{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا }
يأمر تعالى عباده المؤمنين إذا خرجوا جهادًا في سبيله وابتغاء مرضاته أن يتبينوا ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة . فإن الأمور قسمان : واضحة وغير واضحة . فالواضحة البيِّنة لا تحتاج إلى تثبت وتبين ، لأن ذلك تحصيل حاصل . وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الإنسان يحتاج إلى التثبت فيها والتبين ، ليعرف هل يقدم عليها أم لا ؟
فإن التثبت في هذه الأمور يحصل فيه من الفوائد الكثيرة ، والكف لشرور عظيمة ، ما به يعرف دين العبد وعقله ورزانته ، بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها{[224]} قبل أن يتبين له حكمها ، فإن ذلك يؤدي إلى ما لا ينبغي ، كما جرى لهؤلاء الذين عاتبهم الله في الآية لمَّا لم يتثبتوا وقتلوا من سلم عليهم ، وكان معه غنيمة له أو مال غيره ، ظنًّا أنه يستكفي بذلك قتلَهم ، وكان هذا خطأ في نفس الأمر ، فلهذا عاتبهم بقوله : { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } أي : فلا يحملنكم العرض الفاني القليل على ارتكاب ما لا ينبغي فيفوتكم ما عند الله من الثواب الجزيل الباقي ، فما عند الله خير وأبقى .
وفي هذا إشارة إلى أن العبد ينبغي له إذا رأى دواعي نفسه مائلة إلى حالة له فيها هوى وهي مضرة له ، أن يُذَكِّرها ما أعد الله لمن نهى نفسه عن هواها ، وقدَّم مرضاة الله على رضا نفسه ، فإن في ذلك ترغيبًا للنفس في امتثال أمر الله ، وإن شق ذلك عليها .
ثم قال تعالى مذكرًا لهم بحالهم الأولى ، قبل هدايتهم إلى الإسلام : { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } أي : فكما هداكم بعد ضلالكم فكذلك يهدي غيركم ، وكما أن الهداية حصلت لكم شيئًا فشيئًا ، فكذلك غيركم . فنظر الكامل لحاله الأولى الناقصة ، ومعاملته لمن كان على مثلها بمقتضى ما يعرف من حاله الأولى ، ودعاؤه له بالحكمة والموعظة الحسنة - من أكبر الأسباب لنفعه وانتفاعه ، ولهذا أعاد الأمر بالتبين فقال : { فَتَبَيَّنُوا }
فإذا كان من خرج للجهاد في سبيل الله ، ومجاهدة أعداء الله ، وقد استعد بأنواع الاستعداد للإيقاع بهم ، مأمورًا بالتبين لمن ألقى إليه السلام ، وكانت القرينة قوية في أنه إنما سلم تعوذا من القتل وخوفا على نفسه - فإن ذلك يدل على الأمر بالتبين والتثبت في كل الأحوال التي يقع فيها نوع اشتباه ، فيتثبت فيها العبد ، حتى يتضح له الأمر ويتبين الرشد والصواب .
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } فيجازي كُلًّا ما عمله ونواه ، بحسب ما علمه من أحوال عباده ونياتهم .
تقول العرب : ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيره مقترنة ب «في » ، وتقول : ضربت الأرض دون «في » إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان ، ومنه قول - النبي عليه السلام : «لا يخرج الرجلان يضربان الغائط يتحدثان كاشفين عن فرجيهما فإن الله يمقت على ذلك »{[4212]} وسبب هذه الآية : أن سرية من سرايا رسول الله لقيت رجلاً له جمل ومتيع ، وقيل غنيمة ، فسلم على القوم ، وقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فحمل عليه أحدهم فقتله ، فشق ذلك على رسول الله ونزلت الآية فيه{[4213]} .
واختلف المفسرون في تعيين القاتل والمقتول في هذه النازلة ، فالذي عليه الأكثر - وهو في سيرة ابن إسحاق وفي مصنف أبي داود وغيرهما : أن القاتل محلم بن جثامة والمقتول عامر بن الأضبط ، والحديث بكماله في المصنف لأبي دواد{[4214]} ، وفي السير وفي الاستيعاب{[4215]} ، وقالت فرقة : القاتل أسامة بن زيد ، والمقتول مرداس بن نهيك الغطفاني{[4216]} ، وقالت فرقة : القاتل أبو قتادة{[4217]} ، وقالت فرقة : القاتل غالب الليثي ، والمقتول مرداس{[4218]} ، وقالت فرقة : القاتل هو أبو الدرداء ، ولا خلاف أن الذي لفظته الأرض حين مات هو محلم بن جثامة .
وقرأ جمهور السبعة { فتبينوا } وقرأ حمزة والكسائي «فتثبتوا » بالثاء مثلثة في الموضعين وفي الحجرات ، وقال قوم : «تبينوا » أبلغ وأشد من «تثبتوا » ، لأن المتثبت قد لا يتبين ، وقال أبو عبيد : هما متقاربان .
قال القاضي أبو محمد : والصحيح ما قال أبو عبيد ، لأن تبين الرجل لا يقتضي أن الشيء بان له ، بل يقتضي محاولة اليقين ، كما أن ثبت تقتضي محاولة اليقين ، فهما سواء ، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة وابن كثير في بعض طرقه ، «السَّلَم » بتشديد السين وفتحه وفتح اللام ، ومعناه : الاستسلام أي ألقى بيده واستسلم لكم وأظهر دعوتكم ، وقرأ بقية السبعة «السلام » يريد سلم ذلك المقتول على السرية ، لأن سلامه بتحية الإسلام مؤذن بطاعته وانقياده ، ويحتمل أن يراد به الانحياز والترك ، قال الأخفش : يقال : فلان سلام إذا كان لا يخالط أحداً ، وروي في بعض طرق عاصم «السِّلْم » بكسر السين وسكون اللام وهو الصحيح ، والمعنى المراد بهذه الثلاثة يتقارب ، وقرأ الجحدري «السَّلْم » بفتح السين وسكون اللام ، والعرض : هو المتيع والجمل ، أو الغنيمة التي كانت للرجل المقتول ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وأبو حمزة واليماني «لست مؤمَناً » بفتح الميم ، أي لسنا نؤمنك في نفسك ، وقوله تعالى : { فعند الله مغانم كثيرة } عدة بما يأتي به الله على وجهه ومن حله دون ارتكاب محظور أي فلا تتهافتوا .
واختلف المتأولون في قوله تعالى : { كذلك كنتم من قبل } فقال سعيد بن جبير : معناه كنتم مستخفين من قومكم بإسلامكم ، خائفين منهم على أنفسكم ، فمنّ الله عليكم بإعزاز دينكم ، وإظهار شريعتكم ، فهم الآن كذلك ، كل واحد منهم خائف من قومه ، متربص أن يصل إليكم فلم يصلح إذا وصل أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره ، وقال ابن زيد : كذلك كنتم كفرة فمنّ الله عليكم بأن أسلمتم ، فلا تنكروا أن يكون هو كافراً ثم يسلم لحينه حين لقيكم ، فيجب أن يتثبت في أمره ، ويحتمل أن يكون المعنى إشارة بذلك إلى القتل قبل التثبت ، أي على هذه الحال كنتم في جاهليتكم لا تتثبتون ، حتى جاء الله بالإسلام ومنّ عليكم ، ثم أكد تبارك وتعالى الوصية بالتبين ، وأعلم أنه خبير بما يعمله العباد ، وذلك منه خبر يتضمن تحذيراً منه تعالى ، لأن المعنى { إن الله بما تعملون خبيراً } ، فاحفظوا نفوسكم ، وجنبوا الزلل الموبق بكم .