اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا} (49)

قوله : { يا أيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات . . . } الآية وجه تعلق الآية{[43686]} بما قبلها هو أن الله تعالى ذكر في هذه السورة مكارم الأخلاق وأدب نبيه على ما تقدم والله تعالى أمر عباده المؤمنين بما أمر به نبيه فكلما ذكر لنبيّه مكرمةٌ ، وعلَّمَه أدباً ذكر للمؤمنين ما يناسبه ، ولما بدأ الله تعالى في تأديب النبي - عليه الصلاة والسلام{[43687]} - ذكر ما يتعلق بجانب الله تعالى بقوله : { يا أَيُّهَا النبي اتق الله } وثنى بما يتعلق بجانب من هو تحت يده من أزواجه بقوله : بعده { يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ } وثلث بما يتعلق بجانب العامة بقوله : { يا أيها النبي إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } كذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بما يتعلق بجانب الله فقال : { يا أيها الذين آمَنُوا اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً } ثم ثنى بما يتعلق بجانب من تحت أيديهم بقوله : { يا أيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات } ثم كما ثلث في تأديب النبي بجانب الأمة ثَلَّث في حق المؤمنين بما يتعلق بهم فقال بعد هذا : { يا أيها الذين آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبي } [ الأحزاب : 53 ] وبقوله : { يا أيها الذين آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 56 ] فإن قيل{[43688]} : إذا كان هذا إرشاداً إلى ما يتعلق بجانب من هو خواص المرء فلم خص المطلقات اللاتي طلقن قبل المسيس ؟ .

فالجواب : هذا إرشاد إلى أعلى درجات المكرمات ليعلم منها ما دونها ، وبيانه{[43689]} أن المرأة إذا طلقت قبل المسيس لم يحصل بينهما تأكد العهد ، ولهذا قال تعالى في حق المَمْسُوسَة : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِيثَاقاً غَلِيظاً } [ النساء : 21 ] فإذا أمر الله ( تعالى ){[43690]} بالتمتع والإحسان مع من لا مودة بينه وبينها فما ظنك بمن حصلت المودة بالنسبة إليها بالإفضاء أو حصل تأكدها بحصول الولد بينهما ، وهذا كقوله تعالى : { فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } [ الإسراء : 23 ] لو قال : لا تضربهما ولا تشتمهما ظن أنه حرام لمعنى مختص{[43691]} بالضرب أو الشتم ، فأما إذ قال : { لا تقل لهما أف } علم من معانٍ كثيرةٍ فكذلك ههنا لما أمرنا بالإحِسان مع من لا مودة معها علم منه الإِحسان مع الممسوسة ومن لم تطلق{[43692]} بعدُ ومن ولدت عنده منه .

قوله : «ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ » إن قيل : ما الفائدة بالإتيان «بثُمَّ » وحكم من طلقت على الفور بعد العقد كذلك ؟ فالجواب : أنه جرى على الغالب . وقال الزمخشري : نفى التوهم{[43693]} عمن عسى يتوهم تفاوت الحكم بين أن يطلقها قريبة العهد بالنكاح وبين أن يبعُدَ عهدها بالنكاح وتتراخى بها المرأة{[43694]} في حُبَالَة الزوج ثم طلّقها . قال أبو حيان{[43695]} : واستعمل «عسى » صلة لمن وهو لا يجوز . «قال شهاب الدين » يخرج{[43696]} قوله على ما خرج عليه قول الآخَر :

4097 - وَإِني لَرَامٍ نَظْرَةً قِبَلَ الَّتِي *** لَعَلِّي - وَإِنْ شَطَّتْ نَوَاهَا - أَزُورُهَا{[43697]}

وهو إضمار القول ، وفي هذه الآية دليل على أن تعليق الطلاق قبل النكاح لا يصح ، لأن الله تعالى رتب الطلاق على النكاح بكلمة «ثم » وهي للتراخي حتى ( و ) لو{[43698]} قال لأجنبية : إِذَا نَكَحْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أو كل امرأة أتزوجها فهي طالق فنكح ، لا يقع الطلاق ، وهو قول عَلِيٍّ ، وابنِ مسعود ، وجابر ، ومعاذٍ ، وعائشةَ . وبه قال سعيد بن المسيب ، وعُرْوَةُ ، وشُرَيْحٌ ، وسعيد بنُ جبير ، والقاسمُ ، وطاوسٌ والحسنُ ، وعكرمةُ ، وعطاءُ بن يَسَارِ ، والشّعبيُّ ، وقتادةُ ، وأكثر أهل العلم . وبه قال الشافعيُّ ، وأحمدُ{[43699]} . وروي عن ابن مسعود أنه قال : يقع الطلاق وهو قول إبراهيم النَّخَعِيِّ وأصحابِ الرأي{[43700]} ، وقال ربيعةُ ومالكٌ والأوزاعِيُّ : إن عين امرأةً يقع ، وإن عم فلا يقع ، وروى عكرمة عن ابن عباس قال : كذبوا على ابن مسعود إن كان قالها فزلة من عالم في الرجل يقول : إن تزوجت فلانة{[43701]} فهي طالق ، يقول الله تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } ولم يقل : «إِذَا طَلَقْتُمُوهنَّ ثُمَّ نَكَحْتُمُوهُنَّ »{[43702]} وروى عطاء عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لاَ طَلاَقَ قَبْلَ النِّكَاحِ »{[43703]} .

قوله : { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } تجامعوهن { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } أي تحصونها وتستوفونها بالأقراء والأشهر ، «فتعتدونها » صفة «لعدة » وتعتدونها تفتعلونها إما من العَدَد ، وإما من الاعْتِدَادِ أي تحتسبونها أو{[43704]} تستوفون عددها من قولك : عَدَّ الدَّرَاهِمَ فَاعْتَدَّهَا أي استوفى عددها ، نحو : كِلْتُهُ فَاكْتَالَهُ ، ووَزنتهُ فاتَّزَنَهُ{[43705]} ، وقرأ ابن كثير - في رواية - وأهل مكة بتخفيف الدال{[43706]} وفيها وجهان :

أحدهما : أنها من الاعتداد وإنما كرهوا تضعيفه فخفَّفوه ؛ قاله الرازي{[43707]} ، قال : ولو كان من الاعتداء الذي هو الظلم لضعف ، لأن الاعتداء يتعدى{[43708]} «بعلى » . قيل : ويجوز أن يكون من الاعتداء{[43709]} وحذف حرف الجر أي تَعْتَدُونَ عَلَيْهَا أي على العدة مجازاً ، ثم تعتدونها كقوله :

4098 - تَحِنُّ فَتُبْدِي مَا بِهَا مِنْ صَبَابَةٍ *** وَأُخْفِي الَّذِي لَوْلاَ الأَسَى لَقَضَانِي{[43710]}

أي لقَضَى عَلَيَّ ، وقال الزمخشري : وقرئ تَعْتَدُونَهَا مخففاً أي تعتدون فيها{[43711]} كقوله :

4099 - ويَوْم شَهِدْنَاهُ سُلَيْمَى وَعَامراً *** قَلِيل سِوَى الطَّعْنِ النِّهَال نَوَافِلُهْ{[43712]}

وقيل : معنى تعتدونها أي تعتدون عليهن فيها{[43713]} ، وقد أنكر ابن عطية القراءة عن ابن كثير وقال : غلط ابن أبي بزة عنه{[43714]} ، وليس كما قال .

والثاني : أنها من العدوان ( والاعتداء ){[43715]} وقد تقدم شرحه ، واعتراض أبي الفضل عليه بأنه كان ينبغي أن يتعدى «بعلى » وتقدم جوابه ، وقرأ الحسن «تعْتدونها » - بسكون العين وتشديد الدال{[43716]} - وهو جمع بين ساكنين على ( غير ){[43717]} حديهما .

فصل{[43718]} :

دلت هذه الآية على أن العدة حق الزوج فيها غالب وإن كان لا يَسْقُطُ بإسقاطه ؛ لما فيه من حق الله تعالى .

ثم قال : «فَمَتِّعُوهُنَّ » أي أعطُوهُنَّ ما يستمتعن به قال ابن عباس{[43719]} : هذا إذا لم يكن سمى لها صداقاً فلها المتعة ، وإن كان فرض لها صداقاً فلها نصف الصداق ولا متعة لها ، وقال قتادة : هذه الآية منسوخة بقوله : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ البقرة : 237 ] ، قيل : إنه عام وعلى هذا فهل هو أمر وجوب أو أمر استحباب ؟ فقيل : للوجوب فتجب المتعة مع نصف المهر ، وقيل : للاستحباب فيستحب أن يمتعها مع الصداق بشيء{[43720]} ، ثم قال : { وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } أي خلوا سبيلهن بالمعروف من غير ضرار ، وقيل : السراح الجميل : أن لا يطالبها بما آتاها .


[43686]:ذكره الفخر الرازي في تفسيره 25/218 و 219.
[43687]:في "ب" صلى الله عليه وسلم.
[43688]:المرجع السابق.
[43689]:في "ب" وسيأتي وهو ما يخالف تفسير الرازي.
[43690]:ساقط من "ب".
[43691]:في "ب" يختص.
[43692]:في "ب" يطلق.
[43693]:انظر: الكشاف 3/267.
[43694]:في "ب" وتتراخى بها المدة.
[43695]:البحر المحيط 7/239.
[43696]:الدر المصون 4/394.
[43697]:البيت من بحر الطويل وهو للفرزدق. وانظر شرح الكافية 2/37 والدر المصون 4/394 والأشموني 1/163 والمغني 388 و 391 و 585 مكرراً، وشرح شواهده للسيوطي 810 والهمع 1/85 وأمالي الشجري 1/6، والخزانة 5/464-469 وليس بديوانه وإنما بديوانه: وإن شقت على أنا لها. انظر ديوانه (1/106).
[43698]:ساقط من "ب".
[43699]:وانظر في ذلك معالم التنزيل للبغوي 5/267 وتفسير الخازن 5/267 وتفسير ابن كثير 3/498 والقرطبي 14/203 وقد قال: "وقال هذا نيف على ثلاثين من صاحب وتابع وإمام سمى البخاري منهم اثنين وعشرين".
[43700]:المراجع السابقة.
[43701]:في "ب" بفلانة.
[43702]:المراجع السابقة.
[43703]:الحديث رواه الإمام البخاري باب الطلاق 3/271.
[43704]:في "ب" وتستوفون.
[43705]:قاله شهاب الدين ابن السمين في كتابه الدر المصون 4/395.
[43706]:ذكره ابن خالويه في المختصر 120 وأبو حيان في البحر 7/240 وانظر: السبعة 522 وهي من القراءات المتواترة.
[43707]:هو أبو الفضل الرازي صاحب كتاب لوامح القرآن وقد سبقت ترجمته.
[43708]:انظر: تفسير البحر المحيط لأبي حيان 7/240.
[43709]:نقل أبو حيان في البحر 7/240 هذا التوجيه عن أبي الفضل الرازي أيضاً.
[43710]:البيت من بحر الطويل وقد نسب لعروة بن خدام ولم يوجد بديوانه، والشاهد فيه "لَقَضَانِي" حيث حذف حرف الجر (على) والأصل: لقضى على، فلما حذف حرف الجر اتصل الفعل بالضمير ويمكن القول: إن الفعل "قضى" تضمن معنى "أهلك" أو "قتل" فتعدى بنفسه دون وساطة حرف الجر وعلى هذا فإن معنى "تعتدونها" أي تعتدون عليها وهذا رأي الرازي ومن حذا حذوه. وقد تقدم.
[43711]:نقله في الكشاف 3/267.
[43712]:من الطويل لأحد العَامِرِيِّينَ، وسليم وعامر وحيان من قيس بن عيلان، والطعن جمع طعنة وهي الشكة بالرمح ونحوه، والنِّهَالُ جمع ناهل، وهي الرماح المرتوية بالدم، والنوافل جمع نافلة، وهي ما زاد عن الأصل، ويقصد الشاعر بها هنا الغنائم والشاعر يريد أن يقول: لا يرضى في ذلك اليوم سوى الطعن والغنائم، والشاهد: "شهدناه" حيث نصب الفعل الضمير وهو الهاء الاتساع في ذلك والأصل: شهدنا فيه. وقد تقدم.
[43713]:البحر 7/240.
[43714]:المرجع السابق.
[43715]:زيادة من "ب".
[43716]:ذكره أبو حيان في المرجع السابق.
[43717]:ساقطة من "أ" وزيادة من "ب".
[43718]:ساقطة من "أ" وزيادة من "ب".
[43719]:ذكره القرطبي في الجامع 14/205 والبغوي والخازن في تفسيريهما 5/267 وابن الجوزي في زاد المسير 6/402.
[43720]:البغوي والخازن 5/267.