فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا} (49)

لما ذكر سبحانه قصة زيد وطلاقه لزينب ، وكان قد دخل بها ، وخطبها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء عدتها كما تقدّم ، خاطب المؤمنين مبيناً لهم حكم الزوجة إذا طلقها زوجها قبل الدخول فقال : { يا أيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات } أي عقدتم بهنّ عقد النكاح ، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلاّ في معنى العقد كما قاله صاحب الكشاف والقرطبي وغيرهما .

وقد اختلف في لفظ النكاح هل هو حقيقة في الوطء ، أو في العقد ، أو فيهما على طريقة الاشتراك ؟ وكلام صاحب الكشاف في هذا الموضع يشعر بأنه حقيقة في الوطء ، فإنه قال : النكاح الوطء ، وتسمية العقد نكاحاً لملابسته له من حيث أنه طريق إليه ، ونظيره تسمية الخمر إثماً ؛ لأنها سبب في اقتراف الإثم . ومعنى { مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } من قبل أن تجامعوهنّ ، فكنى عن ذلك بلفظ المس { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } وهذا مجمع عليه كما حكى ذلك القرطبي وابن كثير ، ومعنى { تعتدّونها } : تستوفون عددها ، من عددت الدراهم ، فأنا أعتدّها . وإسناد ذلك إلى الرجال للدلالة على أن العدّة حق لهم كما يفيده { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ } قرأ الجمهور : { تعتدّونها } بتشديد الدال ، وقرأ ابن كثير في رواية عنه وأهل مكة بتخفيفها . وفي هذه القراءة وجهان : أحدهما : أن تكون بمعنى الأولى ، مأخوذة من الاعتداد ، أي تستوفون عددها ، ولكنهم تركوا التضعيف لقصد التخفيف . قال الرازي : ولو كان من الاعتداء الذي هو الظلم لضعف ؛ لأن الاعتداء يتعدّى بعلى . وقيل : يجوز أن يكون من الاعتداء بحذف حرف الجرّ ، أي تعتدّون عليها ، أي على العدّة مجازاً ، ومثله قوله :

تحنّ فتبدي ما بها من صبابة *** وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني

أي لقضى عليّ . والوجه الثاني : أن يكون المعنى تعتدون فيها ، والمراد بالاعتداء هذا هو ما في قوله : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ } [ البقرة : 231 ] فيكون معنى الآية على القراءة الآخرة : فما لكم عليهنّ من عدّة تعتدّون عليهنّ فيها بالمضارة . وقد أنكر ابن عطية صحة هذه القراءة عن ابن كثير وقال : إن البزيّ غلط عليه ، وهذه الآية مخصصة لعموم قوله تعالى : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلاثة قُرُوء } [ البقرة : 228 ] وبقوله : { واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ } [ الطلاق : 4 ] . والمتعة المذكورة هنا قد تقدّم الكلام فيها في البقرة وقال سعيد بن جبير : هذه المتعة المذكورة هنا منسوخة بالآية التي في البقرة ، وهي قوله : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ البقرة : 237 ] . وقيل : المتعة هنا هي أعمّ من أن تكون نصف الصداق ، أو المتعة خاصة إن لم يكن قد سمي لها ، فمع التسمية للصداق تستحق نصف المسمى عملاً بقوله : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ البقرة : 237 ] ومع عدم التسمية تستحق المتعة عملاً بهذه الآية ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النساء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ } [ البقرة : 236 ] وهذا الجمع لا بدّ منه ، وهو مقدّم على الترجيح وعلى دعوى النسخ ، وتخصص من هذه الآية المتوفى عنها زوجها ، فإنه إذا مات بعد العقد عليها وقبل الدخول بها كان الموت كالدخول فتعتدّ أربعة أشهر وعشراً . قال ابن كثير : بالإجماع ، فيكون المخصص هو الإجماع .

وقد استدلّ بهذه الآية القائلون بأنه لا طلاق قبل النكاح ، وهم الجمهور ، وذهب مالك وأبو حنيفة إلى صحة الطلاق قبل النكاح إذا قال : إن تزوّجت فلانة فهي طالق ، فتطلق إذا تزوّجها . ووجه الاستدلال بالآية لما قاله الجمهور أنه قال : { إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } فعقب الطلاق بالنكاح بلفظ { ثم } المشعرة بالترتيب والمهلة . { وَسَرّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } أي أخرجوهنّ من منازلكم ؛ إذ ليس لكم عليهنّ عدّة . والسراح الجميل الذي لا ضرار فيه ، وقيل السراح الجميل أن لا يطالبها بما كان قد أعطاها ، وقيل : السراح الجميل هنا كناية عن الطلاق ، وهو بعيد لأنه قد تقدّم ذكر الطلاق ورتب عليه التمتيع وعطف عليه السراح الجميل ، فلا بدّ أن يراد به معنى غير الطلاق .

/خ52