السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا} (49)

ولما بدأ الله تعالى بتأديب النبي صلى الله عليه وسلم بذكر ما يتعلق بجانب الله تعالى بقوله تعالى : { يا أيها النبي اتق الله } وثنى بما يتعلق بجانب من هو تحت يده من أزواجه الشريفات بقوله تعالى : بعده : { يا أيها النبي قل لأزواجك } وثلث بما يتعلق بذكر العامة بقوله تعالى : { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً } وكان تعالى كلما ذكر لنبيه مكرمة وعلمه أدباً ذكر للمؤمنين ما يناسبه ، فلذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بجانب الله تعالى فقال : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً } ثم ثنى بما يتعلق بجانب من تحت أيديهم بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات } أي : عقدتم على الموصوفات بهذا الوصف الشريف المقتضى لغاية الرغبة فيهن ، وأتم الوصلة بينكم وبينهن ثم كما ثلث في تأديب النبي صلى الله عليه وسلم بجانب الأمة ثلث في حق المؤمنين بما يتعلق بهم فقال بعد هذا : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي } ( الأحزاب : 53 ) { يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلّموا تسليماً } ( الأحزاب : 56 ) فإن قيل : إذا كان هذا إرشاداً بما يتعلق بجانب منه ومن خواص المرأة فلم خص المطلقات اللاتي طلقن قبل المسيس بقوله تعالى : { ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } أي : تجامعوهن ، أطلق المس على الجماع ؛ لأنه طريق له كما سمى الخمر إثماً ؛ لأنها سببه ؟ أجيب : بأن هذا إرشاد إلى أعلى درجات المكرمات ليعلم منها ما دونها .

وبيانه : أن المرأة إذا طلقت قبل المسيس لم يحصل بينهما تأكيد العهد ، ولهذا قال تعالى في حق الممسوسة : { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً } ( النساء : 21 ) فإذا أمر الله تعالى بالتمتع والإحسان مع من لا مودة بينه وبينها فما ظنك بما حصلت المودة بالنسبة إليها بالإفضاء ، أو حصل تأكدها بحصول الولد بينهما ، وهذا كقوله تعالى : { فلا تقل لهما أف } ( الإسراء : 23 ) ولو قال : لا تضر بهما ولا تشتمهما ظن أنه حرام لمعنى يختص بالضرب أو الشتم لهما ، فأما إذا قال : { لا تقل لهما أف } لعلم منه معان كثيرة فكذلك ههنا أمر بالإحسان مع من لا مودة معها ، فعلم منه الإحسان إلى الممسوسة ، ومن لم تطلق بعد ، ومن ولدت عنده منه ، وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء وألف بعد الميم ، والباقون بفتح التاء ولا ألف بعد الميم .

ولما كانت العدة حقاً للرجال وإن كانت لا تسقط بإسقاطهم لما فيها من حق الله تعالى قال تعالى : { فما لكم عليهن من عدة } أي : أياماً يتربصن فيها بأنفسهن { تعتدونها } أي : تحصونها وتستوفونها بالإقراء وغيرها ، فتعتدونها صفة لعدة ، وتعتدونها إما من العدد ، وإما من الاعتداد ، أو تحسبونها أو تستوفون عددها من قولك : عد الدراهم فاعتدها أي : استوفى عددها نحو : كلته فاكتال ووزنته فاتزن ، فإن قيل : ما الفائدة في الاتيان بثم وحكم من طلقت على الفور بعد العقد كذلك ؟ أجيب : بأن ذلك إزاحة لما قد يتوهم أن تراخي الطلاق ريثما تمكن الإصابة كما يؤثر في النسب فيؤثر في العدة ، وظاهره يقتضي عدم وجود العدة بمجرد الخلوة ، وتخصيص المؤمنات والحكم عام للتنبيه على أن شأن المؤمن أن لا ينكح إلا مؤمنة تخيراً لنطفة المؤمن ، وفي هذه الآية دليل على أن تعليق الطلاق قبل النكاح لا يصح ؛ لأن الله تعالى رتب الطلاق بكلمة ثم وهي للتراخي حتى لو قال لأجنبية : إذا نكحتك فأنت طالق ، أو كل امرأة أتزوجها فهي طالق فنكح لا يقع الطلاق . وهو قول علي وابن مسعود وجابر ومعاذ وعائشة رضي الله تعالى عنهم ، وبه قال أهل العلم : منهم الشافعي وأحمد رضي الله تعالى عنهما . وروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال : يقع الطلاق ، وهو قول إبراهيم النخعي وأصحاب الرأي : وقال ربيعة ومالك والأوزاعي : إن عيّن امرأة يقع وإن عمم فلا يقع .

وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : كذبوا على ابن مسعود رضي الله عنه ، إن كان قالها فزلة من عالم في الرجل يقول : إن تزوجت فلانة فهي طالق ، يقول الله تعالى : { إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن } ولم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن . وروى عطاء عن جابر : لا طلاق قبل النكاح وقوله تعالى : { فمتعوهن } أي : أعطوهن ما يستمتعن به محله كما قال ابن عباس رضي الله عنه : إذا لم يكن سمى لها صداقاً وإلا فلها نصف الصداق ولا متعة لها ، وقال قتادة : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { فنصف ما فرضتم } ( البقرة : 237 ) أي : فلا متعة لها مع وجوب نصف الفرض .

واختلف في المتعة هل هي واجبة ، أو مندوبة ؟ وهي عندنا : واجبة بشروط وقد تقدم ، والكلام عليها عند قوله تعالى : { فتعالين أمتعكن } وعند بعض الأئمة أنها مندوبة ، وقال بعضهم : هي مندوبة عند استحقاقها نصف المهر ، واجبة عند عدمه ، وذهب بعضهم إلى أنها تستحق المتعة بكل حال لظاهر الآية { وسرحوهن سراحاً جميلاً } أي : خلوا سبيلهن بالمعروف من غير ضرار ، وليس لكم عليهن عدة ، وقيل : السراح الجميل أن لا يطالب بما دفعه إليها بأن يخلي لها جميع المهر .