يخوف تعالى عباده ما أمامهم من يوم القيامة وما فيه من المحن والكروب ، ومزعجات القلوب فقال : { وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ } بسبب النفخ فيه { مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ } أي : انزعجوا وارتاعوا وماج بعضهم ببعض خوفا مما هو مقدمة له . { إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } ممن أكرمه الله وثبته وحفظه من الفزع . { وَكُلٌّ } من الخلق عند النفخ في الصور { أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } صاغرين ذليلين ، كما قال تعالى : { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } ففي ذلك اليوم يتساوى الرؤساء والمرءوسون في الذل والخضوع لمالك الملك .
ثم ذكر تعالى يوم { ينفخ في الصور } ، وهو القرن في قول جمهور الأمة ، وهو مقتضى الأحاديث ، وقال مجاهد : هو كهيئة البوق ، وقالت فرقة : «الصور » جمع صورة كتمرة وتمر وجمرة وجمر والأول أشهر ، وفي الأحاديث المتداولة أن إسرافيل عليه السلام هو صاحب «الصور » وأنه قد جثا على ركبته الواحدة وأقام الأخرى وأمال خده والتقم القرن ينتظر متى يؤذن له في النفخ ، وهذه النفخة المذكورة في هذه الآية هي نفخة الفزع ، وروى أبو هريرة أن الملك له في الصور ثلاث نفخات : نفخة الفزع وهو فزع حياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام من القبور{[9085]} ، وقالت فرقة إنما هي نفختان كأنهم جعلوا الفزع والصعق في نفخة واحدة ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى { ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون }{[9086]} [ الزمر : 68 ] وقالوا : أخرى لا يقال إلا في الثانية .
قال القاضي أبو محمد : والقول الأول أصح ، و { أخرى } [ الزمر : 68 ] يقال في الثالثة ومنه قول ربيعة بن مكدم : [ الكامل ]
«ولقد شفعتهما بآخر ثالث »{[9087]} . . . ومنه قوله تعالى : { ومناة الثالثة الأخرى }{[9088]} [ النجم : 20 ] .
وأما قول الشاعر : [ مجزوء الكامل ]
جعلت لها عودين من . . . نشم وآخر من ثمامه{[9089]}
فيحتمل أن يريد به ثانياً وثالثاً فلا حجة فيه . وقال تعالى : { ففزع } وهو أمر لم يقع بعد إشعاراً بصحة وقوعه وهذا معنى وضع الماضي موضع المستقبل ، وقوله تعالى : { إلا من شاء الله } استثناء فيمن قضى الله تعالى من ملائكته وأنبيائه وشهداء عبيده أن لا ينالهم فزع النفخ في الصور ، قال أبو هريرة : هي في الشهداء ، وذكر الرماني أنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال مقاتل : هي في جبريل عليه السلام وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، وإذا كان الفزع الأكبر لا ينالهم فهم حريون أن لا ينالهم هذا{[9090]} .
قال القاضي أبو محمد : على أن هذا في وقت ترقب وذلك في وقت أمن إذ هو إطباق جهنم على أهلها ، وقرأ جمهور القراء «وكل آتوه » على وزن فاعلوه ، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم «أتوه » على صيغة الفعل الماضي وهي قراءة ابن مسعود وأهل الكوفة ، وقرأ قتادة «أتاه » على الإفراد إتباعاً للفظ «كل » وإلى هذه القراءة أشار الزجاج ولم يذكرها ، و «الداخر » المتذلل الخاضع ، قال ابن زيد وابن عباس : «الداخر » الصاغر ، وقرأ الحسن «دخرين » بغير ألف ، وتظاهرت الروايات بأن الاستثناء في هذه الآية إنما أريد به الشهداء لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وهم أهل للفزع لأنهم بشر لكن فضلوا بالأمن من ذلك اليوم .
عطف على { ويوم نحشر من كل أمة فوجاً } [ النمل : 83 ] ، عاد به السياق إلى الموعظة والوعيد فإنهم لما ذكروا ب« يوم يحشرون إلى النار » ذكروا أيضاً بما قبل ذلك وهو يوم النفخ في الصور ، تسجيلاً عليهم بإثبات وقوع البعث وإنذاراً بما يعقبه مما دل عليه قوله { ءاتوه داخرين } وقوله { ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله } .
والنفخ في الصور تقدم في قوله { وله الملك يوم ينفخ في الصور } في سورة الأنعام ( 73 ) وهو تقريب لكيفية صدور الأمر التكويني لإحياء الأموات وهو النفخة الثانية المذكورة في قوله تعالى { ثم نُفِخَ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } [ الزمر : 68 ] ، وذلك هو يوم الحساب . وأما النفخة الأولى فهي نفخة يعنى بها الإحياء ، أي نفخ الأرواح في أجسامها وهي ساعة انقضاء الحياة الدنيا فهم يصعقون ، ولهذا فرع عليه قوله { ففزع من في السموات ومن في الأرض } ، أي عقبه حصول الفزع وهو الخوف من عاقبة الحساب ومشاهدة معدات العذاب ، فكل أحد يخشى أن يكون معذباً ، فالفزع حاصل مما بعد النفخة وليس هو فزعاً من النفخة لأن الناس حين النفخة أموات .
والاستثناء مجمل يبينه قوله تعالى بعد { من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ ءامنون } [ النمل : 89 ] وقوله { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } إلى قوله { لا يحزنهم الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 101 103 ] وذلك بأن يبادرهم الملائكة بالبشارة . قال تعالى { وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون } [ الأنبياء : 103 ] وقال { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } [ يونس : 64 ] .
وجيء بصيغة الماضي في قوله { ففزع } مع أن النفخ مستقبل ، للإشعار بتحقق الفزع وأنه واقع لا محالة كقوله { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] لأن المضي يستلزم التحقق فصيغة الماضي كناية عن التحقق ، وقرينة الاستقبال ظاهرة من المضارع في قوله { ينفخ } .
والداخرون : الصاغرون . أي الأذلاء ، يقال : دَخِرَ بوزن منع وفرِح والمصدر الدخر بالتحريك والدخور .
وضمير الغيبة الظاهر في { ءاتوه } عائد إلى اسم الجلالة ، والإتيان إلى الله الإحضار في مكان قضائه ويجوز أن يعود الضمير على { يوم ينفخ في الصور } على تقدير : ءاتون فيه والمضاف إليه ( كل ) المعوض عنه التنوين ، تقديره : من فزع ممن في السموات والأرض آتوه داخرين . وأما من استثنى الله بأنه شاء أن لا يفزعوا فهم لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة .
وقرأ الجمهور { آتوه } بصيغة اسم الفاعل من أتى . وقرأ حمزة وحفص { أتوه } بصيغة فعل الماضي فهو كقوله { ففزع } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.