تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا} (49)

{ 49 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا }

يخبر تعالى المؤمنين ، أنهم إذا نكحوا المؤمنات ، ثم طلقوهن من قبل أن يمسوهن ، فليس عليهن في ذلك ، عدة يعتدها{[711]}  أزواجهن عليهن ، وأمرهم بتمتيعهن{[712]}  بهذه الحالة ، بشيء من متاع الدنيا ، الذي يكون فيه جبر لخواطرهن ، لأجل فراقهن ، وأن يفارقوهن فراقًا جميلاً ، من غير مخاصمة ، ولا مشاتمة ، ولا مطالبة ، ولا غير ذلك .

ويستدل بهذه الآية ، على أن الطلاق ، لا يكون إلا بعد النكاح . فلو طلقها قبل أن ينكحها ، أو علق طلاقها على نكاحها ، لم يقع ، لقوله : { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } فجعل الطلاق بعد النكاح ، فدل على أنه قبل ذلك ، لا محل له .

وإذا كان الطلاق الذي هو فرقة تامة ، وتحريم تام ، لا يقع قبل النكاح ، فالتحريم الناقص ، لظهار ، أو إيلاء ونحوه ، من باب أولى وأحرى ، أن لا يقع قبل النكاح ، كما هو أصح قَوْلي العلماء .

ويدل على جواز الطلاق ، لأن اللّه أخبر به عن المؤمنين ، على وجه لم يلمهم عليه ، ولم يؤنبهم ، مع تصدير الآية بخطاب المؤمنين .

وعلى جوازه قبل المسيس ، كما قال في الآية الأخرى { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ }

وعلى أن المطلقة قبل الدخول ، لا عدة عليها ، بل بمجرد طلاقها ، يجوز لها التزوج ، حيث لا مانع ، وعلى أن عليها العدة ، بعد الدخول .

وهل المراد بالدخول والمسيس ، الوطء كما هو مجمع عليه ؟ أو وكذلك الخلوة ، ولو لم يحصل معها وطء ، كما أفتى بذلك الخلفاء الراشدون ، وهو الصحيح . فمن دخل عليها ، وطئها ، أم لا ، إذا خلا بها ، وجب عليها العدة .

وعلى أن المطلقة قبل المسيس ، تمتع على الموسع قدره ، وعلى المقتر قدره ، ولكن هذا ، إذا لم يفرض لها مهر ، فإن كان لها مهر مفروض ، فإنه إذا طلق قبل الدخول ، تَنَصَّف المهر ، وكفى عن المتعة ، وعلى أنه ينبغي لمن فارق زوجته قبل الدخول أو بعده ، أن يكون الفراق جميلاً ، يحمد فيه كل منهما الآخر .

ولا يكون غير جميل ، فإن في ذلك ، من الشر المرتب عليه ، من قدح كل منهما بالآخر ، شيء كثير .

وعلى أن العدة حق للزوج ، لقوله : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ } دل مفهومه ، أنه لو طلقها بعد المسيس ، كان له عليها عدة [ وعلى أن المفارقة بالوفاة ، تعتد مطلقًا ، لقوله : { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } الآية ]{[713]}

وعلى أن من عدا غير المدخول بها ، من المفارقات من الزوجات ، بموت أو حياة ، عليهن العدة .


[711]:- كذا في النسختين ولعل الصواب تعتدها.
[712]:- كذا في ب، وفي أ: بتمتعهن.
[713]:- زيادة من: ب.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا} (49)

ثم خاطب تعالى المؤمنين بحكم الزوجة تطلق قبل البناء{[9536]} ، واستدل بعض الناس بقوله { ثم طلقتموهن } وبمهلة ثم على أن الطلاق لا يكون إلا بعد نكاح ، وأن من طلق المرأة قبل نكاحها وإن عينها فإن ذلك لا يلزمه ، وقال هذا نيف على ثلاثين من صاحب وتابع وإمام ، سمى البخاري منهم اثنين وعشرين{[9537]} ، وقالت طائفة عظيمة من أهل العلم : إن طلاق المعينة الشخص أو القبيل أو البلد لازم قبل النكاح ، فمنهم مالك وجميع أصحابه وجمع عظيم من علماء الأمة ، وقرأ جمهور القراء «تمسوهن » ، وقرأ حمزة والكسائي وطلحة وابن وثاب «تماسوهن » والمعنى فيهما الجماع وهذه العدة إنما هي لاستبراء الرحم وحفظ النسب في الحمل ، فمن لم تمس فلا يلزم ذلك فيها ، وقرأ جمهور الناس «تعتدّونها » بشد الدال على وزن تفتعلونها من العدد ، وروى ابن أبي بزة عن أبي بكر «تعتدُونها » بتخفيف ضمة الدال من العدوان ، كأنه قال فما لكم عدة تلزمونها عدواناً وظلماً لهن{[9538]} ، والقراءة الأولى أشهر عن أبي بكر ، وتخفيف الدال وهم من ابن أبي بزة{[9539]} .

ثم أمر تعالى بتمتيع المطلقة قبل البناء ، واختلف الناس في المتعة ، فقال فرقة هي واجبة ، وقالت فرقة هي مندوب إليها منهم مالك وأصحابه ، وقالت فرقة المتعة للتي لم يفرض لها ونصف المهر للتي فرض لها ، وقال سعيد بن المسيب : بل المتعة كانت لجميعهن بهذه الآية ، ثم نسخت آية البقرة بالنصف لمن فرض لها ما تضمنته هذه الآية من المتعة .

وهذه الآية خصصت آيتين إحداهما ، والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء{[9540]} ، فخصصت هذه الآية من لم يدخل بها ، وكذلك خصصت من ذوات الثلاثة الأشهر ، وهن من قعدن عن المحيض{[9541]} ، ومن لم يحضن من صغر المطلقات قبل البناء ، و «السراح الجميل » هو الطلاق تتبعه عشرة حسنة وكلمة طيبة دون مشادة ولا أذى .


[9536]:يقال: بنى بزوجته وعليها: دخل بها.(المعجم الوسيط).
[9537]:سماهم البخاري في باب(لا طلاق قبل النكاح)، لكنه ذكر أربعة وعشرين اسما.
[9538]:في بعض النسخ:"فما لكم من عدة تلزمونها عدوانا وظلما وظلما لهن".
[9539]:قال أبو حيان تعقيبا على كلام ابن عطية بعد أن ذكره:"وليس بوهم؛ إذ قد نقلها عن ابن كثير ابن خالويه، وأبو الفضل الرازي في كتاب"اللوامح" في شواذ القراءات، ونقلها الرازي المذكور عن أهل مكة، وقال: هو من الاعتداد لا محالة، لكنهم كرهوا التضعيف فخففوه، فإن جعلت من الاعتداء الذي هو الظلم ضعف؛ لأن الاعتداء يتعدى بعلى"، ثم أكمل أبو حيان كلامه فقال:"وإذا كان يتعدى بعلى فيجوز أن يحذف(على) ويصل الفعل على الضمير، نحو قوله: تحن فتبدي ما بها من صبابة وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني أي: لقضى علي".وقال الزمخشري:"وقرئ(تعتدونها) مخففا، أي: تعتدون فيها، كقوله: ويوما شهدناه، والمراد بالاعتداء ما في قوله:{ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا}، ومعنى كلامه أنه لما حذف حرف الجر وصل الفعل إلى ضمير العدة، وذلك قول الشاعر:د ويوما شهدناه سليما وعامرا أي:شهدنا فيه سليما وعامرا، أما على تقدير(على) فيكون المعنى: تعتدون عليهن فيها.
[9540]:من الآية(228) من سورة(البقرة).
[9541]:وهن اللائي ذكرهن الله سبحانه وتعالى في قوله:{واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر}-من الآية(4) من سورة(الطلاق).