ثم قال تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }
يخبر تعالى محتجا على النصارى الزاعمين بعيسى عليه السلام ما ليس له بحق ، بغير برهان ولا شبهة ، بل بزعمهم أنه ليس له والد استحق بذلك أن يكون ابن الله أو شريكا لله في الربوبية ، وهذا ليس بشبهة فضلا أن يكون حجة ، لأن خلقه كذلك من آيات الله الدالة على تفرد الله بالخلق والتدبير وأن جميع الأسباب طوع مشيئته وتبع لإرادته ، فهو على نقيض قولهم أدل ، وعلى أن أحدا لا يستحق المشاركة لله بوجه من الوجوه أولى ، ومع هذا فآدم عليه السلام خلقه الله من تراب لا من أب ولا أم ، فإذا كان ذلك لا يوجب لآدم ما زعمه النصارى في المسيح ، فالمسيح المخلوق من أم بلا أب من باب أولى وأحرى ، فإن صح ادعاء البنوة والإلهية في المسيح ، فادعاؤها في آدم من باب أولى وأحرى ، فلهذا قال تعالى { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون .
وذكر ابن عباس وقتادة وعكرمة والسدي وغيرهم ، قالوا سبب نزول قوله تعالى : { إن مثل عيسى } الآية أن وفد نصارى نجران جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى ، وقالوا بلغنا أنك تشتم صاحبنا وتقول هو عبد ، فقال النبي عليه السلام ، وما يضر ذلك عيسى ، أجل هو عبد الله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، فقالوا فهل رأيت بشراً قط جاء من غير فحل أو سمعت به ؟ وخرجوا من عند النبي فأنزل الله عليه هذه الآية{[3209]} . قوله تعالى { إن مثل } عبر عنه بعض الناس ، بأن صفة عيسى وقرنوا ذلك بقوله تعالى : { مثل الجنة }{[3210]} قالوا : معناه صفة الجنة .
قال الإمام أبو محمد : وهذا عندي ضعف في فهم معنى الكلام وإنما المعنى : «أن المثل » الذي تتصوره النفوس والعقول من عيسى هو كالمتصور من آدم إذ الناس كلهم مجمعون على أن الله تعالى خلقه من تراب من غير فحل ، وكذلك مثل الجنة عبارة عن المتصور منها ، وفي هذه الآية صحة القياس ، أي إذا تصوروا أمر آدم قيس عليه جواز أمر عيسى عليه السلام والكاف في قوله : { كمثل } اسم على ما ذكرناه من المعنى وقوله { عند الله } عبارة عن الحق في نفسه ، أي هكذا هو الأمر فيما غاب عنكم ، وقوله : { خلقه من تراب } تفسير لمثل آدم ، الذي ينبغي أن يتصور ، والمثل والمثال بمعنى واحد ، ولا يجوز أن يكون { خلقه } صلة لآدم ولا حالاً منه ، قال الزجاج : إذ الماضي لا يكون حالاً أنت فيها بل هو كلام مقطوع منه ، مضمنه تفسير المثل ، قوله عز وجل : { ثم قال } ترتيب للأخبار لمحمد عليه السلام ، المعنى خلقه من تراب ثم كان من أمره في الأزل أن قال له { كن } وقت كذا ، وعلى مذهب أبي علي الفارسي ، في أن القول مجازي ، مثل } وقال قطني{ {[3211]} ، وأن هذه الآية عبارة عن التكوين ، ف { ثم } على بابها في ترتيب الأمرين المذكورين ، وقراءة الجمهور «فيكونُ » ، بالرفع على معنى فهو يكون ، وقرأ ابن عامر «فيكونَ » بالنصب ، وهي قراءة ضعيفة الوجه ، وقد تقدم توجيهها آنفاً في مخاطبة مريم .
استئناف بياني : بُيّن به مَا نشأ من الأوهام ، عند النصارى ، عن وصف عيسى بأنه كلمة من الله ، فَضلوا بتوهمهم أنه ليس خالص الناسوت . وهذا شروع في إبطال عقيدة النصارى من تألِيهِ عيسى ، وردّ مطاعنهم في الإسلام وهو أقطع دليل بطريق الإلزام ؛ لأنهم قالوا بإلاهية عيسى من أجل أنه خلق بكلمةٍ من الله وليس له أب ، فقالوا : هو ابن الله ، فأراهم الله أنّ آدم أوْلَى بأن يُدّعَى له ذلك ، فإذا لم يكن آدم إلاهاً مع أنه خلق بدون أبوين فعيسى أولى بالمخلوقية من آدمَ .
ومحل التمثيل كون كليهما خُلق من دون أب ، ويزيد آدمُ بكونه من دون أم أيضاً ، فلذلك احتيج إلى ذكر وجه الشبه بقوله : { خلقه من تراب } الآية أي خلقه دون أب ولا أم بل بكلمة كن ، مع بيان كونه أقوى في المشبه به على ما هو الغالب . وإنما قال عند الله أي نسبته إلى الله لا يزيد على آدم شيئاً في كونه خلْقاً غيرَ معتاد ، لكم لأنهم جعلوا خلقه العجيب موجباً للمسيحَ نسبةَ خاصة عند الله وهي البُنوة . وقال ابن عطية : أراد بقوله : { عند الله } نفس الأمر والواقع .
والضمير في خلقه لآدم لا لعيسى ؛ إذ قد علِم الكلُّ أنّ عيسى لم يُخلق من تراب ، فمحل التشبيه قوله : { ثم قال له كن فيكون } .
وجملة { خلقه } وما عطف عليها مُبيِّنة لجملة كمثل آدم .
وثم للتراخي الرتبي فإنّ تكوينه بأمر { كن } أرفع رتبة من خلقه من تراب ، وهو أسبق في الوجود والتّكوين المشار إليه بكن : هو تكوينه على الصفة المقصودة ، ولذلك لم يقل : كَوّنه من تراب ولم يقل : قال له كُن من تراب ثم أحياه ، بل قال خلقه ثم قال له كن . وقول كن تعبير عن تعلق القدرة بتكوينه حياً ذا روح ليعلم السامعون أنّ التكوين ليس بصنع يد ، ولا نحتٍ بآلة ، ولكنه بإرادةٍ وتَعَلقِ قدرةٍ وتسخيرِ الكائنات التي لها أثر في تكوين المراد ، حتى تلتئم وتندفع إلى إظهار المكوّن وكلّ ذلك عن توجه الإرادة بالتنجيز ، فبتلك الكلمة كان آدمُ أيضاً كلمةً من الله ولكنه لم يوصف بذلك لأنّه لم يقع احتياج إلى ذلك لِفوات زمانه .
وإنما قال : { فيكون } ولم يقل فكَان لاستحضار صورة تَكَوُّنِه ، ولا يحمل المضارع في مثل هذا إلاّ على هذا المعنى ، مثل قوله : { اللَّهُ الذي أرسل الرياح فتثير سَحاباً } [ فاطر : 9 ] وحمله على غير هذا هنا لا وجه له .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.