أي : يصرخون ويتصايحون ويستغيثون ويقولون : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } فاعترفوا بذنبهم ، وعرفوا أن اللّه عدل فيهم ، ولكن سألوا الرجعة في غير وقتها ، فيقال لهم : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا } أي : دهرا وعمرا { يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } أي : يتمكن فيه من أراد التذكر من العمل ، متعناكم في الدنيا ، وأدررنا عليكم الأرزاق ، وقيضنا لكم أسباب الراحة ، ومددنا{[746]} لكم في العمر ، وتابعنا عليكم الآيات ، وأوصلنا إليكم النذر ، وابتليناكم بالسراء والضراء ، لتنيبوا إلينا وترجعوا إلينا ، فلم ينجع فيكم إنذار ، ولم تفد فيكم موعظة ، وأخرنا عنكم العقوبة ، حتى إذا انقضت آجالكم ، وتمت أعماركم ، ورحلتم عن دار الإمكان ، بأشر الحالات ، ووصلتم إلى هذه الدار دار الجزاء على الأعمال ، سألتم الرجعة ؟ هيهات هيهات ، فات وقت الإمكان ، وغضب عليكم الرحيم الرحمن ، واشتد عليكم عذاب النار ، ونسيكم أهل الجنة ، فامكثوا فيها خالدين مخلدين ، وفي العذاب مهانين ، ولهذا قال : { فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } ينصرهم فيخرجهم منها ، أو يخفف عنهم من عذابها .
قوله تعالى : { وهم يصطرخون } يستغيثون ويصيحون ، { فيها } وهو : افتعال ، من الصراخ ، وهو الصياح ، يقولون : { ربنا أخرجنا } من النار ، { نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل } في الدنيا من الشرك والسيئات ، فيقول الله لهم توبيخاً : { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر } قيل : هو البلوغ ، وقال عطاء وقتادة والكلبي : ثمان عشرة سنة . وقال الحسن : أربعون سنة . وقال ابن عباس : ستون سنة ، ويروي ذلك عن علي ، وهو العمر الذي أعذر الله تعالى إلى ابن آدم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا ابن يوسف أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عبد السلام بن مطهر ، حدثنا عمر بن علي ، عن معز بن محمد الغفاري ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أعذر الله تعالى إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة " .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا الحسين بن محمد بن فنجويه ، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، حدثنا إبراهيم بن سهلويه ، حدثنا الحسن بن عرفة ، أنبأنا المحاربي عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين " . وأقلهم من يجوز ذلك . قوله { وجاءكم النذير } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم ، هذا قول أكثر المفسرين . وقيل : القرآن . وقال عكرمة ، وسفيان بن عيينة ، ووكيع : هو الشيب . معناه أولم نعمركم حتى شبتم . ويقال : الشيب نذير الموت . وفي الأثر : ما من شعرة تبيض إلا قالت لأختها : استعدي فقد قرب الموت " . { فذوقوا فما للظالمين من نصير*إن الله عالم غيب السموات والأرض غنه عليم بذات الصدور* }
" وهم يصطرخون فيها " أي يستغيثون في النار بالصوت العالي . والصراخ الصوت العالي ، والصارخ المستغيث ، والمصرخ المغيث . قال :
كنا إذا ما أتانا صارخٌ فَزِعٌ *** كان الصُّرَاخُ له قرعَ الظَّنابِيبِ{[13165]}
" ربنا أخرجنا " أي يقولون ربنا أخرجنا من جهنم وردنا إلى الدنيا . " نعمل صالحا " قال ابن عباس : أي نقل : لا إله إلا الله . " غير الذي كنا نعمل " أي من الشرك ، أي نؤمن بدل الكفر ، ونطيع بدل المعصية ، ونمتثل أمر الرسل . " أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر " هذا جواب دعائهم ؛ أي فيقال لهم ، فالقول مضمر . وترجم البخاري : ( باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر لقوله عز وجل " أولم نعمركم ما يتذكر قيه من تذكر وجاءكم النذير " يعني الشيب ) حدثنا عبد السلام بن مطهر قال حدثنا عمر بن علي قال حدثنا معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة ) . قال الخطابي : " أعذر إليه " أي بلغ به أقصى العذر ، ومنه قولهم : قد أعذر من أنذر ، أي أقام عذر نفسه في تقديم نذارته . والمعنى : أن من عمره الله ستين سنة لم يبق له عذر ؛ لأن الستين قريب من معترك المنايا ، وهو سن الإنابة والخشوع وترقب المنية ولقاء الله تعالى ، ففيه إعذار بعد إعذار ، الأول بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والموتان{[13166]} في الأربعين والستين . قال علي وابن عباس وأبو هريرة في تأويل قوله تعالى " أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر " : إنه ستون سنة . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في موعظته : ( ولقد أبلغ في الإعذار من تقدم في الإنذار وإنه لينادي مناد من قبل الله تعالى أبناء الستين " أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير " ) . وذكر الترمذي الحكيم من حديث عطاء ابن أبي رباح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا كان يوم القيامة نودي أبناء الستين وهو العمر الذي قال الله " أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر " ) . وعن ابن عباس أيضا أنه أربعون سنة . وعن الحسن البصري ومسروق مثله . ولهذا القول أيضا وجه ، وهو صحيح ، والحجة له قوله تعالى : " حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة " {[13167]} [ الأحقاف 15 ] الآية . ففي الأربعين تناهي العقل ، وما قبل ذلك وما بعده منتقص عنه{[13168]} ، والله أعلم . وقال مالك : أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا والعلم ويخالطون الناس ، حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة ، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس واشتغلوا بالقيامة حتى يأتيهم الموت . وقد مضى هذا المعنى في سورة " الأعراف " {[13169]} . وخرج ابن ماجة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من تجاوز ذلك ) .
قوله تعالى : " وجاءكم النذير " وقرئ " وجاءتكم النذر " واختلف فيه ، فقيل القرآن . وقيل الرسول . قاله زيد بن علي وابن زيد . وقال ابن عباس وعكرمة وسفيان ووكيع والحسين بن الفضل والفراء والطبري : هو الشيب . وقيل : النذير الحمى . وقيل : موت الأهل والأقارب . وقيل : كمال العقل . والنذير بمعنى الإنذار .
قلت : فالشيب والحمى وموت الأهل كله إنذار بالموت ، قال صلى الله عليه وسلم : ( الحمى رائد الموت ) . قال الأزهري : معناه أن الحمى رسول الموت ، أي كأنها تشعر بقدومه وتنذر بمجيئه . والشيب نذير أيضا ؛ لأنه يأتي في سن الاكتهال ، وهو علامة لمفارقة سن الصبا الذي هو سن اللهو واللعب . قال :
رأيت الشيب من نُذُرِ المنايا *** لصاحبه وحسبك من نذير
فقلت لها المشيبُ نذيرُ عمري *** ولست مسودا وجه النذير
وأما موت الأهل والأقارب والأصحاب والإخوان فإنذار بالرحيل في كل وقت وأوان ، وحين وزمان . قال :
وأراك تحملهم ولستَ تردهم*** فكأنني بك قد حُمِلت فلم تُرَدَّ
الموت في كل حين ينشر الكَفَنَا *** ونحن في غفلة عما يراد بنا
وأما كمال العقل فبه تعرف حقائق الأمور ويفصل بين الحسنات والسيئات ، فالعاقل يعمل لآخرته ويرغب فيما عند ربه ، فهو نذير . وأما محمد صلى الله عليه وسلم فبعثه الله بشيرا ونذيرا إلى عباده قطعا لحججهم ، قال الله تعالى : " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " {[13170]} [ النساء : 165 ] وقال : " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " {[13171]} [ الإسراء : 15 ] . " فذوقوا " يريد عذاب جهنم ؛ لأنكم ما اعتبرتم ولا اتعظتم . " فما للظالمين من نصير " أي مانع من عذاب الله .
ولما بيّن عذابهم بين اكتئابهم فقال : { وهم } أي فعل ذلك بهم والحال أنهم { يصطرخون فيها } أي يوجدون الصراخ فيها بغاية ما يقدرون عليه من الجهد في الصياح بالبكاء والنواح . ولما بيّن ذلك بيّن قولهم في اصطراخهم بقوله : { ربنا } أي يقولون : أيها المحسن إلينا { أخرجنا } أي من النار { نعمل صالحاً } ثم أكدوه وفسروه وبينوه بقولهم على سبيل التحسر والاعتراف بالخطأ أو لأنهم كانوا يظنون عملهم صالحاً { غير الذي كنا } أي بغاية جهدنا { نعمل } فتركوا الترقق والعمل على حسبه في وقت نفعه واستعملوه عند فواته فلم ينفعهم ، بل قيل في جوابهم تقريراً لهم وتوبيخاً وتقريعاً : { أو لم } أي ألم تكونوا في دار العمل متمكنين من ذلك بالعقول والقوى ؟ أو لم { نعمركم } أي نطل أعماركم مع إعطائنا لكم العقول ولم نعاجلكم بالأخذ { ما } أي زماناً { يتذكر فيه } وما يشمل كل عمر يتمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه غير أن التوبيخ في الطويل أعظم ، وأشار بمظهر العظمة إلى أنه لا مطمع بغيره سبحانه في مد العمر .
ولما كان التفكر بعد البعث غير نافع لأنه بعد كشف الغطاء ، عبر بالماضي فقال : { من تذكر } إعلاماً بأنه قد ختم على ديوان المتذكرين ، فلا يزاد فيهم أحد ، والزمان المشار إليه قيل : إنه ستون سنة - قاله ابن عباس رضي الله عنهم ، وبوّب له البخاري في أوائل الرقاق من غير عزو إلى أحد ، وروى أحمد بن منيع عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من عمره الله ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر " وروى الترمذي وابن ماجه وأبو يعلى عن أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين . وأقلهم من يجوز ذلك " .
ولما أشار إلى دليل العقل ابتداء ودواماً ، أشار إلى أدلة النقل المنبه على ما قصر عنه العقل ، فقال معبراً بالماضي تصريحاً بالمقصود عطفاً على معنى : أو لم نعمركم الذي هو قد عمرناكم : { وجاءكم النذير } أي عنى من الرسل والكتب تأييداً للعقول بالدليل المعقول .
ولما تسبب عن ذلك أن عذابهم لا ينفك قال : { فذقوا } أي ما أعددناه لكم من العذاب دائماً أبداً ، ولما كانت العادة جارية بأن من أيس من خصمه فزع إلى الاستغاثة عليه ، تسبب عن ذلك قوله : { فما } وكان الأصل : لكم ، ولكنه أظهر تعليقاً للحكم بالوصف للتعميم فقال : { للظالمين } أي الواضعين الأشياء في غير مواضعها { من نصير * } أي يعينهم ويقوي أيديهم ، فلا براح لكم عن هذا الذواق ، وهذا عام في كل ظالم ، فإن من ثبت له نصر عليه لأن ظلمه في كل يوم يضعف ويهن والحق في كل حين يقوى ويضخم .