فلم يزل الشياطين يعملون لسليمان ، عليه الصلاة والسلام ، كل بناء ، وكانوا قد موهوا على الإنس ، وأخبروهم أنهم يعلمون الغيب ، ويطلعون على المكنونات ، فأراد اللّه تعالى أن يُرِيَ العباد كذبهم في هذه الدعوى ، فمكثوا يعملون على عملهم ، وقضى اللّه الموت على سليمان عليه السلام ، واتَّكأ على عصاه ، وهي المنسأة ، فصاروا إذا مروا به وهو متكئ عليها ، ظنوه حيا ، وهابوه .
فغدوا على عملهم كذلك سنة كاملة على ما قيل ، حتى سلطت دابة الأرض على عصاه ، فلم تزل ترعاها ، حتى باد وسقط فسقط سليمان عليه السلام وتفرقت الشياطين وتبينت الإنس أن الجن { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } وهو العمل الشاق عليهم ، فلو علموا الغيب ، لعلموا موت سليمان ، الذي هم أحرص شيء عليه ، ليسلموا مما هم فيه .
قوله تعالى : { فلما قضينا عليه الموت } أي : على سليمان . قال أهل العلم : كان سليمان عليه السلام يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين ، والشهر والشهرين ، وأقل من ذلك وأكثر . يدخل فيه طعامه وشرابه ، فأدخل في المرة التي مات فيها ، وكان بدء ذلك أنه كان لا يصبح يوماً إلا نبتت في محراب بيت المقدس شجرة ، فيسألها : ما اسمك ؟ فتقول : اسمي كذا ، فيقول : لأي شيء أنت ؟ فتقول : لكذا وكذا ، فيأمر بها فتقطع ، فإن كانت نبتت لغرس غرسها ، وإن كانت لدواء كتب ، حتى نبتت الخروبة ، فقال لها : ما أنت ؟ قالت : الخروبة ، قال : لأي شيء نبت ؟ قالت : لخراب مسجدك ، فقال سليمان : ما كان الله ليخربه وأنا حي ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس ! فنزعها وغرسها في حائط له ، ثم قال : اللهم عم على الجن موتي حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب ، وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء ويعلمون ما في غد ، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئاً على عصاه فمات قائماً وكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه ، فكانت الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملون في حياته ، وينظرون إليه يحسبون أنه حي ، ولا ينكرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته قبل ذلك ، فمكثوا يدأبون له بعد موته حولاً كاملاً حتى أكلت الأرضة عصا سليمان ، فخر ميتاً فعلموا بموته . قال ابن عباس : فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب ، فذلك قوله : { ما دلهم على موته إلا دابة الأرض } وهي الأرضة التي { تأكل منسأته } يعني : عصاه ، قرأ أهل المدينة ، وأبو عمرو : منسأته بغير همز ، وقرأ الباقون بالهمز ، وهما لغتان ، ويسكن ابن عامر الهمز ، وأصلها من : نسأت الغنم ، أي : زجرتها وسقتها ، ومنه : نسأ الله في أجله ، أي : أخره . { فلما خر } أي : سقط على الأرض ، { تبينت الجن } أي : علمت الجن وأيقنت ، { أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } أي : في التعب والشقاء مسخرين لسليمان وهو ميت يظنونه حياً ، أراد الله بذلك أن يعلم الجن أنهم لا يعلمون الغيب ، لأنهم كانوا يظنون أنهم يعلمون الغيب ، لغلبة الجهل عليهم . وذكر الأزهري : أن معناه ( تبينت الجن ) أي : ظهرت وانكشفت الجن للإنس ، أي : ظهر أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب ، لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك ، وفي قراءة ابن مسعود ، وابن عباس : تبينت الإنس أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ، أي : علمت الإنس وأيقنت ذلك . وقرأ يعقوب : تبينت بضم التاء وكسر الياء أي : أعلمت الإنس الجن ، ذكر بلفظ ما لم يسم فاعله ، وتبين لازم ومتعد . وذكر أهل التاريخ أن سليمان كان عمره ثلاثاً وخمسين سنة ، ومدة ملكه أربعون سنة ، وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وابتداء في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه .
قوله تعالى : " فلما قضينا عليه الموت " أي فلما حكمنا على سليمان بالموت حتى صار كالأمر المفروغ منه ووقع به الموت " ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته " وذلك أنه كان متكئا على المنسأة ( وهي العصا بلسان الحبشة ، في قول السدي . وقيل : هي بلغة اليمن ، ذكره القشيري ) فمات كذلك وبقي خافي الحال إلى أن سقط ميتا لانكسار العصا لأكل الأرض إياها ، فعلم موته بذلك ، فكانت الأرضة دالة على موته ، أي سببا لظهور موته ، وكان سأل الله تعالى ألا يعلموا بموته حتى تمضى عليه سنة . واختلفوا في سبب سؤاله لذلك على قولين : أحدهما ما قاله قتادة وغيره ، قال : كانت الجن تدعي علم الغيب ، فلما مات سليمان عليه السلام وخفي موته عليهم " تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب " ابن مسعود : أقام حولا والجن تعمل بين يديه حتى أكلت الأرضة منسأته فسقط . ويروى أنه لما سقط لم يعلم منذ مات ، فوضعت الأرضة على العصا فأكلت منها يوما وليلة ثم حسبوا على ذلك فوجدوه قد مات منذ سنة . وقيل : كان رؤساء الجن سبعة ، وكانوا منقادين لسليمان عليه السلام ، وكان داود عليه السلام أسس بيت المقدس فلما مات أوصى إلى سليمان في إتمام مسجد بيت المقدس ، فأمر سليمان الجن به ، فلما دنا وفاته قال لأهله : لا تخبروهم بموتي حتى يتموا بناء المسجد ، وكان بقي لإتمامه سنة . وفي الخبر أن ملك الموت كان صديقه فسأله عن آية موته فقال : أن تخرج من موضع سجودك شجرة يقال لها الخرنوبة ، فلم يكن يوم يصبح فيه إلا تنبت في بيت المقدس شجرة فيسألها : ما اسمك ؟ فتقول الشجرة : اسمي كذا وكذا ، فيقول : ولأي شيء أنت ؟ فتقول : لكذا ولكذا ، فيأمر بها فتقطع ، ويغرسها في بستان له ، ويأمر بكتب منافعها ومضارها واسمها وما تصلح له في الطب ، فبينما هو يصلي ذات يوم إذا رأى شجرة نبتت بين يديه فقال لها : ما اسمك ؟ قالت : الخرنوبة ، قال : ولأي شيء أنت ؟ قال : لخراب هذا المسجد ، فقال سليمان : ما كان الله ليخربه وأنا حي ، أنت التي على وجهك هلاكي وهلاك بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائطه ثم قال . اللهم عم عن الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب . وكانت الجن تخبر أنهم يعلمون من الغيب أشياء ، وأنهم يعلمون ما في غد ، ثم لبس كفنه وتحنط ودخل المحراب وقام يصلي واتكأ على عصاه على كرسيه ، فمات ولم تعلم الجن إلى أن مضت سنة وتم بناء المسجد . قال أبو جعفر النحاس : وهذا أحسن ما قيل في الآية ، ويدل على صحته الحديث المرفوع ، روى إبراهيم بن طهمان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كان نبي الله سليمان بن دواد عليهما السلام إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فيسألها ما اسمك ؟ فإن كانت لغرس غرست وإن كانت لدواء كتبت ، فبينما هو يصلي ذات يوم إذا شجرة نابتة بين يديه قال ما اسمك ؟ قالت : الخرنوبة . فقال : لأي شيء أنت ؟ فقالت : لخراب هذا البيت . فقال : اللهم عم الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب ، فنحتها عصا فتوكأ عليها حولا لا يعلمون فسقطت ، فعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب فنظروا مقدار ذلك فوجدوه سنة .
وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس " تبينت الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب " . وقرأ يعقوب في رواية رويس " تُبِيِّنَتِ الجنُّ " غير مسمى الفاعل . ونافع وأبو عمرو " تأكل منساته " بألف بين السين والتاء من غير همز . والباقون بهمزة مفتوحة موضع الألف لغتان ، إلا أن ابن ذكوان أسكن الهمزة تخفيفا ، قال الشاعر في ترك الهمزة :
إذا دَبَبْتَ على المِنْساةِ من كبرٍ*** فقد تباعد عنك اللَّهْوُ والغَزَلُ
ضربنا بمِنْسَأَة وجهه *** فصار بذاك مهينا ذليلا
أمن أجل حَبْل لا أباك ضربتَه *** بمنسأة قد جر حبلُك أحبُلاَ
وقائم قد قام من تُكَأْتِهْ *** كقومة الشيخ إلى مِنْسَأَتِهْ
وأصلها من : نسأت الغنم أي زجرتها وسقتها ، فسميت العصا بذلك لأنه يزجر بها الشيء ويساق . وقال طرفة :
أَمُونٍ كألواح الإران نَسَأْتَهَا *** على لاحِبٍ كأنه ظهر بُرْجُدِ{[13005]}
فسكن همزها . قال النحاس : واشتقاقها يدل على أنها مهموزة ؛ لأنها مشتقة من نسأته أي أخرته ودفعته فقيل لها منسأة لأنها يدفع بها الشيء ويؤخر . وقال مجاهد وعكرمة : هي العصا ، ثم قرأ " منساته " أبدل من الهمزة ألفا ، فإن قيل : البدل من الهمزة قبيح جدا وإنما يجوز في الشعر على بعد وشذوذ ، وأبو عمرو بن العلاء لا يغيب عنه مثل هذا لا سيما وأهل المدينة على هذه القراءة . فالجواب على هذا أن العرب استعملت في هذه الكلمة البدل ونطقوا بها هكذا كما يقع البدل في غير هذا ولا يقاس عليه حتى قال أبو عمرو : ولست أدري ممن هو إلا أنها غير مهموزة ؛ لأنها لأن ما كان مهموزا فقد يترك همزه وما لم يكن مهموزا لم يجز همزه بوجه . المهدوي : ومن قرأ بهمزة ساكنة فهو شاذ بعيد ؛ لأن هاء التأنيث لا يكون ما قبلها إلا متحركا أو ألفا ، لكنه يجوز أن يكون ما سكن من المفتوح استخفافا ، ويجوز أن يكون لما أبدل الهمزة ألفا على غير قياس قلب الألف همزة كما قلبوها في قولهم العألم والخأتم ، وروي عن سعيد بن جبير " من " مفصولة " سأته " مهموزة مكسورة التاء . فقيل : إنه من سئة القوس في لغة من همزها ، وقد روي همز سية القوس عن رؤبة . قال الجوهري : سية القوس ما عطف من طرفيها ، والجمع سيات ، والهاء عوض عن الواو ، والنسبة إليها سيوي . قال أبو عبيدة : كان رؤبة يهمز " سية القوس " وسائر العرب لا يهمزونها .
وفي دابة الأرض قولان : أحدهما : أنها أرضة . قاله ابن عباس ومجاهد وغيرهما . وقد قرئ " دابة الأرض " بفتح الراء ، وهو جمع{[13006]} الأرضة . ذكره الماوردي . الثاني : أنها دابة تأكل العيدان . قال الجوهري : والأرضة ( بالتحريك ) : دويبة تأكل الخشب . يقال : أرضت الخشبة تُؤرض أرضا ( بالتسكين ) فهي مأروضة إذا أكلتها .
قوله تعالى : " فلما خر " أي سقط " تبينت الجن " قال الزجاج : أي تبينت الجن موته . وقال غيره : المعنى تبين أمر الجن . مثل : " واسأل القرية " [ يوسف : 82 ] . وفي التفسير - بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس قال : أقام سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام حولا لا يعلم بموته وهو متكئ على عصاه ، والجن منصرفة فيما كان أمرها به ، ثم سقط بعد حول . فلما خر تبينت الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين . وهذه القراءة من ابن عباس على جهة التفسير . وفي الخبر : أن الجن شكرت ذلك للأرضة ، فأينما كانت يأتونها بالماء . قال السدي : والطين ، ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب فإنه مما يأتيها{[13007]} به الشياطين شكرا . وقالت : لو كنت تأكلين الطعام والشراب لأتيناك بهما . و " أن " في موضع رفع على البدل من الجن ، والتقدير : تبين أمر الجن ، فحذف المضاف ، أي تبين وظهر للإنس وانكشف لهم أمر الجن أنهم لا يعلمون الغيب . وهذا بدل الاشتمال . ويجوز أن تكون في موضع نصب على تقدير حذف اللام . " ما لبثوا " أقاموا . " في العذاب المهين " السخرة والحمل والبنيان وغير ذلك .
وعمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة ، ومدة ملكه أربعون سنة ، فملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وابتدأ في بنيان بيت المقدس وهو ابن سبع عشره سنة . وقال السدي وغيره : كان عمر سليمان سبعا وستين سنة ، وملك وهو ابن سبع عشرة سنة . وابتدأ في بنيان بيت المقدس وهو ابن عشرين سنة ، وكان ملكه خمسين سنة . وحكي أن سليمان عليه السلام ابتدأ بنيان بيت المقدس في السنة الرابعة من ملكه ، وقرب بعد فراغه منه اثني عشر ألف ثور ومائة وعشرين ألف شاة ، واتخذ اليوم الذي فرغ فيه من بنائه عيدا ، وقام على الصخرة رافعا يديه إلى الله تعالى بالدعاء فقال : اللهم أنت وهبت لي هذا السلطان وقويتني على بناء هذا المسجد ، اللهم فأوزعني شكرك على ما أنعمت علي وتوفني على ملتك ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ، اللهم إني أسألك لمن دخل هذا المسجد خمس خصال : لا يدخله مذنب دخل ، للتوبة إلا غفرت له وتبت عليه . ولا خائف إلا أمنته . ولا سقيم إلا شفيته . ولا فقير إلا أغنيته . والخامسة : ألا تصرف نظرك عمن دخله حتى يخرج منه ، إلا من أراد إلحادا أو ظلما ، يا رب العالمين . ذكره الماوردي .
قلت : وهذا أصح مما تقدم أنه لم يفرغ بناؤه إلا بعد موته بسنة ، والدليل على صحة هذا ما خرج النسائي وغيره بإسناد صحيح من حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس سأل الله تعالى خلالا ثلاثة : حكما يصادف حكمه فأوتيه ، وسأل الله تعالى ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه ، وسأل الله تعالى حين فرغ من بنائه المسجد ألا يأتيه أحد لا ينهزه{[13008]} إلا الصلاة فيه أن يخرج من خطيئته كيوم ولدته أمه ) وقد ذكرنا هذا الحديث في " آل عمران " {[13009]} وذكرنا بناءه في " الإسراء " {[13010]} .
ولما كان ربما استبعد موت من هو على هذه الصفة من ضخامة الملك بنفوذ الأمر وسعة الحال وكثرة الجنود ، أشار إلى سهولته بقرب زمنه وسرعة إيقاعه على وجه دال على بطلان تعظيمهم للجن بالإخبار بالمغيبات بعد تنبيههم على مثل ذلك باستخدامه لهم بقوله : { فلما } بالفاء ، ولذلك عاد إلى مظهر الجلال فقال : { قضينا } وحقق صفة القدرة بأداة الاستعلاء فقال : { عليه } أي سليمان عيله السلام { الموت ما دلهم } أي جنوده{[56573]} وكل من في ملكه من الجن والإنس وغيرهم من كل قريب وبعيد { على موته } لأنا جعلنا له من سعة العلم ووفور الهيبة ونفوذ الأمر ما تمكن به من إخفاء موته عنهم { إلا دآبة الأرض } فخمها بهذه الإضافة التي من معناها أنه لا دابة للأرض غيرها لما أفادته من العلم ولأنها لكونها تأكل من كل شيء من أجزاء الأرض من الخشب والحجر والتراب والثياب وغير ذلك أحق الدواب بهذا الاسم ، ويزيد ذلك حسناً ان مصدر فعلها أرض بالفتح والإسكان فيصير من قبيل{[56574]} التورية ليشتد التشوف إلى تفسيرها ، ثم بين أنها الأرضة بقوله مستأنفاً في جواب من كأنه قال : أي دابة هي وبما دلت : { تأكل منسأته } أي عصاه التي مات {[56575]}وهو متكىء{[56576]} عليها قائماً في بيت من زجاج ، وليس له باب ، صنعته له{[56577]} الجن لما أعلمه الله بأن أجله قد حضر ، وكان قد بقي في المسجد بقية ليخفي موته على{[56578]} الجن الذين كانوا يعملون في البيت المقدس حتى يتم ؛ قال في القاموس في باب الهمز{[56579]} : نسأه : زجره وساقه وأخره ودفعه عن الحوض ، والمنسأة كمكنسة مرتبة ، ويترك الهمز{[56580]} فيهما{[56581]} : العصا - لأن الدابة تنسأ بها أي تساق ، والبدل فيها لازم ، حكاه سيبويه - انتهى . فالمعنى أن الجن كانوا يزجرون ويساقون بها ، وقرأها المدنيان{[56582]} وأبو عمرو{[56583]} بالإبدال ، وابن عامر من رواية ابن ذكوان والداجوني عن هشام بإسكان الهمزة ، والباقون بهمزة{[56584]} مفتوحة { فلما خر } أي سقط على الأرض بعد أن قصمت الأرضة عصاه { تبينت الجن } أي علمت علماً بيناً لا يقدرون معه على تدبيج وتدليس ، وانفضح أمرهم وظهر ظهوراً تاماً { أن } أي أنهم { لو كانوا } أي الجن { يعلمون الغيب } أي علمه { ما لبثوا } أي أقاموا حولاً مجرماً { في العذاب المهين * } من ذلك العمل الذي{[56585]} كانوا مسخرين فيه ، والمراد إبطال ما كانوا يدعونه من علم الغيب على وجه الصفة ، لأن المعنى أن دعواهم ذلك إما كذب أو جهل ، فأحسن الأحوال لهم أن يكون جهلاً منهم ، وقد تبين لهم الآن جهلهم بياناً لا يقدرون على إنكاره ، ويجوز أن تكون " أن " تعليلية ، ويكون التقدير : تبين حال الجن فيما يظن بهم من أنهم يعلمون الغيب ، لأنهم إلى آخره ، وسبب علمهم مدة كونه ميتاً قبل ذلك أنهم وضعوا الأرضة على موضع{[56586]} من العصا فأكلت منها يوماً وليلة ، وحسبوا على ذلك النحو فوجدوا المدة سنة ، وفي هذا توبيخ للعرب أنهم يصدقون من ثبت بهذا الأمر أنهم لا يعلمون الغيب في الخرافات اللاتي تأتيهم بها الكهان وغيرهم مما يفتنهم والحال أنهم يشاهدون منه كذباً كبيراً ، فكانوا بذلك مساوين لمن يخبر{[56587]} من الآدميين عن بعض المغيبات بظن يظنه او منام يراه أو غير ذلك ، فيكون كما قال - هذا مع إعراضهم عمن يخبرهم بالآخرة شفقة عليهم ونصيحة لهم ، وما أخبرهم بشيء قط إلا ظهر صدقه قبل ادعائه للنبوة وبعده ، وأظهر لهم من المعجزات ما بهر العقول ، وقد تقرر أن كل شيء ثبت لمن قبل نبينا صلى الله عليه وسلم من الأنبياء من الخوارق ثبت له مثله أو{[56588]} أعظم منه إما له نفسه أو لأحد من أمته ، وهذا الذي ذكر{[56589]} لسليمان عليه السلام من حفظه بعد موته سنة لا يميل قد ثبت{[56590]} مثله لشخص من هذه الأمة من غير شيء يعتمد عليه ، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري في رسالته في باب أحوالهم عند الخروج من الدنيا : وقال أبو عمران{[56591]} الأصطخري : رأيت أبا تراب في البادية قائماً ميتاً{[56592]} لا يمسكه شيء - انتهى .
و ثبت مثل ذلك لشخص في بلاد شروان من بلاد فارس بالقرب من شماخى ، اسم ذلك الولي محمد ، ولقبه دمدمكي ، مات من نحو أربعمائة سنة في المائة الخامسة من الهجرة ، وهو قاعد في مكان من مقامه الذي كان يتعبد فيه على هيئة المتشهد وعليه قميص وعلى رأسه قبع كهيئة قباع{[56593]} الأعاجم البسطامية ، أخبرني من شاهده{[56594]} ممن{[56595]} كذلك لا أتهمه من طلبة العلم العجم ، وهو أمر مشهور متواتر في بلادهم غني عن مشاهدة شخص معين ، قال : زرته غير مرة وله هيبة تمنع المعتقد{[56596]} من الدنو منه دنواً يرى به{[56597]} وجهه كما أشار تعالى إلى مثل ذلك بقوله تعالى{[56598]}
{ لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً }[ الكهف : 18 ] قال : وكان معنا في بعض المرات شخص من طلبة العلم من أهل كيلان غير معتقد يقول : إنما هذا نوع شعبدة يخيل{[56599]} به على عقول الرعاع ، قال : فتقدم إليه بجرأة ولمس صدره ونظر في وجهه ، فأصيب في الحال فلم يرجع إلا محمولاً ، فأقام{[56600]} في المدرسة التي كان يشتغل بها في مدينة شماخي مدة ، وأخبرنا أن{[56601]} الشيخ دمدمكي قال له لما لمسه : لولا أنك من أهل العلم هلكت ، وأنه شيخ خفيف اللحية ، قال : وقد تبت إلى الله تعالى وصرت من المعتقدين لما هوعليه أنه حق ، ولا أكذب بشيء من كرامات الأولياء ، قال الحاكي : وقد دفن ثلاث مرات إحداها{[56602]} بأمر تمرلنك فيصبح جالساً على ما هو عليه الآن - والله الموفق للصواب{[56603]} .