محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا} (49)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } أي تزوجتموهن { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } أي تجامعوهن { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } أي تستوفون عددها من إحصاء أقراء ، ولا أشهر تحصونها عليهن { فَمَتِّعُوهُنَّ } أي أعطوهن ما يستمتعن به من عرض أو عين مال { وَسَرِّحُوهُنَّ } أي خلوا سبيلهن بإخراجهن من منازلكم . إذ ليس لكم عليهن عدة { سَرَاحًا جَمِيلًا } أي من غير ضرار ولا منع حق .

تنبيه :

قال ابن كثير : هذه الآية الكريمة فيها أحكام كثيرة . منها إطلاق النكاح على العقد وحده . وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منها . وقد اختلفوا في النكاح : هل هو حقيقة في العقد وحده أو في الوطء أو فيهما على ثلاثة أقوال واستعمال القرآن إنما هو في العقد والوطء بعده ، إلا في هذه الآية . فإنه استعمل في العقد وحده لقوله تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها . وقوله تعالى { الْمُؤْمِنَاتِ } خرج مخرج الغالب . إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك ، بالإتفاق . وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما ، وابن المسيب والحسن البصري وزين العابدين ، وجماعة من السلف بهذه الآية ، على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح ، لقوله تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } فعقب النكاح بالطلاق . فدل على أنه لا يصح ولا يقع قبله . وهذا مذهب الشافعي وأحمد وطائفة كثيرة من السلف والخلف . وأيده ما روي مرفوعا {[6195]} : ( لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة . وقال الترمذي : هذا حديث حسن . وهو أحسن شيء روي في هذا الباب . وهكذا روى ابن ماجة {[6196]} عن علي والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا طلاق قبل النكاح ) .

وقوله تعالى : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } هذا أمر مجمع عليه بين العلماء ، أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها ، لا عدة عليها . فتذهب فتتزوج في فورها من شاءت . ولا يستثنى من هذا إلا المتوفى زوجها . فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشرا . وإن لم يكن دخل بها ، بالإجماع أيضا . وقوله تعالى { فمتعوهن } المتعة هنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمى ، أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمى لها . قال تعالى {[6197]} : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } وقال عز وجل{[6198]} { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ، ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف ، حقا على المحسنين } .

وعن ابن عباس : ( إن كان سمى لها صداقا ، فليس لها إلا النصف . وإن لم يكن سمى لها صداقا ، فأمتعها على قدر عسره ويسره ، وهو السراح الجميل ) . انتهى .

وعليه ، فالآية في المفوضة التي لم يسم لها . وقيل : الآية عامة . وعليه ، فقيل الأمر للوجوب ، وأنه يجب مع نصف مهر المتعة أيضا . ومنهم من قال للاستحباب ، فيستحب أن يمتعها مع الصداق بشيء .

لطيفة :

قال الرازي : وجه تعلق الآية بما قبلها ، هو أن الله تعالى في هذه السورة ، ذكر مكارم الأخلاق ، وأدب نبيه على ما ذكرناه . لكن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بما أمر به نبيه المرسل ، فكلما ذكر للنبي مكرمة ، وعلمه أدبا ، ذكر للمؤمنين ما يناسبه . فكما بدأ الله في تأديب النبي صلى الله عليه وسلم بذكر ما يتعلق بجانب الله ، بقوله {[6199]} : { يا أيها النبي اتق الله } وثنى بما يتعلق بجانب العامة بقوله {[6200]} : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا } كذلك بدأ إرشاد المؤمنين بما يتعلق بجانب الله فقال {[6201]} : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا } ثم ثنى بما يتعلق بجانب من تحت أيديهم بقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } ثم ، كما ثلث في تأديب النبي بجانب الأمة ، ثلث في حق المؤمنين بما يتعلق بجانب نبيهم ، فقال بعد هذا {[6202]} : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ } وبقوله : { يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه } . انتهى .


[6195]:أخرجه أبو داود في: 13 – كتاب الطلاق، 7 باب – في الطلاق قبل النكاح، حديث 2190.
[6196]:أخرجه البخاري في: 10 – كتاب الطلاق، 7 – باب لا طلاق قبل النكاح، حديث 2049 و 2048 (طبعتنا).
[6197]:(2 / البقرة / 237).
[6198]:(2/ البقرة / 236 )
[6199]:(33 / الأحزاب / 1).
[6200]:(33 / الأحزاب / 45).
[6201]:(33 / الأحزاب / 41).
[6202]:(33 / الأحزاب / 53).