قوله : { يا أيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات . . . } الآية وجه تعلق الآية{[43686]} بما قبلها هو أن الله تعالى ذكر في هذه السورة مكارم الأخلاق وأدب نبيه على ما تقدم والله تعالى أمر عباده المؤمنين بما أمر به نبيه فكلما ذكر لنبيّه مكرمةٌ ، وعلَّمَه أدباً ذكر للمؤمنين ما يناسبه ، ولما بدأ الله تعالى في تأديب النبي - عليه الصلاة والسلام{[43687]} - ذكر ما يتعلق بجانب الله تعالى بقوله : { يا أَيُّهَا النبي اتق الله } وثنى بما يتعلق بجانب من هو تحت يده من أزواجه بقوله : بعده { يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ } وثلث بما يتعلق بجانب العامة بقوله : { يا أيها النبي إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } كذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بما يتعلق بجانب الله فقال : { يا أيها الذين آمَنُوا اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً } ثم ثنى بما يتعلق بجانب من تحت أيديهم بقوله : { يا أيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات } ثم كما ثلث في تأديب النبي بجانب الأمة ثَلَّث في حق المؤمنين بما يتعلق بهم فقال بعد هذا : { يا أيها الذين آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبي } [ الأحزاب : 53 ] وبقوله : { يا أيها الذين آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 56 ] فإن قيل{[43688]} : إذا كان هذا إرشاداً إلى ما يتعلق بجانب من هو خواص المرء فلم خص المطلقات اللاتي طلقن قبل المسيس ؟ .
فالجواب : هذا إرشاد إلى أعلى درجات المكرمات ليعلم منها ما دونها ، وبيانه{[43689]} أن المرأة إذا طلقت قبل المسيس لم يحصل بينهما تأكد العهد ، ولهذا قال تعالى في حق المَمْسُوسَة : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِيثَاقاً غَلِيظاً } [ النساء : 21 ] فإذا أمر الله ( تعالى ){[43690]} بالتمتع والإحسان مع من لا مودة بينه وبينها فما ظنك بمن حصلت المودة بالنسبة إليها بالإفضاء أو حصل تأكدها بحصول الولد بينهما ، وهذا كقوله تعالى : { فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } [ الإسراء : 23 ] لو قال : لا تضربهما ولا تشتمهما ظن أنه حرام لمعنى مختص{[43691]} بالضرب أو الشتم ، فأما إذ قال : { لا تقل لهما أف } علم من معانٍ كثيرةٍ فكذلك ههنا لما أمرنا بالإحِسان مع من لا مودة معها علم منه الإِحسان مع الممسوسة ومن لم تطلق{[43692]} بعدُ ومن ولدت عنده منه .
قوله : «ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ » إن قيل : ما الفائدة بالإتيان «بثُمَّ » وحكم من طلقت على الفور بعد العقد كذلك ؟ فالجواب : أنه جرى على الغالب . وقال الزمخشري : نفى التوهم{[43693]} عمن عسى يتوهم تفاوت الحكم بين أن يطلقها قريبة العهد بالنكاح وبين أن يبعُدَ عهدها بالنكاح وتتراخى بها المرأة{[43694]} في حُبَالَة الزوج ثم طلّقها . قال أبو حيان{[43695]} : واستعمل «عسى » صلة لمن وهو لا يجوز . «قال شهاب الدين » يخرج{[43696]} قوله على ما خرج عليه قول الآخَر :
4097 - وَإِني لَرَامٍ نَظْرَةً قِبَلَ الَّتِي *** لَعَلِّي - وَإِنْ شَطَّتْ نَوَاهَا - أَزُورُهَا{[43697]}
وهو إضمار القول ، وفي هذه الآية دليل على أن تعليق الطلاق قبل النكاح لا يصح ، لأن الله تعالى رتب الطلاق على النكاح بكلمة «ثم » وهي للتراخي حتى ( و ) لو{[43698]} قال لأجنبية : إِذَا نَكَحْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أو كل امرأة أتزوجها فهي طالق فنكح ، لا يقع الطلاق ، وهو قول عَلِيٍّ ، وابنِ مسعود ، وجابر ، ومعاذٍ ، وعائشةَ . وبه قال سعيد بن المسيب ، وعُرْوَةُ ، وشُرَيْحٌ ، وسعيد بنُ جبير ، والقاسمُ ، وطاوسٌ والحسنُ ، وعكرمةُ ، وعطاءُ بن يَسَارِ ، والشّعبيُّ ، وقتادةُ ، وأكثر أهل العلم . وبه قال الشافعيُّ ، وأحمدُ{[43699]} . وروي عن ابن مسعود أنه قال : يقع الطلاق وهو قول إبراهيم النَّخَعِيِّ وأصحابِ الرأي{[43700]} ، وقال ربيعةُ ومالكٌ والأوزاعِيُّ : إن عين امرأةً يقع ، وإن عم فلا يقع ، وروى عكرمة عن ابن عباس قال : كذبوا على ابن مسعود إن كان قالها فزلة من عالم في الرجل يقول : إن تزوجت فلانة{[43701]} فهي طالق ، يقول الله تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } ولم يقل : «إِذَا طَلَقْتُمُوهنَّ ثُمَّ نَكَحْتُمُوهُنَّ »{[43702]} وروى عطاء عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لاَ طَلاَقَ قَبْلَ النِّكَاحِ »{[43703]} .
قوله : { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } تجامعوهن { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } أي تحصونها وتستوفونها بالأقراء والأشهر ، «فتعتدونها » صفة «لعدة » وتعتدونها تفتعلونها إما من العَدَد ، وإما من الاعْتِدَادِ أي تحتسبونها أو{[43704]} تستوفون عددها من قولك : عَدَّ الدَّرَاهِمَ فَاعْتَدَّهَا أي استوفى عددها ، نحو : كِلْتُهُ فَاكْتَالَهُ ، ووَزنتهُ فاتَّزَنَهُ{[43705]} ، وقرأ ابن كثير - في رواية - وأهل مكة بتخفيف الدال{[43706]} وفيها وجهان :
أحدهما : أنها من الاعتداد وإنما كرهوا تضعيفه فخفَّفوه ؛ قاله الرازي{[43707]} ، قال : ولو كان من الاعتداء الذي هو الظلم لضعف ، لأن الاعتداء يتعدى{[43708]} «بعلى » . قيل : ويجوز أن يكون من الاعتداء{[43709]} وحذف حرف الجر أي تَعْتَدُونَ عَلَيْهَا أي على العدة مجازاً ، ثم تعتدونها كقوله :
4098 - تَحِنُّ فَتُبْدِي مَا بِهَا مِنْ صَبَابَةٍ *** وَأُخْفِي الَّذِي لَوْلاَ الأَسَى لَقَضَانِي{[43710]}
أي لقَضَى عَلَيَّ ، وقال الزمخشري : وقرئ تَعْتَدُونَهَا مخففاً أي تعتدون فيها{[43711]} كقوله :
4099 - ويَوْم شَهِدْنَاهُ سُلَيْمَى وَعَامراً *** قَلِيل سِوَى الطَّعْنِ النِّهَال نَوَافِلُهْ{[43712]}
وقيل : معنى تعتدونها أي تعتدون عليهن فيها{[43713]} ، وقد أنكر ابن عطية القراءة عن ابن كثير وقال : غلط ابن أبي بزة عنه{[43714]} ، وليس كما قال .
والثاني : أنها من العدوان ( والاعتداء ){[43715]} وقد تقدم شرحه ، واعتراض أبي الفضل عليه بأنه كان ينبغي أن يتعدى «بعلى » وتقدم جوابه ، وقرأ الحسن «تعْتدونها » - بسكون العين وتشديد الدال{[43716]} - وهو جمع بين ساكنين على ( غير ){[43717]} حديهما .
فصل{[43718]} :
دلت هذه الآية على أن العدة حق الزوج فيها غالب وإن كان لا يَسْقُطُ بإسقاطه ؛ لما فيه من حق الله تعالى .
ثم قال : «فَمَتِّعُوهُنَّ » أي أعطُوهُنَّ ما يستمتعن به قال ابن عباس{[43719]} : هذا إذا لم يكن سمى لها صداقاً فلها المتعة ، وإن كان فرض لها صداقاً فلها نصف الصداق ولا متعة لها ، وقال قتادة : هذه الآية منسوخة بقوله : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ البقرة : 237 ] ، قيل : إنه عام وعلى هذا فهل هو أمر وجوب أو أمر استحباب ؟ فقيل : للوجوب فتجب المتعة مع نصف المهر ، وقيل : للاستحباب فيستحب أن يمتعها مع الصداق بشيء{[43720]} ، ثم قال : { وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } أي خلوا سبيلهن بالمعروف من غير ضرار ، وقيل : السراح الجميل : أن لا يطالبها بما آتاها .