحف ابن مسعود ، والمراد ب «الخلف » من كفر أو عصى بعد من بني إسرائيل ، وقال مجاهد : المراد النصارى خلفوا بعد اليهود وقال محمد بن كعب ومجاهد وعطاء : هم قوم من أمة محمد آخر الزمان ، أي يكون في هذه الامة من هذه صفته لا أنهم المراد بهذه الآية ، وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «كان الخلف بعد ستين سنة »{[7986]} وهذا عرف إلى يوم القيامة وتتجدد أيضاً المبادئ ، واختلف الناس في «إضاعة الصلاة » منهم ، فقال محمد بن كعب القرظي وغيره : «كانت اضاعة كفر وجحد بها » . وقال القاسم بن مخيمرة{[7987]} وعبدالله بن مسعود : «كانت اضاعة أوقاتها والمحافظة على أوانها » وذكره الطبري عن عمر ين عبدالعزيز رضي الله عنه في حديث طويل . و { الشهوات } عموم وكل ما ذكر من ذلك فمثال ، و «الغي » الخسران والحصول في الورطات ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره . . . ومن يغو لا يعدم على الغي لائما{[7988]}
وبه فسر ابن زيد هذه الآية ، وقد يكون «الغي » أيضاً بمعنى الضلال فيكون على هذا هنا حذف مضاف تقديره «يلقون جزاء الغي » وبهذا فسر الزجاج . وقال عبدالله بن عمرو وابن مسعود «غي » واد في جهنم وبه وقع التوعد في هذه الآية ، وقيل «غي وآثام ، نيران في جهنم » رواه أبو أمامة الباهلي عن النبي عليه السلام{[7989]} .
فرع على الثناء عليهم اعتبارٌ وتنديد بطائفة من ذرياتهم لم يقتدوا بصالح أسلافهم وهم المعني بالخَلْف .
والخلْف بسكون اللام عقب السُوء ، و بفتح اللام عقب الخير . وتقدم عند قوله تعالى : { فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب } في سورة الأعراف ( 169 ) .
وهو هنا يشمل جميع الأمم التي ضلّت لأنها راجعة في النّسب إلى إدريس جدّ نوح إذ هم من ذرية نوح ومن يرجع أيضاً إلى إبراهيم ، فمنهم من يدلي إليه من نسل إسماعيل وهم العرب . ومنهم من يدلي إليْه من نسل يعقوب وهم بنو إسرائيل .
ولفظ { من بعدهم } يشمل طبقات وقروناً كثيرة ، ليس قيداً لأنّ الخلف لا يكون إلاّ من بعد أصله وإنّما ذُكر لاستحضار ذهاب الصالحين .
والإضاعة : مجاز في التفريط بتشبيهه بإهمال العَرْض النفيس ، فرطوا في عبادة الله واتبعوا شهواتهم فلم يخالفوا ما تميل إليه أنفسهم ممّا هو فساد . وتقدم قوله تعالى : { إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً } في سورة الكهف ( 30 ) .
وهذان وصفان جامعان لأصناف الكفر والفسوق ، فالشرك إضاعة للصلاة لأنّه انصراف عن الخضوع لله تعالى ، فالمشركون أضاعوا الصلاة تماماً ، قال تعالى : { قالوا لم نك من المصلّين } [ المدثر : 43 ] . والشرك : اتباع للشّهوات ، لأنّ المشركين اتّبعوا عبادة الأصنام لمجرد الشهوة من غير دليل ، وهؤلاء هم المقصود هنا ، وغير المشركين كاليهود والنصارى فَرطوا في صلوات واتبعوا شهوات ابتدعوها ، ويشمل ذلك كله اسم الغيّ .
والغيّ : الضلال ، ويطلق على الشرّ ، كما أطلق ضده وهو الرشَد على الخير في قوله تعالى : { أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً } [ الجنّ : 10 ] وقوله { قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً } [ الجنّ : 21 ] . فيجوز أن يكون المعنى فسوف يلقون جزاء غيّهم ، كقوله تعالى : { ومن يفعل ذلك يلق أثاماً } [ الفرقان : 68 ] أي جزاء الآثام . وتقدم الغيّ في قوله تعالى : { وإخوانهم يمدونهم في الغي } وقوله { وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً } كلاهما في سورة الأعراف ( 202و 146 ) . وقرينة ذلك مقابلته في ضدهم بقوله { فأُولَئِكَ يدْخُلونَ الجنّة } .
وحرف ( سوف ) دال على أن لقاءهم الغيّ متكرر في أزمنة المستقبل مبالغة في وعيدهم وتحذيراً لهم من الإصرار على ذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.