اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَصۡبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَٰرِغًاۖ إِن كَادَتۡ لَتُبۡدِي بِهِۦ لَوۡلَآ أَن رَّبَطۡنَا عَلَىٰ قَلۡبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (10)

قوله : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغاً } ( قال الحسن : فَارِغاً ){[39745]} من كل همٍّ إِلاَّ همَّ موسى{[39746]} . وقال أبو مسلم{[39747]} : فراغ{[39748]} الفؤاد هو الخوف والإشغاف ، كقوله : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ }{[39749]} [ إبراهيم : 43 ] .

وقال الزمخشري : فارغاً صفراً من العقل ، والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والخوف{[39750]} . وقال الحسن ومحمد بن إسحاق : فارغاً من الوحي الذي أوحينا إليها أن { فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ } [ القصص : 7 ] فجاءها الشيطان وقال لها : كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجراً وثواباً ، وتوليت أنتِ قتله ، فألقيته في البحر ، وأغرقتيه{[39751]} ، ولمَّا{[39752]} أتاها خبر موسى أنه وقع في يد فرعون فأنساها عظيم البلاء ما كان من عهد الله إليها{[39753]} . وقال أبو عبيدة : فارغاً من الحزن لعلمها{[39754]} بأنه لا يقتل ، اعتماداً على تكفل الله بمصلحته{[39755]} . قال ابن قتيبة : وهذا من العجائب ، كيف يكون فؤادها فارغاً من الحزن ، والله تعالى يقول : { لولا أَن رَبَطْنَا على قَلْبِهَا } ؟ وهل يُرْبَط إلا على قلب الجازع المحزون{[39756]} ؟ ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يمتنع أنها لشدة ثقتها بوعد الله جاز عندها إظهار عدم الحزن ، وأيقنت أنها - وإن أظهرت ذلك - فإنه يسلم لأجل ذلك الوعد . إلا أنه كان في المعلوم أن الإظهار ( يضر فربط ){[39757]} الله على قلبها{[39758]} . قال المعربون : «فارغاً » خبر أصبح أي : فارغاً من العقل{[39759]} ، أو من الصبر{[39760]} ، أو من الحزن{[39761]} ، وهو أبعدها ، ويردُّه قراءاتٌ تُخَالفُه . فقرأ فضالة{[39762]} والحسن «فَزِعاً » بالزاي من الفزع{[39763]} ، وابن عباس «قَرِعاً » بالقاف وكسر الراء وسكونها{[39764]} ، من قَرَعَ رأسهُ إذا انحسر شعرُهُ ، ( والمعنى : خلا من كُلِّ شيء ، وانحَسَرَ عنهُ كُلُّ شَيءٍ إلا ذِكر موسى{[39765]} ، وقيل : الساكن الراء مصدر قَرَعَ يَقْرَع{[39766]} ، أي : أُصيب ، وقرئ «فِرغاً » بكسر الفاء وسكون الراء ، والغين معجمة أي : هدراً{[39767]} ، كقوله ){[39768]} :

3975 - فَإِنْ يَكُ قَتْلَى قَدْ أُصِيبَتْ نُفُوسُهُمْ *** فَلَنْ يَذْهَبُوا فِرْغاً بِقَتْلِ حِبَالِ{[39769]}

فِرْغاً حال من «بِقَتْلِ »{[39770]} ، وقرأ الخليل «فُرُغاً » بضم الفاء وإعجام الغين{[39771]} من هذا المعنى ، ومنه قولهم دماهم بينهم فرغ أي : هدر{[39772]} .

قوله : { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } «إِنْ » إما مخففة ، وإما نافية ، واللام إمَّا فارقة وإمَّا بمعنى إلاَّ{[39773]} والباء{[39774]} في «بِهِ » ( مزيدة في المفعول ، أي : لتُظْهِرَهُ ، وقيل : ليست زائدة بل سببية ، والمفعول محذوف ، أي : لتُبْدِي القَولَ بسبب موسى أو بسبب الوحي . فالهاء يجوز أن تكون ){[39775]} راجعة إلى موسى{[39776]} ، أي : إن كادت لتبدي به أنه{[39777]} ابنها من شدة وجدها : وقال عكرمة عن ابن عباس : كادت تقول : واابناه حين رأت الموج يرفع التابوت ويضعه .

وقال الكلبي : كادت تظهر أنه ابنها حين سمعت الناس يقولون : إنه ابن فرعون .

وقال السدي : لما أُخِذ من الماء كادت تقول : هو ابني ، فعصمها الله{[39778]} .

وقال بعضهم : الهاء{[39779]} عائدة إلى الوحي ، أي كادت تبدي بالوحي الذي أوحى الله إليها أنه يرُدُّهُ عليها{[39780]} .

قوله : { لولا أن ربطنا } جوابها محذوف ، أي لأبدت{[39781]} ، كقوله : { وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [ يوسف : 24 ] والمعنى : لولا أن ربطنا على قلبها بالعصمة والصبر والتثبت . { لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين } متعلق ب «رَبَطْنَا »{[39782]} ، والمعنى : لتكون من المؤمنين المصدِّقين بوعد الله ، وهو قوله : { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ } [ القصص : 7 ] .


[39745]:ما بين القوسين سقط من ب.
[39746]:انظر الفخر الرازي 24/229.
[39747]:في ب: أبو موسى. وهو تحريف.
[39748]:في الأصل: فراق.
[39749]:انظر الفخر الرازي 24/229.
[39750]:الكشاف 3/158.
[39751]:في ب: أغرقته.
[39752]:في ب: فلما.
[39753]:انظر الفخر الرازي 24/229.
[39754]:في ب: يعلمها.
[39755]:انظر مجاز القرآن 2/98.
[39756]:انظر تفسير غريب القرآن (328-329).
[39757]:ما بين القوسين في الأصل: يعتبر بربط. وفي ب: يعتبرا بربط.
[39758]:انظر الفخر الرازي 24/229.
[39759]:انظر الكشاف 3/158.
[39760]:انظر البحر المحيط 7/106.
[39761]:انظر: مجاز القرآن 2/98.
[39762]:هو فضالة بن عبد الله الليثي، وقيل: ابن بجرة بن بجيرة، ويعرف بالزهراني. الإصابة 3/303.
[39763]:انظر المختصر (11)، المحتسب 2/147-148، البحر المحيط 7/107.
[39764]:انظر المختصر (111)، المحتسب 2/148، البحر المحيط 7/107.
[39765]:انظر البحر المحيط 7/107.
[39766]:المرجع السابق.
[39767]:حكاها قطرب عن بعض أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- المحتسب 2/148، تفسير ابن عطية 11/267-268.
[39768]:ما بين القوسين سقط من ب.
[39769]:البيت من بحر الطويل، قاله طلحة بن خويلد الأسدي. وقد تقدّم.
[39770]:في ب: بقتلى.
[39771]:انظر تفسير ابن عطية 11/286، البحر المحيط 7/107.
[39772]:انظر الكشاف 3/158.
[39773]:وهو قول الكوفيين. انظر البحر المحيط 7/107.
[39774]:في النسختين: والهاء. والصواب ما أثبته.
[39775]:ما بين القوسين سقط من ب.
[39776]:انظر القرطبي 13/256، البحر المحيط 7/107.
[39777]:في ب: أن. وهو تحريف.
[39778]:انظر الفخر الرازي 24/230.
[39779]:في ب: أنها. وهو تحريف.
[39780]:انظر القرطبي 13/256.
[39781]:انظر التبيان 2/1017، البحر المحيط 7/107.
[39782]:انظر التبيان 2/1017.