{ 15 - 21 } { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ }
سبأ قبيلة معروفة في أداني اليمن ، ومسكنهم بلدة يقال لها " مأرب " ومن نعم اللّه ولطفه بالناس عموما ، وبالعرب خصوصا ، أنه قص في القرآن أخبار المهلكين والمعاقبين ، ممن كان يجاور العرب ، ويشاهد آثاره ، ويتناقل الناس أخباره ، ليكون ذلك أدعى إلى التصديق ، وأقرب للموعظة فقال : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ } أي : محلهم الذي يسكنون فيه { آيَةٌ } والآية هنا : ما أدرَّ اللّه عليهم من النعم ، وصرف عنهم من النقم ، الذي يقتضي ذلك منهم ، أن يعبدوا اللّه ويشكروه . ثم فسر الآية بقوله { جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ } وكان لهم واد عظيم ، تأتيه سيول كثيرة ، وكانوا بنوا سدا محكما ، يكون مجمعا للماء ، فكانت السيول تأتيه ، فيجتمع هناك ماء عظيم ، فيفرقونه على بساتينهم ، التي عن يمين ذلك الوادي وشماله . وتُغِلُّ لهم تلك الجنتان العظيمتان ، من الثمار ما يكفيهم ، ويحصل لهم به الغبطة والسرور ، فأمرهم اللّه بشكر نعمه التي أدرَّها عليهم من وجوه كثيرة ، منها : هاتان الجنتان اللتان غالب أقواتهم منهما .
ومنها : أن اللّه جعل بلدهم ، بلدة طيبة ، لحسن هوائها ، وقلة وخمها ، وحصول الرزق الرغد فيها .
ومنها : أن اللّه تعالى وعدهم - إن شكروه - أن يغفر لهم وَيرحمهم ، ولهذا قال : { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ }
ومنها : أن اللّه لما علم احتياجهم في تجارتهم ومكاسبهم إلى الأرض المباركة ، - الظاهر أنها : [ قرى صنعاء قاله غير واحد من السلف ، وقيل : إنها ] الشام - هيأ لهم من الأسباب ما به يتيسر وصولهم إليها ، بغاية السهولة ، من الأمن ، وعدم الخوف ، وتواصل القرى بينهم وبينها ، بحيث لا يكون عليهم مشقة ، بحمل الزاد والمزاد .
ولهذا قال : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ } أي : [ سيرا ] مقدرا يعرفونه ، ويحكمون عليه ، بحيث لا يتيهون عنه { لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ } أي : مطمئنين في السير ، في تلك الليالي والأيام ، غير خائفين . وهذا من تمام نعمة اللّه عليهم ، أن أمنهم من الخوف .
هذا مثل لقريش بقوم أنعم الله عليهم وأرسل إليهم الرسل فكفروا وعصوا ، فانتقم الله منهم ، أي فأنتم أيها القوم مثلهم و { سبأ } هنا أراد به القبيل ، واختلف لم سمي القبيل بذلك ، فقالت فرقة هو اسم لامرأة كانت أماً للقبيل ، وقال الحسن بن أبي الحسن في كتاب الرماني هو اسم موضع فسمي القبيل به وقال الجمهور هو اسم رجل هو أبو القبيل كله قيل هو ابن يشجب بن يعرب ، وروي في هذا القول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله فروة بن مسيك{[9627]} عن { سبأ } فقال : هو اسم رجل منه تناسلت قبائل اليمن{[9628]} .
وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر وشيبة والأعرج «لسبإ » بهمزة منونة مكسورة على معنى الحي ، وقرأ أبو عمرو والحسن «لسبأ » بهمزة مفتوحة غير مصروف على معنى القبيلة ، وقرأ جمهور القراء «في مساكنهم » لأن كل أحد له مسكن ، وقرأ الكسائي وحده «في مسكِنهم » بكسر الكاف أي في موضع سكناهم وهي قراءة الأعمش وعلقمة ، قال أبو علي والفتح حسن أيضاً لكن هذا كما قالوا مسجد وإن كان سيبويه يرى هذا اسم البيت وليس موضع السجود . قال هي لغة الناس اليوم ، والفتح هي لغة الحجاز وهي اليوم قليلة ، وقرأ حمزة وحفص «مسكَنهم » بفتح الكاف على المصدر وهو اسم جنس يراد به الجمع ، وهي قراءة إبراهيم النخعي وهذا الإفراد هو كما قال الشاعر : [ الوافر ]
قد عض أعناقهم جلد الجواميس{[9629]} . . .
و{ آية } معناها عبرة وعلامة على فضل الله وقدرته ، و { جنتان } ابتداء وخبره في قوله عن { يمين وشمال }{[9630]} أو خبر ابتداء تقديره هي جنتان ، وهي جملة بمعنى هذه حالهم والبدل من { آية } ضعيف ، وقد قاله مكي وغيره ، وقرأ ابن أبي عبلة «آية جنتين » بالنصب ، وروي أنه كان في ناحية اليمن واد عظيم بين جبلين وكانت جنتا الوادي منبت فواكه وزروع وكان قد بني في رأس الوادي عند أول الجبلين جسر عظيم من حجارة من الجبل إلى الجبل فارتدع الماء فيه وصار بحيرة عظيمة ، وأخذ الماء من جنبتيها فمشى مرتفعاً يسقي جنات جنتي الوادي ، قيل بنته بلقيس ، وقيل بناه حمير أبو القبائل اليمينة كلها ، وكانوا بهذه الحال في أرغد نعم ، وكانت لهم بعد ذلك قرى ظاهرة متصلة من اليمن إلى الشام ، وكانوا أرباب تلك البلاد في ذلك الزمان ، وقوله { كلوا } فيه حذف كأنه قال قيل لهم كلوا ، و { طيبة } معناه كريمة التربة حسنة الهواء رغدة من النعم سليمة من الهوام والمضار هذه عبارات المفسرين ، وكان ذلك الوادي فيما روي عن عبد الرحمن بن عوف لا يدخله برغوث لا قملة ولا بعوضة ولا عقرب ولا شيء من الحيوان الضار ، وإذا جاء به أحد من سفر سقط عند أول الوادي ، وروي أن الماشي بمكتل{[9631]} فوق رأسه بين أشجاره يمتلي مكتله دون أن يمد يداً ، وروي أن هذه المقالة من الأمر بالأكل والشرب والتوقيف على طيب البلدة وغفران الرب مع الإيمان به هو من قيل الأنبياء لهم ، وقرأ رؤيس عن يعقوب «بلدةً طيبةً ورباً غفوراً » بالنصب في الكل .
جرَّ خبرُ سليمان عليه السلام إلى ذكر سبأ لما بين مُلك سليمان وبين مملكة سبأ من الاتصال بسبب قصة « بلقيس » ، ولأن في حال أهل سبأ مضادة لأحوال داود وسليمان ، إذ كان هذان مثلاً في إسباغ النعمة على الشاكرين ، وكان أولئك مثلاً لسلب النعمة عن الكافرين ، وفيهم موعظة للمشركين إذ كانوا في بحبوحة من النعمة فلما جاءهم رسول من المُنعِم عليهم يذكرهم بربهم ويوقظهم بأنهم خاطئون إذ عبدوا غيره ، كذّبوه وأعرضوا عن النظر في دلالة تلك النعمة على المنعِم المتفرد بالإلهية .
وقال ابن عطية عند الكلام على قوله تعالى : { ولقد آتينا داود منا فضلاً } [ سبأ : 10 ] « لمّا فرغ التمثيل لمحمد صلى الله عليه وسلم رجع التمثيل لهم ( أي للمشركين أي لحالهم ) بسبإ وما كان من هلاكهم بالكفر والعتوّ » اهـ . فهذه القصة تمثيل أمة بأمة ، وبلاد بأخرى ، وذلك من قياس وعبرِه . وهي فائدة تدوين التاريخ وتقلبات الأمم كما قال تعالى : { ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم اللَّه فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون } [ النحل : 112 ، 113 ] فسوَق هذه القصة تعريض بأشباه سبأ . والمعنى : لقد كان لسبأ في حال مساكنهم ونظام بلادهم آية . والآية هنا : الأمارة والدلالة بتبدل الأحوال وتقلب الأزمان ، فهي آية على تصرف الله ونعمته عليهم فلم يهتدوا بتلك الآية فأشركوا به ، وقد كان في إنعامه عليهم ما هو دليل على وجوده ثم على وحدانيته .
والتأكيد بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المخاطبين بالتعريض بهذه القصة منزلةَ من يتردد في ذلك لعدم اتعاظهم بحال قوم من أهل بلادهم ، وتجريد { كان } من تأنيث الفعل لأن اسمها غير حقيقي للتأنيث ولوقوع الفصل بالمجرور .
واللام في { لسبأ } متعلق ب { آية } . والمساكن : البلاد التي يسكنونها بقرينة قوله : { جنتان عن يمين وشمال } والمساكن : ديار السكنى . وتقدم الكلام على سبأ عند قوله : { وجئتك من سبأ } في سورة النمل ( 22 ) .
واسم سبأ يطلق على الأمة كما هنا وعلى بلادهم كما في آية النمل وتقدم تفصيله .
وقرأ الجمهور { في مساكنهم } بصيغة جمع مسكن . وقرأه حمزة والكسائي وحفص وخلف بلفظ المفرد { في مسكنهم } إلا أن حمزة وحفصاً فتَحَا الكاف ، والكسائي وخلف كسرا الكاف وهو خارج عن القياس لأنه مضارع غير مكسور العين فحق اسم المكان منه فتح العين . وشذ نحو قولهم : مسجد لبيت الصلاة .
و { جنتان } بدل من { آية } باعتبار تكملته بما اتصل به من المتعلق والقول المقدر .
و { جنتان } تشبيه بليغ ، أي في مساكنهم شبيه جنتين في أنه مغترس أشجاراً ذاتتِ ثمر متصل بعضها ببعض مثل ما يعرف من حال الجنات ، وتثنية جنتين باعتبار أن ما على يمين السَّائر كجنة ، وما على يسَاره كجنة .
وقيل : كان لكل رجل منهم في مَسكنه ، أي داره جنتان جنة عن يمين المسكن وجنة عن شماله فكانوا يتفيؤون ظِلالهما في الصباح والمساء ويجتنون ثمارهما من نخيل وأعناب وغيرها ، فيكون معنى التركيب على التوزيع ، أي : لكل مسكن جنتان ، كقولهم : ركِب القومُ دوابهم ، وهذا مناسب لقوله : { في مساكنهم } دون أن يقول في بلادهم ، أو ديارهم ، ويجوز أن يكون المراد أن مدينتهم وهي مأرب كانت محفوفة على يمينها وشمالها بغابة من الجنات يصطافون فيها ويستثمروها مثل غوطة دمشق ، وهذا يناسب قوله بعدُ { وبدلناهم بجنتيهم جنتين } [ سبأ : 16 ] لأن ظاهره أن المبدل به جنتان اثنتان ، إلا أن تجعله على التوزيع من مقابلة المتعدد بالمتعدد .
والمعنى : أنهم كانوا أهل جنّات مغروسة أشجاراً مثمرة وأعناباً .
وكانت مدينتهم مأرب ( بهمزة ساكنة بعد الميم ) وهي بين صنعاء وحضرموت ، قبل ، كان السائر في طرائقها لو وضع على رأسه مكتلاً لوجده قد ملىء ثماراً مما يسقط من الأشجار التي يسير تحتها . ولعل في هذا القول شيئاً من المبالغة إلا أنها تؤذن بوفرة . وكان ذلك بسبب تدبير ألهمهم الله إياه في اختزان المياه النازلة في مواسم المطر بما بنوا من السد العظيم في مأرب .
وجملة { كلوا من رزق ربكم } مقول قول إما من دلالة لسان الحال كما في قوله :
وإما أُبلغوه على ألسنة أنبياء بعثوا منهم ، قيل : بعث فيهم اثنا عشر نبيئاً ، أي مثل تُبع أسعد ، فقد نقل أنه كان نبيئاً كما أشار إليه قوله تعالى : { وقوم تبع } [ ق : 14 ] أو غيره ، قال تعالى : { منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } [ غافر : 78 ] ، أو من غيرهم مما قاله سليمان بلقيس أو مما قاله الصالحون من رسل سليمان إلى سبأ ، وفي جعل { جنتان } في نظم الكلام بدلاً عن آية كناية عن طيب تربة بلادهم . قيل : كانوا يزرعون ثلاث مرات في كل عام .
والطيِّبة : الحسنة في جنسها الملائمة لمزاولها ومستثمرها قال تعالى : { وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف } [ يونس : 22 ] وقال : { فلنحيينه حياة طيبة } [ النحل : 97 ] وقال : { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } [ الأعراف : 58 ] وقال : { رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } [ آل عمران : 38 ] . وفي حديث أبي طلحة في صدقته بحائط ( بئرحاء ) : « وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب » . والطيّب ضد الخبيث قال تعالى : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } [ النساء : 2 ] وقال : { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } [ الأعراف : 157 ] .
واشتقاقه من الطِيب بكسر الطاء بوزن فِعْل وهو الشيء الذي تعبق منه رائحة لذيذة .
وجملة { بلدة طيبة } من تمام القول وهي مستأنفة في الكلام المقول ، أي بلدةٌ لكم طيبة ، وتنكير { بلدة } للتعظيم . و { بلدة } مبتدأ و { طيبة } نعت ل { بلدة } ، وخبره محذوف ، تقديره : لكم ، وعُدل عن إضافة { بلدة } إلى ضميرهم لتكون الجملة خفيفة على اللسان فتكون بمنزلة المثَل .
وجملة { ورب غفور } عطف على جملة { بلدة طيبة } .
وتنكير { رب } للتعظيم . وهو مبتدأ محذوف الخبر على وزان { بلدة طيبة } ، والتقدير : ورب لكم ، أي ربكم غفور .
والعدول عن إضافة { رب } لضمير المخاطبين إلى تنكير { رب } وتقديرِ لام الاختصاص لقصد تشريفهم بهذا الاختصاص ولتكون الجملة على وزان التي قبلها طلباً للتخفيف ولتحصل المزاوجة بين الفقرتين فتسيرا مسير المثل .
ومعنى { غفور } : متجاوز عنكم ، أي عن كفرهم الذي كانوا عليه قبل إيمان ( بلقيس ) بدين سليمان عليه السلام ، ولا يُعلم مقدار مدة بقائهم على الإِيمان .