تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ} (15)

{ 15 - 21 } { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ }

سبأ قبيلة معروفة في أداني اليمن ، ومسكنهم بلدة يقال لها " مأرب " ومن نعم اللّه ولطفه بالناس عموما ، وبالعرب خصوصا ، أنه قص في القرآن أخبار المهلكين والمعاقبين ، ممن كان يجاور العرب ، ويشاهد آثاره ، ويتناقل الناس أخباره ، ليكون ذلك أدعى إلى التصديق ، وأقرب للموعظة فقال : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ } أي : محلهم الذي يسكنون فيه { آيَةٌ } والآية هنا : ما أدرَّ اللّه عليهم من النعم ، وصرف عنهم من النقم ، الذي يقتضي ذلك منهم ، أن يعبدوا اللّه ويشكروه . ثم فسر الآية بقوله { جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ } وكان لهم واد عظيم ، تأتيه سيول كثيرة ، وكانوا بنوا سدا محكما ، يكون مجمعا للماء ، فكانت السيول تأتيه ، فيجتمع هناك ماء عظيم ، فيفرقونه على بساتينهم ، التي عن يمين ذلك الوادي وشماله . وتُغِلُّ لهم تلك الجنتان العظيمتان ، من الثمار ما يكفيهم ، ويحصل لهم به الغبطة والسرور ، فأمرهم اللّه بشكر نعمه التي أدرَّها عليهم من وجوه كثيرة ، منها : هاتان الجنتان اللتان غالب أقواتهم منهما .

ومنها : أن اللّه جعل بلدهم ، بلدة طيبة ، لحسن هوائها ، وقلة وخمها ، وحصول الرزق الرغد فيها .

ومنها : أن اللّه تعالى وعدهم - إن شكروه - أن يغفر لهم وَيرحمهم ، ولهذا قال : { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ }

ومنها : أن اللّه لما علم احتياجهم في تجارتهم ومكاسبهم إلى الأرض المباركة ، - الظاهر أنها : [ قرى صنعاء قاله غير واحد من السلف ، وقيل : إنها ] الشام - هيأ لهم من الأسباب ما به يتيسر وصولهم إليها ، بغاية السهولة ، من الأمن ، وعدم الخوف ، وتواصل القرى بينهم وبينها ، بحيث لا يكون عليهم مشقة ، بحمل الزاد والمزاد .

ولهذا قال : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ } أي : [ سيرا ] مقدرا يعرفونه ، ويحكمون عليه ، بحيث لا يتيهون عنه { لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ } أي : مطمئنين في السير ، في تلك الليالي والأيام ، غير خائفين . وهذا من تمام نعمة اللّه عليهم ، أن أمنهم من الخوف .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ} (15)

قوله تعالى : { لقد كان لسبأ } روى أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك القطيعي ، قال : قال رجل : " يا رسول الله أخبرني عن سبأ كان رجلاً أو امرأة أو أرضاً ؟ قال : كان رجلاً من العرب وله عشرة من الولد ، تيامن منهم ستة ، وتشاءم أربعة ، فأما الذين تيامنوا : فكندة ، والأشعريون ، وأزد ، ومذحج ، وأنمار ، وحمير ، فقال رجل : وما أنمار ؟ قال الذين منهم خثعم وبجيلة : وأما الذين تشاءموا : فعاملة ، وجذام ، ولخم ، وغسان ، وسبأ هو ابن يشجب ابن يعرب بن قحطان " . { في مسكنهم } قرأ حمزة ، وحفص : مسكنهم بفتح الكاف ، على الواحد ، وقرأ الكسائي بكسر الكاف ، وقرأ الآخرون : مساكنهم على الجمع ، وكانت مساكنهم بمأرب من اليمن ، { آية } دلالة على وحدانيتنا وقدرتنا ، ثم فسر الآية فقال : { جنتان } أي : هي جنتان بستانان ، { عن يمين وشمال } أي : عن يمين الوادي وشماله . وقيل : عن يمين من أتاهم وشماله ، وكان لهم واد قد أحاطت الجنتان بذلك الوادي { كلوا } أي : وقيل لهم كلوا ، { من رزق ربكم } يعني : من ثمار الجنتين ، قال السدي ومقاتل : كانت المرأة تحمل مكتلها على رأسها وتمر بالجنتين فيمتلئ مكتلها من أنواع الفواكه من غير أن تمس شيئاً بيدها ، { واشكروا له } أي : على ما رزقكم من النعمة ، والمعنى : اعملوا بطاعته ، { بلدة طيبة } أي : أرض سبأ بلدة طيبة ليست بسبخة ، قال ابن زيد : لم يكن يرى في بلدتهم بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية ، وكان الرجل يمر ببلدهم وفي ثيابه القمل فيموت القمل كله من طيب الهواء ، فذلك قوله تعالى : { بلدة طيبة } أي : طيبة الهواء ، { ورب غفور } قال مقاتل : وربكم إن شكرتموه فيما رزقكم رب غفور للذنوب .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ} (15)

قوله تعالى : " لقد كان لسبأ في مسكنهم{[13011]} آية " قرأ نافع وغيره بالصرف والتنوين على أنه اسم حي ، وهو في الأصل اسم رجل ، جاء بذلك التوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم روى الترمذي قال : حدثنا أبو كريب وعبد بن حميد قالا حدثنا أبو أسامة عن الحسن بن الحكم النخعي قال حدثنا أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك المرادي قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم ، فأذن لي في قتالهم وأمر ، فلما خرجت من عنده سأل عني : ( ما فعل الغطيفي ){[13012]} ؟ فأخبر أني قد سرت ، قال : فأرسل في أثري فردني فأتيته وهو في نفر من أصحابه فقال : ادع القوم فمن أسلم منهم فاقبل منه ، ومن لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث إليك ، قال : وأنزل في سبأ ما أنزل ، فقال رجل : يا رسول الله ، وما سبأ ؟ أرض أو امرأة ؟ قال : ليس بأرض ولا بامرأة ولكنه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة . فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسان وعاملة . وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار . فقال رجل : يا رسول الله وما أنمار ؟ قال : ( الذين منهم خثعم وبجيلة ) . وروي هذا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " لسبأَ " بغير صرف ، جعله اسما للقبيلة ، وهو اختيار أبي عبيد ، واستدل على أنه اسم قبيلة بأن بعده " في مساكنهم " . النحاس : ولو كان كما قال لكان في مساكنها . وقد مضى في " النمل " {[13013]} زيادة بيان لهذا المعنى . وقال الشاعر في الصرف :

الواردون وتيمٌ في ذُرَى سبإٍ *** قد عضَّ أعناقهم جلدُ الجَوامِيسِ

وقال آخر في غير الصرف :

من سبَأَ الحاضرين مَأْرِبَ إذ *** يبنون من دون سيلها العَرِمَا

وقرأ قنبل وأبو حيوة والجحدري " لسبأْ " بإسكان الهمزة . " في مساكنهم " قراءة العامة على الجمع ، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ؛ لأن لهم مساكن كثيرة وليس بمسكن واحد . وقرأ إبراهيم وحمزة وحفص " مسكنهم " موحدا ، إلا أنهم فتحوا الكاف . وقرأ يحيى والأعمش والكسائي موحدا كذلك ، إلا أنهم كسروا الكاف . قال النحاس : والساكن في هذا أبين ؛ لأنه يجمع اللفظ والمعنى ، فإذا قلت " مسكنهم " كان فيه تقديران : أحدهما : أن يكون واحدا يؤدي عن الجمع . والآخر : أن يكون مصدرا لا يثني ولا يجمع ، كما قال الله تعالى : " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم " {[13014]} [ البقرة : 7 ] فجاء بالسمع موحدا . وكذا " مقعد صدق " {[13015]} [ القمر : 55 ] و " مسكن " مثل مسجد ، خارج عن القياس ، ولا يوجد مثله إلا سماعا . " آية " اسم كان ، أي علامة دالة على قدرة الله تعالى على أن لهم خالقا خلقهم ، وأن كل الخلائق لو اجتمعوا على أن يخرجوا من الخشبة ثمرة لم يمكنهم ذلك ، ولم يهتدوا إلى اختلاف أجناس الثمار وألوانها وطعومها وروائحها وأزهارها ، وفي ذلك ما يدل على أنها لا تكون إلا من عالم قادر . " جنتان عن يمين وشمال " يجوز أن يكون بدلا من " آية " ، ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف ، فوقف على هذا الوجه على " آية " وليس بتمام . قال الزجاج : أي الآية جنتان ، فجنتان رفع لأنه خبر ابتداء محذوف . وقال الفراء : رفع تفسيرا للآية ، ويجوز أن تنصب " آية " على أنها خبر كان ، ويجوز أن تنصب الجنتين على الخبر أيضا في غير القرآن . وقال عبد الرحمن بن زيد : إن الآية التي كانت لأهل سبأ في مساكنهم أنهم لم يروا فيها بعوضة قط ولا ذبابا ولا برغوثا ولا قملة ولا عقربا ولا حية ولا غيرها من الهوام ، وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل والدواب فإذا نظروا إلى بيوتهم ماتت الدواب . وقيل : إن الآية هي الجنتان ، كانت المرأة تمشي فيهما وعلى رأسها مكتل{[13016]} فيمتلئ من أنواع الفواكه من غير أن تمسها بيدها . قاله قتادة . وروى أن الجنتين كانتا بين جبلين باليمن . قال سفيان : وجد فيهما قصران مكتوب على أحدهما : نحن بنينا سَلْحِين في سبعين خريفا دائبين ، وعلى الآخر مكتوب : نحن بنينا صِرْواح مَقِيل ومَرَاح ، فكانت إحدى الجنتين عن يمين الوادي والأخرى عن شماله . قال القشيري : ولم يرد جنتين اثنتين بل أراد من الجنتين يمنة ويسرة ، أي كانت بلادهم ذات بساتين وأشجار وثمار ، تستتر الناس بظلالها .

" كلوا من رزق ربكم " أي قيل لهم كلوا ، ولم يكن ثم أمر ، ولكنهم تمكنوا من تلك النعم . وقيل : أي قالت الرسل لهم قد أباح الله تعالى لهم ذلك ، أي أباح لكم هذه النعم فاشكروه بالطاعة . " كلوا من رزق ربكم " أي من ثمار الجنتين . " واشكروا له " يعني على ما رزقكم . " بلدة طيبة " هذا كلام مستأنف ، أي هذه بلدة طيبة أي كثيرة الثمار . وقيل : غير سبخة . وقيل : طيبة ليس فيها هوام لطيب هوائها . قال مجاهد : هي صنعاء .

" ورب غفور " أي والمنعم بها عليكم رب غفور يستر ذنوبكم ، فجمع لهم بين مغفرة ذنوبهم وطيب بلدهم ولم يجمع ذلك لجميع خلقه . وقيل : إنما ذكر المغفرة مشيرا إلى أن الرزق قد يكون فيه حرام . وقد مضى القول في هذا في أول " البقرة " {[13017]} . وقيل : إنما امتن عليهم بعفوه عن عذاب الاستئصال بتكذيب من كذبوه من سالف الأنبياء إلى أن استداموا الإصرار فاستؤصلوا .


[13011]:" في مساكنهم" قراءة نافع وبها كان يقرأ المؤلف رحمة الله عليه.
[13012]:في الأصول والترمذي:" القطيفي" بالقاف بدل الغين وهو تحريف.
[13013]:راجع ج 13 ص 181.
[13014]:راجع ج 1 ص 185.
[13015]:راجع ج 17 ص 149.
[13016]:المكتل: شبه الزنبيل.
[13017]:راجع ج 1 ص 177.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ} (15)

ولما دل سبحانه بقوله { أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم } الآية ، على قدرته على ما يريد من السماء والأرض لمعاملة{[56604]} من يريد ممن فيهما بما يشاء من فضل على من شكر ، وعدل فيمن كفر ، ودل على ذلك بما قصه من أخبار بعض أولي الشكر ، وختم بموت نبيه سليمان بن داود الشاكر بن الشاكر عليهما السلام ، وما كان فيه من الآية الدالة على أنه لا يعلم الغيب غيره لينتج ذلك أنه لا يقدر على كل ما يريد غيره ، وكان موت الأنبياء المتقدمين موجباً لاختلال{[56605]} من بعدهم لفوات آياتهم بفواتهم بخلاف آية القرآن ، فإنها باقية على مر الدهور والأزمان ، لكل إنس وملك وجان ، ينادي مناديها{[56606]} على رؤوس الأشهاد : هل من مبارٍ{[56607]} أو مضاد{[56608]} ؟ فلذلك حفظت هذه الأمة ، وضاع{[56609]} غيرها في أودية مدلهمة ، أتبعه دليلاً آخر شهودياً على آية { إن نشأ نخسف بهم الأرض } في قوم كان تمام صلاحهم بسليمان عليه الصلاة والسلام ، فاختل بعده أمرهم ، وصار من عجائب الكون ذكرهم ، حين ضاع شكرهم ، فكان من ترجمة اتباع قصتهم لما قبلها أن آل داود عليه السلام شكروا ، فسخر لهم من الجبال والطير والمعادن وغيرها ما لم يكن غيرهم يطمع فيه ، وهم أضاعوا الشكر فأعصى عليهم وأضاع منهم ما لم يكونوا يخافون فواته من مياههم وأشجارهم وغيرها ، فقال تعالى مشيراً بتأكيده{[56610]} إلى تعظيم ما كانوا فيه ، وأنه في غاية الدلالة على القدرة ، وسائر صفات الكمال ، وأن عمل قريش عمل من ينكر{[56611]} ما تدل عليه قصتهم من ذلك : { لقد كان لسبأ } أي القبيلة المشهورة التي كانت تسجد للشمس ، فهداهم الله تعالى على يد سليمان عليه السلام ، وحكمة تسكين قنبل همزتها{[56612]} الإشارة{[56613]} إلى ما كانوا فيه من الخفض والدعة ورفاهة العيش المثمرة للراحة والطمأنينة والهدوء والسكينة ، ولعل قراءة الجمهور لها بالصرف تشير إلى مثل ذلك ، وقراءة أبي عمرو والبزي عن ابن كثير{[56614]} بالمنع تشير إلى رجوعهم بما صاروا إليه من سوء الحال إلى غالب أحوال{[56615]} تلك البلاد في الإقفار و{[56616]}قلة النبت والعطش{[56617]} { في مسكنهم } أي{[56618]} التي هي في غاية الكثرة ، ووحد حمزة والكسائي وحفص عن عاصم{[56619]} إشارة إلى أنها{[56620]} لشدة اتصال المنافع والمرافق كالمسكن الواحد ، وكسر الكسائي الكاف إشارة إلى أنها في غاية الملاءمة لهم واللين ، وفتحه الآخران إشارة{[56621]} إلى ما فيها{[56622]} من الروح والراحة ، وكانت بأرض مأرب من بلاد اليمن ، قال حمزة الكرماني : قال ابن عباس رضي الله عنهما : على ثلاث فراسخ من صنعاء ، وكانت أخصب البلاد وأطيبها وأكثرها ثماراً حتى كانت المرأة تضع على رأسها المكتل{[56623]} وتطوف في ما بين الأشجار فيمتلىء المكتل من غير أن تمس شيئاً بيدها{[56624]} ، وكانت مياههم تخرج من جبل فبنوا فيه سداً وجعلوا له ثلاثة أبواب فكانوا يسرحون الماء إلى كرومهم من الباب الأعلى والأوسط والأسفل ، قال{[56625]} الرازي : كانت المرأة تخرج ومعها مغزلها وعلى رأسها مكتلها فتمتهن مغزلتها ، فلا تأتي بيتها حتى يمتلىء مكتلها من{[56626]} الثمار ، وقال أبو حيان في النهر{[56627]} : ولما ملكت بلقيس اقتتل قومها على ماء واديهم فتركت ملكها ، وسكنت قصرها{[56628]} وراودوها{[56629]} على أن ترجع فأبت فقالوا : لترجعن أو لنقتلنك ، فقالت لهم : لا عقول لكم ، ولا تطيعوني ، فقالوا نطيعك ، فرجعت إلى واديهم ، وكانوا إذا مطروا أتاهم السيل{[56630]} من مسيرة ثلاثة{[56631]} أيام ، فأمرت به فسد ما بين الجبلين بمسناة{[56632]} بالصخر والقار ، وحبست الماء من وراء السد ، وجعلت له أبواباً بعضها فوق بعض ، وبنت من دونه بركة فيها اثنا{[56633]} عشر مخرجاً على عدة أنهارهم ، وكان الماء يخرج لهم بالسوية ، {[56634]}وقال المسعودي في مقدمات مروج الذهب قبل السيرة النبوية بيسير في الكلام على الكهان{[56635]} ، كانت من أخصب أرض اليمن وأثراها ، وأعذبها وأغداها ، وأكثرها جناناً ، وكانت مسيرة أكثر من شهر للراكب المجد على هذه الحال في العرض مثل ذلك ، يسير الراكب من أولها إلى أن ينتهي إلى آخرها ، لا تواجهه الشمس ولا يفارقها الظل ، لاستتار الأرض بالأشحار واستيلائها عليها وإحاطتها بها ، فكان أهلها في أطيب عيش وأرفعه وأهنأ حال وأرغده ، في نهاية الخصب وطيب الهواء وصفاء الفضاء وتدفق الماء ، وقوة الشوكة واجتماع الكلمة ، ثم ذكر خبراً طويلاً في أخبارهم ، وخراب ما كان من آثارهم ، وتفرقهم في البلاد ، وشتاتهم بين العباد { آية } أي علامة ظاهرة على قدرتنا على ما نريد ، ثم فسر{[56636]} الآية بقوله : { جنتان } مجاورتان للطريق { عن يمين وشمال } أي بساتين متصلة وحدائق مشتبكة ، ورياض{[56637]} محتبكة ، حتى كان الكل من كل جانب جنة واحدة{[56638]} لشدة اتصال{[56639]} بعضه ببعض عن يمين كل سالك وشماله في أي مكان سلك من بلادهم ليس فيها موضع معطل ، وقال البغوي{[56640]} : عن يمين واديهم وشماله ، قد أحاط الجنتان بذلك الوادي .

وأشار الى كرم تلك الجنان وسعة ما{[56641]} بها من الخير بقوله : { كلوا } أي لا تحتاج بلادهم إلى غير أن يقال لهم : كلوا { من رزق ربكم } أي المحسن إليكم الذي أخرج لكم منها كل ما تشتهون { واشكروا له } أي خصوه{[56642]} بالشكر بالعمل بما أنعم به في ما يرضيه ليديم لكم النعمة ، ثم استأنف تعظيم ذلك بقوله : { بلدة طيبة } أي كريمة التربة{[56643]} حسنة الهواء سليمة من الهوام والمضار ، لا يحتاج ساكنها إلى ما يتبعه فيعوقه عن الشكر ، قال ابن زيد{[56644]} : لا يوجد فيها برغوث ولا بعوض ولا عقرب ولا حية ، ولا تقمل ثيابهم ، ولا تعيا دوابهم . وأشار إلى أنه لا يقدر أحد على أن يقدره حق قدره بقوله : { ورب غفور * } أي لذنب من شكره وتقصيره بمحو عين ما قصر فيه وأثره فلا يعاقب عليه ولا يعاتب ، ولولا ذلك{[56645]} ما أنعم عليكم بما أنتم فيه ولأهلككم بذنوبكم ، وأخبرني بعض أهل اليمن أنها اليوم مفازة قرب صنعاء اليمن - قال : في بعضها عنب يعمل منه زبيب كبار جداً في مقدار در - تلي بلاد الشام ، وهو في غاية الصفاء كأنه قطع المصطكا وليس له نوى أصلاً .


[56604]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بمعاملة.
[56605]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: لاختلاف.
[56606]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: منادى.
[56607]:من مد، وفي الأصل وظ وم: مبارز.
[56608]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: معاند.
[56609]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: صلع.
[56610]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بتأكيدها.
[56611]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: يشكر.
[56612]:راجع نثر المرجان 5/462.
[56613]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: إشارة.
[56614]:راجع نثر المرجان 5/462.
[56615]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الأحوال.
[56616]:في م ومد: العطش وقلة النبت.
[56617]:في م ومد: العطش وقلة النبت.
[56618]:سقط من ظ.
[56619]:راجع نثر المرجان 5/462.
[56620]:زيد من ظ وم ومد.
[56621]:زيد من ظ وم ومد.
[56622]:من مد، وفي الأصل وظ وم: فيهما.
[56623]:في ظ وم ومد: مكتلا.
[56624]:ذكره الأندلسي في البحر المحيط 7/270 عن ابن عباس وغيره.
[56625]:في ظ: وقال، ومن هنا انقطعت صفحة واحدة من الأصل فملأناها من ظ.
[56626]:زيد من م ومد.
[56627]:راجع هامش البحر المحيط 7/268.
[56628]:من م ومد والنهر، وفي ظ: فصترها ـ كذا.
[56629]:من م ومد والنهر. وفي ظ: رودوها.
[56630]:من م ومد والنهر، وفي ظ: السير.
[56631]:في النهر: ثلاث ـ خطأ.
[56632]:في النهر: بمساءة.
[56633]:من مد والنهر، وفي ظ وم: اثني.
[56634]:العبارة من هنا إلى "بين العباد" ص 477 س 7 ساقطة من م.
[56635]:راجع 1/341.
[56636]:من م ومد، وفي ظ: بسر.
[56637]:من م ومد، وفي ظ: بأرض.
[56638]:من م ومد، وفي ظ: واحد من كل ـ كذا.
[56639]:من م ومد، وفي ظ: اتصالها.
[56640]:في معالم التنزيل ـ راجع هامش اللباب 5/236.
[56641]:زيد من م ومد.
[56642]:من م ومد، وفي ظ: خصوا.
[56643]:من م ومد، وفي ظ: التربية.
[56644]:ذكر قوله في البحر المحيط 7/270.
[56645]:زيد من م ومد.