القول في تأويل قوله تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصّلاَةَ وَاتّبَعُواْ الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } .
يقول تعالى ذكره : فحدث من بعد هؤلاء الذين ذكرت من الأنبياء الذين أنعمت عليهم ، ووصفت صفتهم في هذه السورة ، خلْف سوء خلفوهم في الأرض أضاعو الصلاة .
ثم اختلْف أهل التأويل في صفة إضاعتهم الصلاة ، فقال بعضهم : كانت إضاعتهموها تأخيرهم إياها عن مواقيتها ، وتضييعهم أوقاتها . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن سعد الكندي ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن الأوزاعي ، عن موسى بن سليمان ، عن القاسم بن مخيمرة ، في قوله : فخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أضَاعُوا الصّلاةَ قال : إنما أضاعوا المواقيت ، ولو كان تركا كان كفرا .
حدثنا إسحاق بن زيد الخطابي ، قال : حدثنا الفريابي ، عن الأوزاعي ، عن القاسم بن مخيمرة ، نحوه .
حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير ، قال : ثني الوليد بن مسلم ، عن أبي عمرو ، عن القاسم بن مخيمرة ، قال : أضاعوا المواقيت ، ولو تركوها لصاروا بتركها كفارا .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن القاسم ، نحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عيسى ، عن الأوزاعي ، عن إبراهيم بن يزيد ، أن عمر بن عبد العزيز بعث رجلاً إلى مصر لأمر أعجله للمسلمين ، فخرج إلى حرسه ، وقد كان تقدم إليهم أن لا يقوموا إذا رأوه ، قال : فأوسعوا له ، فجلس بينهم فقال : أيكم يعرف الرجل الذي بعثناه إلى مصر ؟ فقالوا : كلنا نعرفه ، قال : فليقم أحدثكم سنا ، فليدعه ، فأتاه الرسول فقال : لا تعجلني أشدّ عليّ ثيابي ، فأتاه فقال : إن اليوم الجمعة ، فلا تبرحن حتى تصلي ، وإنا بعثناك في أمر أعجله للمسلمين ، فلا يعجلنك ما بعثناك له أن تؤخر الصلاة عن ميقاتها ، فإنك مصليها لا محالة ، ثم قرأ : فخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أضَاعُوا الصّلاةَ واتّبَعُوا الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّا ثم قال : لم يكن إضاعتهم تركها ، ولكن أضاعوا الوقت .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن المسعودي ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، والحسن بن مسعود ، عن ابن مسعود ، أنه قيل له : إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهمْ سَاهُونَ و عَلى صَلاَتِهمْ دَائِمُونَ و عَلى صَلاَتِهمْ يُحَافِظُونَ فقال ابن مسعود رضي الله عنه : على مواقيتها ، قالوا : ما كنا نرى ذلك إلا على الترك ، قال : ذاك الكفر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عمر أبو حفص الأبار ، عن منصور بن المعتمر ، قال : قال مسروق : لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس ، فيكتب من الغافلين ، وفي إفراطهنّ الهلكة ، وإفراطهنّ : إضاعتهنّ عن وقتهنّ .
وقال آخرون : بل كانت إضاعتهموها : تركها . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا أبو صخر ، عن القرظي ، أنه قال في هذه الاَية فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أضَاعُوا الصّلاةَ واتّبَعُوا الشّهَوَاتِ يقول : تركوا الصلاة .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك عندي بتأويل الاَية ، قول من قال : أضعتموها تركهم إياها لدلالة قول الله تعالى ذكره بعده على أن ذلك كذلك ، وذلك قوله جلّ ثناؤه : إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صَالِحا فلو كان الذين وصفهم بأنهم ضيعوها مؤمنين لم يستثن منهم من آمن ، وهم مؤمنون ولكنهم كانوا كفارا لا يصلون لله ، ولا يؤدّون له فريضة فسقة قد آثروا شهوات أنفسهم على طاعة الله ، وقد قيل : إن الذين وصفهم الله بهذه الصفة قوم من هذه الأمة يكونون في آخر الزمان .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى . وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن . قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أضَاعُوا الصّلاة واتّبَعُوا الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّا قال : عند قيام الساعة ، وذهاب صالحي أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينزو بعضهم على بعض في الأزقة . قال محمد بن عمرو : زنا . وقال الحارث : زناة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله ، وقال : زنا ، كما قال ابن عمرو .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عكرمة ومجاهد وعطاء بن أبي رباح فخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ . . . الاَية ، قال : هم أمة محمد .
وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الأشيب ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي تميم بن مهاجر في قول الله : فخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أضَاعُوا الصّلاة قال : هم في هذه الأمة يتراكبون تراكب الأنعام والحمر في الطرق ، لا يخافون الله في السماء ، ولا يستحيون الناس في الأرض .
وأما قوله : فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّا فإنه يعني أن هؤلاء الخلْف الذين خلفوا بعد أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين سيدخلون غيا ، وهو اسم واد من أودية جهنم ، أو اسم بئر من آبارها ، كما :
حدثني عباس بن أبي طالب ، قال : حدثنا محمد بن زياد بن رزان ، قال : حدثنا شرقي بن قطامي ، عن لقمان بن عامر الخزاعي ، قال : جئت أبا أمامة صديّ بن عجلان الباهلي ، فقلت : حدّثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فدعا بطعام ، ثم قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم : «لَوْ أنّ صخْرَةً زِنَةَ عَشْرِ أوَاقٍ قُذِفَ بِها منْ شَفيرٍ جَهَنّمَ ما بَلَغَتْ قَعْرَها خَمْسينَ خَرِيفا ، ثُمّ تَنْتَهي إلى غَيَ وأثامٍ » ، قال : قُلْتُ وَما غيّ وَما أثامٌ ؟ قالَ : «بْئرَانِ في أسْفَلٍ جَهَنّمَ يَسِيلُ فِيهِما صَدِيدُ أهْلِ النّارِ ، وَهُما اللّتانِ ذَكَرَ اللّهُ فِي كِتابِهِ أضَاعُوا الصّلاةَ واتّبَعُوا الشّهَوَاتٍ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّا ، وقوله في الفُرقان : وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يَلْقَ أثاما » .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عمرو بن عاصم ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن قتادة ، عن أبي أيوب ، عن عبد الله بن عمرو فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّا قال : واديا في جهنم .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّا قال : واديا في النار .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله أنه قال في هذه الاَية فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّا قال : نهر في جهنم خبيث الطعم بعيد القعر .
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن أبيه ، في قوله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أضَاعُوا الصّلاةَ واتّبَعُوا الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّا قال : الغيّ : نهر جهنم في النار ، يعذّب فيه الذين اتبعوا الشهوات .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن أبيه ، في قوله فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أضَاعُوا الصّلاةَ واتّبَعُوا الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّا قال : الغيّ : نهر جهنم في النار ، يعذّب فيه الذين اتبعوا الشهوات .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله أضَاعُوا الصّلاةَ واتّبَعُوا الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّا قال : نهر في النار يقذف فيه الذين اتبعوا الشهوات .
وقال آخرون : بل عنى بالغيٌ في هذا الموضع : الخسران . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّا يقول : خسرانا .
وقال آخرون : بل عنى به الشرّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّا قال : الغيّ : الشرّ ومنه قول الشاعر :
فمَنْ يَلْقَ خَيْرا يحْمَدِ الناسُ أمْرَهُ *** وَمَنْ يَغْوَ لا يَعْدَمْ على الغَيّ لائما
قال أبو جعفر : وكلّ هذه الأقوال متقاربات المعاني ، وذلك أن من ورد البئرين اللتين ذكرهما النبيّ صلى الله عليه وسلم ، والوادي الذي ذكره ابن مسعود في جهنم ، فدخل ذلك ، فقد لاقى خسرانا وشرّا ، حسبه به شرّا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.