ولما فقدت موسى أمه ، حزنت حزنا شديدا ، وأصبح فؤادها فارغا من القلق الذي أزعجها ، على مقتضى الحالة البشرية ، مع أن اللّه تعالى نهاها عن الحزن والخوف ، ووعدها برده .
{ إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } أي : بما في قلبها { لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } فثبتناها ، فصبرت ، ولم تبد به . { لِتَكُونَ } بذلك الصبر والثبات { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } فإن العبد إذا أصابته مصيبة فصبر وثبت ، ازداد بذلك إيمانه ، ودل ذلك ، على أن استمرار الجزع مع العبد ، دليل على ضعف إيمانه .
{ وأصبح فؤاد أم موسى فارغا } صفرا من العقل لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد فرعون كقوله تعالى : { وأفئدتهم هواء } أي خلاء لا عقول فيها ، ويؤيده انه قرئ " فرغا " من قولهم دماؤهم بينهم فرغ أي هدر ، أو من الهم لفرط وثوقها بوعد الله تعالى أو سماعها أن فرعون عطف عليه وتبناه . { إن كانت لتبدي به } أنها كادت لتظهر بموسى أي بأمره وقصته من فرط الضجر أو الفرح لتبنيه . { لولا أن ربطنا على قلبها } بالصبر والثبات . { لتكون من المؤمنين } من المصدقين بوعد الله ، أو من الواثقين بحفظه لا بتبني فرعون وعطفه . وقرئ موسى إجراء للضمة في جوار الواو مجرى ضمتها في استدعاء همزها همز واو وجوه وهو علة الربط ، وجواب { لولا } محذوف دل عليه ما قبله .
{ أصبح } مستعمل في معنى ( صار ) فاقتضى تحولاً من حالة إلى حالة أخرى ، أي كان فؤادها غير فارغ فأصبح فارغاً .
والفؤاد مستعمل في معنى العقل واللب .
والفراغ مجازي . ومعنى فراغ العقل من أمر أنه مجاز عن عدم احتواء العقل على ذلك الأمر احتواء مجازياً ، أي عدم جولان معنى ذلك الأمر في العقل ، أي ترك التفكير فيه .
وإذ لم يذكر أن فؤاد أم موسى لماذا أصبح فارغاً احتملت الآية معاني ترجع إلى محتملات متعلق الفراغ ما هو . فاختلف المفسرون في ذلك قديماً ، ومرجع أقوالهم إلى ناحيتين : ناحية تؤذن بثبات أم موسى ورباطة جاشها ، وناحية تؤذن بتطرق الضعف والشك إلى نفسها .
فأما ما يرجع إلى الناحية الأولى فهو أنه فارغ من الخوف والحزن فأصبحت واثقة بحسن عاقبته تبعاً لما ألهمها من أن لا تخاف ولا تحزن فيرجع إلى الثناء عليها . وهذا أسعد بقوله تعالى بعد { لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين } لأن ذلك الربط من توابع ما ألهمها الله من أن لا تخاف ولا تحزن .
فالمعنى : أنها لما ألقته في اليم كما ألهمها الله زال عنها ما كانت تخافه عليه من الظهور عليه عندها وقتله لأنها لما تمكنت من إلقائه في اليم ولم يشعر بها أحد قد علمت أنه نجا . وهذا المحمل يساعده أيضاً ما شاع من قولهم : فلان خلي البال : إذا كان لا هم بقلبه . وهو تفسير أبي عبيدة والأخفش والكسائي وهذا أحسن ما فسرت به وهو من معنى الثناء عليها بثباتها . وعن ابن عباس من طرق شتى أنه قال : فارغاً من كل شيء إلا ذكر موسى . وفي هذا شيء من رباطة جاشها إذ فرغ لبها من كل خاطر يخطر في شأن موسى .
وأما زيادة ما أداه الاستثناء بقوله : إلا ذكر موسى ، فلعله انتزعه من قوله { إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها } وإلا فليس في الآية ما يؤذن بذلك الاستثناء . وهذا التفسير يقتضي الجمع بين الثناء عليها بحسن ثقتها بالله والإشارة إلى ضعف الأمومة بالتشوق إلى ولدها وإن كانت عالمة بأنه يتقلب في أحوال صالحة به وبها .
وأما الأقوال الراجعة إلى الناحية الثانية فقال ابن عطية والقرطبي عن ابن القاسم عن مالك : الفراغ هو ذهاب العقل . قال ابن عطية : هو كقوله تعالى { وأفئدتهم هواء } [ إبراهيم : 43 ] أي لا عقول فيها . وفي « الكشاف » : أي لما سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها لما دهمها من فرط الجزع . وقال ابن زيد والحسن وابن إسحاق : أصبح فارغاً من تذكر الوعد الذي وعدها الله إذ خامرها خاطر شيطاني فقالت في نفسها : إني خفت عليه من القتل فألقيته بيدي في يد العدو الذي أمر بقتله .
قال ابن عطية : وقالت فرقة : فارغاً من الصبر . ولعله يعني من الصبر على فقده . وكل الأقوال الراجعة إلى هذه الناحية ترمي إلى أن أم موسى لم تكن جلدة على تنفيذ ما أمرها الله تعالى وأن الله تداركها بوضع اليقين في نفسها .
وجملة { إن كادت لتُبدي به لولا أن ربطنا على قلبها } تكون بالنسبة للتفسير الأول استئنافاً بيانياً لما اقتضاه فعل { أصبح } من أنها كانت على حالة غير حالة فراغ فبينت بأنها كانت تقارب أن تظهر أمر ابنها من شدة الاضطراب فإن الاضطراب ينم بها .
فالمعنى : أصبح فؤادها فارغاً ، وكادت قبل ذلك أن تبدي خبر موسى في مدة إرضاعه من شدة الهلع والإشفاق عليه أن يقتل . وعلى تفسير ابن عباس تكون جملة { إن كادت } بمنزلة عطف البيان على معنى { فارغاً } . وهي دليل على الاستثناء المحذوف . فالتقدير : فارغاً إلا من ذكر موسى فكادت تظهر ذكر موسى وتنطق باسمه من كثرة تردد ذكره في نفسها .
وأما على الأقوال الراجعة إلى الناحية الثانية فجملة { إن كادت لتبدي به } بيان لجملة : { وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً } ، أي كادت لتُبْدي أمر موسى من قلة ثبات فؤادها .
وعن مجاهد : لما رأت الأمواج حملت التابوت كادت أن تصيح .
والباء في { به } إما لتأكيد لصوق المفعول بفعله والأصل : لتبديه ، وإما لتضمين ( تبدي ) معنى ( تبوح ) وهو أحسن و { إن } مخففة من الثقيلة . واللام في { لتبدي } فارقة بين { إن } المخففة و ( إن ) النافية .
والربط على القلب : توثيقه عن أن يضعف كما يشد العضو الوهن ، أي ربطنا على قلبها بخلق الصبر فيه . وجواب { لولا } هو جملة { إن كادت لتبدي به } .
والمراد بالمؤمنين المصدقون بوعد الله ، أي لولا أن ذكّرناها ما وعدناها فاطمأن فؤادها . فالإيمان هنا مستعمل في معناه اللغوي دون الشرعي لأنها كانت من المؤمنين من قبل ، أو أريد من كاملات المؤمنين .
واللام للتعليل ، أي لتُحرز رتبة المؤمنين بأمر الله الذين لا يتطرقهم الشك فيما يأتيهم من الواردات الإلهية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.